”رجل القرن الحادي والعشرين المريض“ لن يموت بسلام

In مقالات رأي by CIHRS

بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان. يقيم منذ 6 سنوات في منفي بفرنسا. حكم عليه مؤخرا في قضيتين مسيستين متواليتين خلال 11 شهرا، بالسجن ثلاث سنوات ثم 15 عاما، بسبب انتقاده الدائم لانتهاكات حقوق الانسان في مصر ولفشل القضاء في حماية الضحايا وعقاب الجلادين

رغم أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي الأقل تضررا بكوفيد 19 من بين مناطق العالم باستثناء أفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن التبعات الاقتصادية والسياسية للوباء تنذر بكارثة فادحة و“طويلة الأمد“، تتجاوز في آثارها وتبعاتها المنطقة ذاتها، وقد تشمل موجات جماعية جديدة من اللاجئين والمهاجرين وأخرى من الإرهاب. هذه التبعات دعت الأمين العام للأمم المتحدة لإصدار استغاثة في صورة تقرير، وسبقه في ذات الاتجاه صندوق النقد الدولي، الذي أزعجته المؤشرات الاقتصادية غير المتوقعة، والتي ”انخفضت إلى أدني مستوي تصله منذ خمسين عاما“، مما اضطر الصندوق أن يصدر تقريره مبكرا بثلاثة شهور. الأمر لا يتعلق بالوباء ذاته، بل بكيف أن تبعاته الاقتصادية المتمثلة في انهيار أسعار النفط وانكماش النشاط الاقتصادي فاقمت من تأثير خطورة الخلل الهيكلي الفادح في بنية النظام الاقتصادي وأنماط النمو المشوهة السائدة في المنطقة، سواء في الدول المصدرة أو المستوردة للنفط. وكذلك فاقمت التأثير السلبي الفادح للنظم التسلطية على التطور الاقتصادي والإنتاجية سواء في الدول المحكومة بنظام جمهوري أو ملكي. وهو الأمر الذي سبق أن سلط الربيع العربي الأضواء عليه منذ تسعة أعوام.

نتيجة لذلك الخلل الهيكلي، من المتوقع ضياع 17 مليون فرصة عمل ليتجاوز عدد العاطلين أكثر من ثلاثين مليونا، وينسلخ 14.3 مليون شخص من الطبقة الوسطى لينضموا لصفوف الفقراء، ليرتفع مجموعهم إلى 115 مليونا، أي ربع سكان المنطقة. ذلك لا يعني أن المنطقة العربية مقبلة علي موجة ثالثة من الربيع، بل على الأرجح سيشكل ملايين العاطلين والفقراء الجدد وقودا لفترة ممتدة من الفوضى وتزعزع حكم القانون، في سياق من ”الاحتجاجات الاجتماعية“ و”عدم الاستقرار السياسي“، مما قد يمنح فرصا أفضل ”لانتشار التطرف وتجنيد الإرهابيين وتعبئتهم“. ما يرفع هذه الكارثة الاجتماعية إلى صعيد كارثة سياسية كبرى وربما إنتاج دول فاشلة، هو تزامنها مع أزمة حادة في ”الثقة رأسيا بين المواطنين والدولة“ وأفقيا بين الفئات المختلفة من المواطنين أنفسهم، في منطقة تتسم بأنها الأعلى في ”عدم المساواة في العالم“. تتمثل أبرز مظاهر أزمة الثقة في عدم تمكين المواطنين والخبراء الاقتصاديين من الوصول إلى المعلومات. يقول البنك الدولي إنها المنطقة الوحيدة في العالم التي تشهد انخفاضا مطلقا في الشفافية. هذه ليست مشكلة سياسية وحقوقية فقط، بل اقتصادية في المحل الأول. فالقيود العتيقة على تداول المعلومات تضلل واضعي الخطط الاقتصادية على صعيد الدولة وكذلك على صعيد المشروعات الاستثمارية العامة والخاصة. ومن ثمة تسهم في الانخفاض المزمن لمعدل النمو في المنطقة، مما جعلها ”أقل ثراء بنسبة 20٪ عما كان يفترض“ أن تكون عليه. الأمر الذي أدى ”لإنقاص نصيب الفرد من الدخل بنسبة تتراوح بين 7٪ و14٪“ وبالتالي فإن تقييد تداول المعلومات في العالم العربي يكون قد أدى إلى زيادة إفقاره.

رغم أن المنطقة العربية هي أكبر مستورد للسلاح في العالم، إلا أنها لذات الأسباب الاقتصادية والسياسية التي أطلقت الربيع العربي صارت رجل العالم المريض، الذي تنهش دول أخرى في جسده. في القرن التاسع عشر، أطلق نيكولاي الأول قيصر روسيا علي الدولة العثمانية لقب “الرجل المريض“، حين ضعفت وبدأت الدول المحيطة التهام مناطق نفوذها. تركيا تتمدد اليوم اقتصاديا وعسكريا على حساب مريض القرن الحادي والعشرين. فتتواجد بجيشها في سوريا والعراق وليبيا وتنقل معه فرقا من المرتزقة السوريين العابرة للحدود. تركيا آخر الطامعين، فقد سبقتها إيران التي تدير في اليمن صراعا مسلحا على السلطة من خلال ميلشيات الحوثي الحليفة، وتهيمن على القرار السياسي والعسكري والأمني في لبنان من خلال ميلشيات حزب الله الشيعي، وتتقاسم السلطة في العراق من خلال استنساخ نموذج حزب الله في عدة ميلشيات شيعية مسلحة تأتمر بأمرها، وتنقل قسما من هذه الميلشيات معها إلى جانب حزب الله اللبناني إلى سوريا لمساعدة ”الحرس الثوري“ الإيراني في مساندته للرئيس بشار الأسد في حربه”المقدسة” من أجل إعادة هندسة تكوينها العرقي والديني، باستخدام القصف الكيماوي وبراميل البترول والقمع اليومي بلا هوادة.

روسيا قفزت أيضا لتدعم الأسد، وتقتطع لنفسها قاعدة عسكرية على ساحل سوريا المتوسطي، بينما ترتكز في ليبيا على تواجد نشيط لمرتزقتها من روس وسوريين المعروفة ”بفاغنر“. إسرائيل بدأت هذا الطريق مبكرا، حين أنشأت مستوطنات على الأراضي التي احتلتها في مرتفعات الجولان السورية والضفة الغربية في 1967، ثم ضمت الجولان، بينما تواصل الضم الفعلي للضفة الغربية من خلال فرض وقائع جديدة كل يوم على الأرض. وحتى من داخل المنطقة العربية، طورت الإمارات العربية المتحدة سياسة عدوانية. ففي إطار تحالفها العسكري مع السعودية لمساندة الحكومة المعترف بها دوليا في اليمن في مواجهة الميلشيات الحوثية، انفردت بتعزيزها للانفصاليين في جنوب اليمن ضد الحكومة الشرعية، ودعمت عسكريا ما يسمى ”الجيش الوطني الليبي“ بقيادة المشير خليفة حفتر في تمرده على الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة، وأنشأت قاعدة عسكرية لها داخل ليبيا لهذا الغرض. الاتفاقية الإمارتية-الإسرائيلية هي إعلان غير مباشر بوفاة الدور المصري الإقليمي، وتعبير عن يقين أطرافها بأن مصر لن تطفو من جديد. غرض الاتفاقية يتجاوز مهمة ”تطبيع“ علاقات بدأت بالفعل منذ نحو عقدين، ليؤسس لتحالف مشترك لمواصلة ذات النهج العدواني للدولتين في إقليم مريض يشكو فراغ القوة ويستحث الآخرين على ملئه.

خواء البنيان الاقتصادي وضعف الإنتاجية والهشاشة السياسية لدول المنطقة لا تكفي لتفسير هذه الكارثة المركبة. فلم يكن ذلك ممكنا بدون أيضا فراغ القوة الناجم عن انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية سياسيا من المنطقة، الذي بدأ في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما وتعزز تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب. وأيضا لولا سياسات قيادة الاتحاد الأوروبي قصيرة النظر التي راهنت على ديمومة استقرار هش توفره أنظمة حكم تقوّض كل أسس استقرار بعيد المدى لدولها وللمنطقة، وأيضا للعالم.

إحدى أهم الحقائق التي كشف عنها الربيع العربي هو أن العقد الاجتماعي الذي وُلد منذ نحو 70 عاما قد انتهت صلاحيته. لذا ربما لا يكون مثيرا للدهشة أن تتبنى ثلاث مؤسسات دولية معروفة بخطابها المحافظ توصيات ذات طابع راديكالي، بل وتطالب “بإعادة البناء“ و”بعقد اجتماعي جديد“. غير أن الأمم المتحدة تحتاج أيضا لإعادة هيكلة دورها في المنطقة العربية في ضوء تقريرها، بما في ذلك العودة للمقترح الذي سبق أن قدمته للأمين العام منذ 6 سنوات، بما يساعدها ويساعد المنطقة على تفعيل توصيات تقريرها. كما تحتاج الإدارة الأمريكية الجديدة لإعادة تقييم سياسات الإدارتين السابقتين في المنطقة في ضوء هذه التقارير. كذلك أوروبا التي تحتاج لمراجعة توجهاتها تجاه العالم العربي واعتماد سياسات يمكن أن تساهم في وضع المنطقة الجارة على طريق استقرار مستدام.

الوجه الآخر لتبني مؤسسات دولية محافظة مطالب شبه ”ثورية“ هو الروح اليائسة التي تفوح من بين سطور هذه التقارير إزاء إمكانية تجاوب الحكام العرب مع مطلب مزمن متكرر بالإصلاح. لذا، فإنه يبدو واضحا أن هذه التقارير لا تخاطب هؤلاء الحكام، بل تبعث برسالة تحذير ضمنية مشتركة للمجتمع الدولي بأن ”رجل العالم المريض“ لن يموت في هدوء.


المصدر: جريدة OrientXXI

Share this Post