نحو معاهدة ملزمة للشركات عبر الوطنية والمؤسسات التجارية الأخرى فيما يتعلق بحقوق الإنسان والاستجابة لأزمة كوفيد-19

In البرنامج الدولي لحماية حقوق الإنسان by CIHRS

من أجل غدٍ أفضل

نحن، المنظمات الحقوقية الموقعة أدناه، وجميع أعضاء تحالف المعاهدة (Treaty Alliance)، نشعر بقلق بالغ إزاء الوضع الصعب الذي أسفرت عنه جائحة كوفيد-19 والأثر الاقتصادي والاجتماعي للتدابير المعتمدة لاحتواء انتشار العدوى، بما في ذلك التأثير التمييزي الواقع على النساء. ونعرب في هذا الصدد عن تضامننا بشكل خاص مع المتضررين من تدابير الإغلاق، وملايين الأشخاص المهمَّشين الذين اجتمعت عليهم ظروف الضعف والمعاناة والمرض، وهم لا يملكوا رفاهية التباعد الجسدي.

هذا الوباء المستجد اثبت بشكل قاطع صحة تحليلاتنا التي نطرحها بشكل جماعي منذ سنوات، بأن المخاطر والتهديدات الشديدة التي تواجهها مجتمعاتنا اليوم في مواجهة الوباء ترتبط ارتباطًا وثيقًا بإخفاق أنظمتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في إعمال حقوق الإنسان وحماية البيئة. فعلى مدى سنوات كنا نسلط الضوء على إشكاليات نظام العولمة المالية، الذي أدى إلى تفاقم انعدم المساواة بين البلدان. فأضحت مجتمعاتنا غير مهيأة لمواجهة مثل هذا الوباء، وذلك نتيجة مجموعة من الإخفاقات الكبرى، وعلى رأسها رفع القيود عن خطط تعديل العولمة، وتركز جميع القوى في يد الشركات عبر الوطنية ومؤسسات الأعمال خلال العقود الأخيرة. الأمر الذي حاولنا عرضه وكشفه في سياق المفاوضات الحكومية الدولية الحالية بشأن الصك الملزم للشركات عبر الوطنية وغيرها من مؤسسات الأعمال، تحت رعاية مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في جنيف.

لقد تسبب الاستيلاء على الموارد الطبيعية، والذي لا تحده قيود، في كسر الحدود بين النظم البيئية، وزاد من انتقال الأمراض. كما ساهمت حلول السوق وعمليات الخصخصة المفروضة على قطاعات الصحة العامة والرعاية والحماية الاجتماعية بشكل كبير في إضعاف الصحة العامة والرعاية الاجتماعية، حتى في البلدان المجهزة بالنظم الصحية الوطنية، ما تسبب بشكل كبير في إضعاف استعدادات وقدرات معظم الدول على الاستجابة لتحدي الوباء المستجد.

وفي السياق نفسه، قلّل نظام تصنيع وعولمة النظم الغذائية من قدرة منتجي الأغذية المحليين على توفير الغذاء الصحي لسد احتياجات الناس محليًا، بينما يزيد الطعام المعالَج بشكل مفرط من خطر تعرض الأشخاص للإصابة بكوفيد-19، سواء من المنظور الصحي أو المالي. ففي خضم أزمة الغذاء التي تلوح في الأفق، تم التضحية، بسبب إجراءات الإغلاق، بالإنتاج الزراعي للمزارعين المحليين – والذي كان يوفر ما بين 70٪ إلى 80٪ من الغذاء الصحي في جميع أنحاء العالم. كما تسببت تدابير الوقاية من العدوى في معظم البلدان في تعزيز سلاسل الأغذية الزراعية الكبرى، التي لم تسهم بأي شكل في مواجهة المخاطر.

يأتي هذا في الوقت الذي تسببت فيه مرونة سوق العمل العالمي في مضاعفة أعداد العمال غير الرسميين، الذين أصبح فقدانهم للأمان مجرد عرَض جانبي لوباء كوفيد-19. الأمر الذي يؤثر بشكل خاص على النساء، اللواتي يعملن بشكل رئيسي في أكثر الوظائف غير المنتظمة والخطرة، بما فيها الوظائف المفوضة لأطراف خارجية. فعلى سبيل المثال، أضحى العمل في المنازل من أكثر الوظائف تأثرًا بسبب الجائحة، وكذلك وظائف قطاعي التجارة والخدمات، ما يزيد من الفجوة الحالية في الأجور بين الجنسين. إذ فقد الملايين من هؤلاء دخولهم منذ بداية تفشي الوباء، مما أدى لتفاقم ظروف حياتهم الشخصية والعائلية والمجتمعية. وفي ظل غياب الرعاية الاجتماعية، ينزلق الملايين منهم (سواء العمال الرسميين أو غير الرسميين) إلى الفقر أو الفقر المدقع.

كما تسببت رقمنة التعليم خلال الإغلاق – والتي تتطلب معدات خاصة لا يستطيع الكثيرون تحمل نفقاتها – في استبعاد واسع للعديد من غير القادرين من الأطفال على تحمل تكاليف الأدوات المستخدمة في التعلم خلال هذه الحالة الطارئة. وفي المقابل، زاد عبء الرعاية على كاهل النساء (الأمهات). وحتى في البلدان التي يتاح فيها الخروج والتنزه في الأماكن العامة، فإن الافتراض العام هو أن النساء سيقبعن في المنازل أثناء الإغلاق لرعاية الأطفال وتقديم الدعم للأسر. وفي هذا الصدد توفر البيانات المتاحة على المستويات الوطنية أدلة متزايدة على أن استبدال الحضور المادي في أماكن التعليم بخيارات تكنولوجية هو محرك إضافي للتمييز في ضوء الفجوة الرقمية وأزمة الرعاية اللذان يظلان دون معالجة.

أن الأولوية التي تعطيها بعض الحكومات للنفقات العسكرية ولأغراض التأهب للحرب في ميزانياتها الوطنية، بما في ذلك دعم قطاع صناعة السلاح الذي لا يعاني أبدا من أزمات وتخصيص موارد هائلة لقطاع الدفاع، قد أدى إلى هيكلة الميزانيات الوطنية والقطاعات الصناعية وفقًا لأولويات لا داعي لها. وذلك نتيجة للاستيلاء على شركات الدولة، وقطاع صناعة الأسلحة، والصناعات الاستخراجية، وقطاعات التصنيع الرئيسية الأخرى. هذه السياسات انتهكت حقوقنا الإنسانية، بالاستغلال والحرمان، والانتهاكات المباشرة لحقوق الإنسان والبيئة، وهيمنة الشركات على السياسات العامة. هذه الشركات لا يعنيها إلا الحفاظ على نظام اقتصادي مهيمن يعطي الأولوية للربح على حساب حقوق الإنسان.

هذه الاستراتيجية لم تكشف فقط عن ضعف أو انعدام قدرة الدول على توفير الأدوات الصحية الضرورية لاحتواء أزمة الوباء، ولكنها أيضًا عرّضت بشكل مأساوي قدرات الدول المادية والمالية للخطر، كما حدت على نطاق واسع من قدرتها على الاستجابة الاجتماعية الضرورية لاحتياجات النفقات والتحويلات.

في هذه الظروف غير المسبوقة تواجه الحكومات خيارات صعبة، وتضطر للتعامل مع إرث من سلوكيات الشركات المسيئة التي لم تتمكن الدول من التحكم فيها أو ربما لم تكن راغبة في ذلك رغم تأثيرها السلبي على حقوق الإنسان والبيئة، ولكن تفشي وباء كوفيد- 19 فرض ضرورة لإنهاء ذلك، لصالح السعي المجتمعي لاستعادة المسئولية عن المصالح العامة.

تشير بعض الشهادات حول العالم إلى إساءة بعض الشركات العاملة في المشاريع الاستخراجية استغلال حالة الإغلاق لتخطي شروط وأحكام الموافقة المسبقة والمستنيرة من السكان المحليين. وأشار شهود آخرون إلى استفادة البعض من الأزمة الصحية لدفع أجور أقل لصغار منتجي الغذاء، في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار السلع في كل المدن بحجة الإغلاق. وكشفت مجموعات أخرى عن تحيز كبير من جانب التدابير الوطنية لمواجهة الوباء لصالح الصناعة الزراعية وقنوات توزيعها، في حين أن الدعم المقدم للفلاحين يأتي في الغالب من خلال خطط التأمين الخاصة. وفي هذا الصدد تشمل انتهاكات حقوق المزارعين تمديد فترات العمل، إلى جانب الإهمال التام لأوضاع الإسكان السيئة، وعدم كفاية الغذاء، وتدني الخدمات الصحية، وانتهاك اجراءات التباعد المفروضة من الحكومات، فضلاً عن حالات فصل جماعي للعمال.

على الجانب الأخر، شهدت العديد من شركات التكنولوجيا في أعقاب كوفيد-19 طفرة في أعمالها. إذ حصلت بعضها على بيانات شخصية ضخمة للمستخدمين تمكّنها من تعقب الأشخاص وانتهاك حقهم في الخصوصية. وفي المقابل، تقييد أو تعليق الحق في الوصول للمعلومات، بسبب السياسات التي تتأثر بشكل كبير بضغط الشركات على الساسة. وهذا يخلق عقبة كبيرة في طريق حماية الأشخاص الذين تُنتهك حقوقهم وسبل الإنصاف.

وقريبًا يأتي الاختبار الأهم لإرادة وقوة الحكومات إزاء قطاع الشركات عبر الوطنية في سياق كوفيد-19، فيما يتعلق بسبل الوصول للسلع والمعدات الصحية الأساسية – مثل اللقاحات والأدوية والأجهزة الطبية – التي سيتم تطويرها وإنتاجها للسيطرة على الفيروس الجديد ومكافحته. إذ يبدو أن شركات الأدوية قد اتخذت بالفعل خطوات في بعض البلدان للاستفادة من السباق الحالي للوصول لعلاج لكوفيد-19، من خلال استغلال نفوذهم لمعارضة تدابير الحكومات لتسهيل إجراءات تسجيل براءات الاختراع الاستثنائية، ومعارضة أي تدابير حكومية دولية جماعية لتطوير وإنتاج اللقاحات والأدوية كسلع متاحة للعامة تحت رعاية منظمة الصحة العالمية.

يسمح النظام الاقتصادي الحالي للشركات الكبرى بتخصيص قدر كبير من التمويل للتخفيف من آثار إجراءات الإغلاق والأزمة الاقتصادية المتوقعة بسببه. في هذا السياق، تؤثر الشركات بشكل كبير على القرارات التشريعية الوطنية والدولية، في محاولة للحفاظ على هوامش ربحها العالية.

لقد جاء كوفيد-19 بدروس عديدة لا تقبل الجدل، تتقاطع جميعها في اتجاه واحد، ألا وهو أهمية إدخال وتطوير الأطر القانونية على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية لضمان مساءلة الشركات عبر الوطنية فيما يتعلق بحقوق الإنسان والبيئة. وفي خضم هذا الجهد العالمي من أجل تعزيز قدرة الحكومات على وضع وفرض المعايير والتغلب على نظام تحرير الضوابط، يجب أن تستمر عملية التفاوض حول الصك الملزم بشأن الشركات عبر الوطنية والمؤسسات التجارية الأخرى فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

نحن بحاجة إلى معايير جديدة للتعامل مع الوضع الحالي، وترتيبات ملزمة قانونًا يتم من خلالها التعامل بشكل حقيقي مع الحق في الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية، والحق في الغذاء والماء، والحق في التعليم والعمل، والحق في بيئة صحية، والحق في المعلومات، والحق في الخصوصية، والحق في حرية التجمع، وجميعها حقوق يجب تعزيزها وحمايتها من قبل الدولة، كعناصر رئيسية في أي تغيير جوهري نربو إليه سعيًا لتحقيق الديمقراطية والتنمية المستدامة. فإذا كنا جادين بشأن تحقيق التنمية المستدامة لعام 2030، فإن الصك الملزم قانونًا للشركات عبر الوطنية والمؤسسات التجارية الأخرى فيما يتعلق بحقوق الإنسان هو الخطوة الملموسة التي نحتاجها من أجل التحرك تجاه العدالة وسيادة القانون والاستدامة الحقيقية للجميع؛ فذلك هو أفضل لقاح لمنع الأوبئة.

التغيير المنشود لن يحدث من تلقاء نفسه. لكن كوفيد-19 يتيح فرصة استثنائية لتبني خبرات ومعارف المجتمعات والحركات الاجتماعية بشأن تشكيل المجتمعات الجديدة، حيث الأولوية لحقوق البيئة وكرامة البشر وليس لأرباح الشركات. فبعد كوفيد-19، أصبح من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، مشاركة المجتمعات والحركات الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني في صياغة المعاهدة الملزمة، أو أي طريق معياري مماثل على المستوى الوطني أو الإقليمي. فهؤلاء الذين عانوا أسوأ آثار الوباء، هم أيضًا من دعموا وساندوا أكثر الناس احتياجًا خلال الوباء. لذا فهم الأولى بالاستفادة بشكل عملي من أي تغيير للقواعد الأساسية نحو مجتمع منضبط، في خضم وضع يزيد فيه التمييز والتفاوت.

لقد كشفت أزمة كوفيد-19 عن حاجتنا إلى آليات مساءلة فعالة في مجتمعاتنا. لذا، نحث جميع السلطات الوطنية، وخاصة وفود الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان، على بذل كل الجهود الممكنة لمواصلة التقدم نحو اعتماد صك ملزم بشأن الشركات عبر الوطنية، وتعزيز المسار الدبلوماسي، وضمان المشاركة الفعالة من تلك الجهات التي تسعى حقًا إلى الديمقراطية والمساءلة والمصلحة العامة. كما يجب أن تمهد هذه العمليات الطريق لتشكيل وضع جديد يمكّن أجيال الحاضر والمستقبل من التمتع بثمار التزامات الدول المنصوص عليها في تشريعات الحقوق وفي دساتيرنا الوطنية.

للإطلاع على المؤسسات الموقعة هنا

 

Share this Post