المسئولية التاريخية لراشد الغنوشي تجاه المراجعات المنتظرة من جماعة الإخوان المسلمين؟

In مقالات رأي by CIHRS

المسئولية التاريخية لراشد الغنوشي تجاه المراجعات المنتظرة من جماعة الإخوان المسلمين؟[i]

بهي الدين حسن[ii]

227

يتناول العدد رقم 70 من دورية “رواق عربي” التي تصدر عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بعض إشكاليات تطور جماعات “الإسلام السياسي” في العالم العربي، وذلك من خلال محاولة الإجابة على عدد من الأسئلة وثيقة الصلة بمسار جماعة الإخوان المسلمين فى مصر، وخاصة منذ انتفاضة يناير ٢٠١١.

تجرى هذه المناقشة بينما تخوض حركة “النهضة” في تونس جدالات فكرية عميقة استعدادا لمؤتمرها العام التاريخي في مايو ٢٠١٦. تتمحور النقاشات التمهيدية للمؤتمر حول مسألة الفصل بين السياسي والدعوى، والتوجه نحو التخلي عن ممارسة النشاط الدعوى لتقوم به جمعيات أهلية منفصلة تماما عن حزب “النهضة”. ومن ثم التحول إلى حزب “مدني” سياسي، أقرب لنمط الأحزاب “المسيحية الديمقراطية” في أوروبا. يقود هذا الصراع الفكري غير المسبوق في داخل جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي منذ نشأتها أوائل القرن الماضي، راشد الغنوشي المفكر والزعيم السياسي التاريخي “للنهضة”[1]. إذا قدر لهذا التوجه “الثوري” تحقيق انتصار حاسم في المؤتمر العام – وهو أمر مرجح – فإن ذلك سيعنى بدء مسيرة الألف ميل على طريق يكف فيه “الإسلام” عن أن يشكل بالنسبة لحزب “النهضة” مرجعا إلزاميًا لبرنامج وسياسات وممارسات الحزب، وخاصة فيما يتصل بنمط نظام الحكم في تونس والنظام القانوني وموقع غير المسلمين والنساء فيه، وغيرها من الأمور الحيوية. وألا يشكل “الإسلام” أكثر من مصدر الهام قيمىي عام للحزب “المجدد”. الأمر الذي قد يفسح المجال أمام “النهضة” لأن تصير تدريجياً الحزب السياسي الرئيسي لليمين المحافظ غير الديني في تونس، وأن تعود للحكم بأغلبية أكبر وبقاعدة اجتماعية أعرض وأكثر رسوخًا.

سبق للكاتب أن نوه عدة مرات، في سياق تقديمه للتقرير السنوي لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان منذ عام ٢٠١١، إلى الدور الحيوي الذي لعبته حركة “النهضة”- بوصفها حركة إسلامية متطورة ومنفتحة للتغيير مقارنة بمثيلاتها في العالم العربي- في المساهمة في إنجاح “النموذج التونسي” في سياق الربيع العربي، مثلما ساهم جمود وانتهازية “جماعة الإخوان المسلمين” في صنع الفشل المرير في مصر. غنى عن القول، أن العامل الحاسم في النجاح في تونس والفشل في مصر، كان لاختلاف الأدوار التي لعبتها نخبة المؤسسة العسكرية في الدولتين في المسارين منذ يناير 2011.

جدير بالذكر، أنه قبل مؤتمرها العام بأكثر من عامين، قامت “النهضة” أيضا بعملية إعادة تقييم شاملة، وبمراجعة عملية لسلوكها السياسي. وقررت “النهضة” بناء على ذلك الاستجابة للمطلب الشعبي الجارف بالتخلي عن الحكم، ومراجعة إستراتيجيتها السياسية وتحالفاتها ومفردات خطابها السياسي. جرى ذلك في ضوء تطورين هامين. الأول هو تصاعد المعارضة الشعبية فى تونس ضد حكومة “الترويكا” التي كانت قد شكلتها “النهضة” بوصفها حزب الأغلبية البرلمانية. والثاني هو الفشل الذريع “لجماعة الإخوان المسلمين” في حكم مصر، وانهيار شعبيتها وإطاحة الجيش برئيس الجمهورية المنتخب.

في مصر عجزت “جماعة الإخوان المسلمين” حتى أن “تلحظ” فشلها السياسي الخاص والذريع، أو أن تدرك لاحقا أسبابه ومسئوليتها عنه، بعد أن اختزلت الانفضاض الشعبي الهائل عنها في مؤامرات أجهزة الدولة العميقة والمؤسسة العسكرية. لم يتأثر هذا الجمود الفكري والعجز السياسي بالإطاحة بحكمها بعد عام واحد فقط، ومذبحتي “رابعة والنهضة” غير المسبوقة فى تاريخ مصر الحديث، التي راح ضحيتها نحو ألف شخص، غالبيتهم من أعضائها وأنصارها، ولا بأعمال القمع الأمني والقانوني والقضائي التي اعتصرت ألوفاً آخرين من أعضائها وأنصارها. بل أدت هذه التطورات الزلزالية، إلى هيمنة سيكولوجية “الضحية” على ما بقى من “عقل” للجماعة. وانحسرت تصورات الاتجاهين البارزين في الجماعة في نطاق رد الفعل، سواء كان “سياسيًا” أم “مسلحًا”.

بالطبع ليس من المنطقي مطالبة جماعة الإخوان المسلمين بأن تنسخ كل مراجعات حركة “النهضة” وأن تتبناها، برغم أن المراجعات ذات الطابع الأيديولوجي المقترحة من “النهضة” على مؤتمرها، تصلح أيضا كإطار للمراجعات ذات الطابع الأيديولوجي المنتظرة من كل جماعات الإسلام السياسي“ المعتدلة” في العالم العربي. ورغم أن كلا من “النهضة” و”الجماعة” ينتميان إلى تيار “الإسلام السياسي”، بل كانت “النهضة” عضوا في “التنظيم الدولي للإخوان المسلمين” تحت قيادة الجماعة المصرية، إلا أن هناك اختلافاً في مستوى تطور المجتمعين المصري والتونسي، واختلافاً آخر في البيئة السياسية والثقافية، وثالث في المسارات السياسية للحزب والجماعة، ورابع في طبيعة الأخطاء الجسيمة المرتكبة. الأمر الذي يفرض طابعًا خاصًا للمراجعات ذات الطابع السياسي، المنتظر أن تشرع فيها “جماعة الإخوان المسلمين” في مصر.

تستوجب الفترة ٢٥ يناير ٢٠١١ إلى ٣ يوليو ٢٠١٣ من “الجماعة” وكل مؤرخ موضوعي وقفة خاصة. فهي تكشف بوضوح لا التباس فيه عن طبيعة الخيارات الإستراتيجية الحقيقية “للجماعة”، التي كانت دفينة في زمن “التقية” قبل الثورة.[2] خلال هذه المرحلة التاريخية صارت “الجماعة” نجمًا صاعدًا ثم ”سيدًا”، تتمتع خلالها بشكل مباشر أو غير مباشر بوزن حاسم في مؤسسات رئيسية لصنع القرار في مصر، مثل لجنة وضع تعديلات الدستور (مارس ٢٠١١) ومجلس الشعب ومجلس الشورى والهيئة التأسيسية لوضع الدستور (٢٠١٢)، وأخيرا التربع على كرسي رئاسة الجمهورية. كانت هناك بالطبع صراعات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي حكم البلاد من ١١فبراير ٢٠١١ إلى ٣٠ يونيو ٢٠١٢. ولكنها كانت تنتهي دائما بتفاهمات واتفاقات معلنة أو غير معلنة، وعلى حساب القوى الرئيسية التي بادرت بانتفاضة ٢٥ يناير. لم يحتدم الصراع بين الطرفين قبل يونيو ٢٠١٣ إلا في وقت متأخر، أي في ربيع ٢٠١٢، عندما تراجعت “الجماعة” عن تعهدها بعدم تقديم مرشح لها في انتخابات رئاسة الجمهورية. بينما طوال العامين الحاسمين التاليين لانتفاضة ٢٥ يناير كان الخطاب السياسي “للجماعة” ومواقفها السياسية اليومية تقدم المساندة للجبهة التي “يحارب” فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة. أي ترويض قوى الإصلاح والتغيير وتقزيمها، وتقديم الغطاء السياسي للمذابح التي نظمها “المجلس” في ماسبيرو ومحمد محمود وأمام مجلس الوزراء وغيرها، ولحملات التشويه ضد شباب النشطاء السياسيين والمنظمات الحقوقية، وأعمال القمع الأمني والقانوني والقضائي ضدهم.

فى هذا السياق، من الضروري “للجماعة” أن تعود أيضا إلى تأمل البرنامج السياسي الوحيد المعلن لها، الذي أزيح الستار عنه في خريف عام ٢٠٠٧. إن أخطر الجرائم ذات الطابع “الأيديولوجي” التي ارتكبتها “الجماعة” خلال وضع دستور مصر ٢٠١٢ تحت هيمنة أغلبيتها في الهيئة التأسيسية، تجد مصدرها في هذا البرنامج، الذي يستوحي نمط حكم شمولي، يوظف فيه الإسلام لضمان وتكثيف الطابع التوليتاري للحكم.[3] لقد زعمت“الجماعة” حينذاك، أنها مضطرة لتقديم تنازلات للسلفيين من أعضاء الهيئة التأسيسية، ولكن الحقيقة الموثقة هي أن “الجماعة” كانت حينذاك تستلهم وتطبق بشكل تدريجي “دستورها” المعلن قبل خمس سنوات.

الطرف الثاني الذي حصل على ما تطلع إليه في دستور ٢٠١٢ هو المؤسسة العسكرية، وخاصة ضمان الدستور “لحقها” في محاكمة المدنيين، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الدساتير المصرية. جدير بالذكر أنه قبل دستور ٢٠١٢ كان يجوز إحالة المدنيين المصريين – بما في ذلك الإخوان المسلمين – للمحاكم العسكرية بمقتضى نص قانوني، ولكن غير دستوري. ولذا كانت هناك طعون محالة للمحكمة الدستورية العليا تطلب بإلغاء النصوص القانونية ذات الصلة المناقضة لدستور ١٩٧١. وقد قام أول برلمان بعد انتفاضة يناير ٢٠١١ بتعديل تلك النصوص القانونية. ولكن دستور ٢٠١٢ أعاد الاعتبار إلى النصوص الملغاة بإباحته محاكمة المدنيين أمام هذا القضاء الاستثنائي، بل وأفسح المجال بذلك لإضافة نصوص قانونية جديدة تبيح إباحة مدنيين لمحاكم عسكرية، وهو ما قام به بالفعل الرئيسين عدلي منصور وعبد الفتاح السيسي بعد ٣ يوليو ٢٠١٣. ولعل ذلك يفسر لماذا لم تسع المؤسسة العسكرية إلى وضع دستور جديد تماما بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين، بل حرصت على أن تتخذ شكل عملية “تعديل” لدستور ٢٠١٢. لقد مكنها ذلك من أن تبعد مكاسبها الإستراتيجية منه عن دائرة الجدال العام، من أجل أن تركز جهدها في الحصول على مكاسب إضافية في الدستور “المعدل”/الجديد. أما من عارضوا بالتظاهر “دسترة” إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية، فما زالوا يقضون عقوبة السجن ٣-٥ سنوات

على الأرجح، سيكون الخاسر الوحيد في أي مراجعة جادة،[4] تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين، هو هيئتها القيادية التي أدارت هذه المرحلة التاريخية، وقادت خلالها الجماعة في عملية انتحار أخلاقي قبل أن يصير انتحاراً سياسياً، لتصبح صيداً سهلاً في مرمى كتائب الإعدام السياسي ثم البدني لأجهزة الدولة العميقة. أما الجماعة ذاتها، فقد تُكتب لها شهادة ميلاد جديدة من خلال هذه المراجعة. ستكون عملية قاسية لاشك في ذلك، لأنها ستتطلب قبل كل شئ القدرة على أن تضع الجماعة نفسها وجهاً لوجه أمام “المرآة”. يفاقم من صعوبة المهمة وقسوتها، هو افتقار الجماعة في هذه اللحظة، ومنذ زمن طويل، لشخصيات قيادية كاريزمية تتمتع باتساع الأفق ومؤهلة لإدارة هذه العملية الإستراتيجية، وقادرة على إنجاز مراجعات جادة بينما في نفس الوقت، تجرى محاكمات متعددة وتعسفية ممتدة لسنوات للقيادة الرسمية للجماعة، في ظروف احتجاز غير إنسانية، وباتهامات أغلبها ملفق لا يصدقها إنسان عاقل، فضلا عن أنه لا صلة لها بالجرائم الحقيقية التي ارتكبتها أبرز شخصيات هذه القيادة.

خلال المرحلة التحضيرية للمؤتمر العام لحزب “النهضة”، كان للمؤلف لقاء خاص مع الشيخ راشد الغنوشى في منزله بتونس العاصمة، حول بعض الإشكاليات المثارة في هذه الافتتاحية، وكذلك حول مسئولياته كمفكر إسلامي مجدد دائما ومتفاعل مع عصره، تجاه جماعات وأحزاب الإسلام السياسي الأخرى في العالم العربي.

[1] يصعب إطلاق صفة “المفكر” على شخصيات قيادية أخرى في جماعات وأحزاب الإسلام السياسي المعتدلة (لا تنتهج طريق العنف المسلح) في العالم العربي.

[2] يقول حسام تمام في بحثه القيم “الإسلاميون ومسارات الثورة المصرية” المنشورة في 07\02\2011: “ثمة شكوك تقليدية في أن الإخوان يظلون دوما أقرب للنظام حتى في خيالهم السياسي، وأنهم دائما راغبون أو أقله قابلون في القرب منه حتى وهم ينتفضون ضده أو على الأدق يشاركون الشارع في الانتفاضة”. http://www.transeuropeennes.eu/ar/articles/246

[3] أنظر تقييم هذا البرنامج، بهي الدين حسن “برنامج حزب الإخوان المسلمين في مصر من منظور حقوق الإنسان” يونيو 2008

https://cihrs.org/?p=2555

 [4]هناك عدد من الجماعات والأحزاب السياسية والشخصيات العامة، التي تصنف نفسها باعتبارها “ليبرالية” أو “يسارية”، تحتاج أيضا الشروع بمراجعة جادة لمسارها السياسي وسلوكها القيمي، وخاصة منذ الثالث من يوليو ٢٠١٣.

[i]  مقدمة العدد 70 من دورية رواق عربي الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

[ii]  مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

Share this Post