فقه المحاكمات الأدبية والفكرية

In مقالات رأي by CIHRS

محمد حلمي عبد الوهاب
حاصل على دكتوراه في الفلسفة الإسلامية ومدير تحرير مجلة رواق عربي

كتاب “فقه المحاكمات الأدبية والفكرية.. دراسة في الخطاب والتأويل” للباحثة المغربية وفاء سلاوي، الصادر عن “مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان” إبريل 2007م هو في الأصل رسالة دكتوراة تتناول عددًا من الإشكاليات القانونية والمرجعية فيما يتعلق بالحريات العامة تجاه عدد من المحاكمات الفكرية، مثل: محاكمة الدكتور طه حسين في موضوع الشعر الجاهلي، والدكتور لويس عوض في فقه اللغة العربية، كما يضم الكتاب لائحة ببعض الأعمال الفنية والفكرية التي تعرّضت للمحاكمات وللمصادرات.

فضاءات الحرية

في البداية شكل الخطاب في مختلف تمظهراته -وعبر مراحل تاريخية طويلة- أفقًا رحبًا للعقل والأحاسيس البشرية وملتقى تقاطعات جامعة داخل المحيطات الشعبية، وأيضا للرسمي بقنواته، فتارة ينفتح وينغلق، وتارة أخرى يخبو ويتطور، وهو ما أفرز معه عددًا كبيرًا من الأنظمة المتغيرة بخصوص التلقي والتأويل، يمكن رصدها في ثلاثة أشكال أولية:

أولا: انتقال الخطاب من الشكل البسيط إلى المعقد، ومن الإيماء إلى الكلمة الشفوية، ومن القول العادي إلى المكتوب الفني الإبداعي.

ثانيا: دخول الكتابة والقراءة ضمن منظومة التعدد والاختلاف على مستوى الفهم والتأويل، بسبب انزياح الدليل عن الوظيفة التواصلية العادية، حيث يحمل الدال في الخطابات مدلولات عديدة، تعكس -في الأساس- درجات متفاوتة من التلقي.

ثالثا: تعرض العديد من الكتابات إلى الاضطهاد والامتحان نتيجة تأويلات سلطوية ارتبطت بالسياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي مثّل مرجعا أساسيا لقراءة وتأويل النصوص من زاوية رؤية تجريمية للفعل التعبيري.

فتاريخ التعبير الإنساني مشحون بكافة أشكال الصراعات والمواجهات بين ما هو حديث وقديم، ففيما يسعى الخطاب الحداثي إلى تفكيك الأنماط الأساسية وتكسير التابوهات التقليدية وطرح الأسئلة المشككة تجاه البنى المستقرة في المجتمع، يصر الاتجاه القديم على تكريسها واستمرارها.

من جهة أخرى، لم يعرف التاريخ قوانين وتشريعات مكتوبة تكفل حرية التعبير والرأي أو تمارس الزجر والعقوبة، وإنما كانت هناك ردود أفعال مباشرة ضد الكتابات المثيرة للجدل عند الحاكم ومستشاريه أو بين الفقهاء والطبقة الدينية، بخصوص الكتابات التي نحت نحو الهجاء الشخصي أو بسبب الحديث فيما هو ديني أو سياسي بشكل متحرر عما هو متعارف عليه.

وضمن هذا السياق، تعرض شعراء وعلماء وفقهاء ومتصوفة لمحاكمات شتى بسبب أفكارهم واجتهاداتهم، فألصقت بهم تهم الزندقة والإلحاد واحتقار الدين. أو بسبب الوقوف على الضد من أيديولوجية الدولة الرسمية، مثلما حدث إبان محنة خلق القرآن في عهد المأمون بصفة خاصة.

أشكال رقابية

وضعت السلطتان الدينية والسياسية قيودًا وقائية واحتياطية نحت نحو تجديد وتطوير آليات الرقابة على أنواع الكتابة لإفراغها من عمقها ومدلولها الحقيقي الذي من شأنه أن يعارض أو يناقض ما هو سائد ومتعارف عليه، ويمكن حصر أشكال الرقابة فيما يلي:

1- الإحراق: وكان يتم بشكل علني وفي ساحات عمومية، وقد سجلت أول حادثة لإحراق الكتب حوالي 481-411 ق.م حينما أحرقت كتب الفيلسوف بروتاغورا لاتهامه بالتشكيك في وجود الآلهة.

2- الرقابة الوقائية: أي رقابة الكتب والمنشورات قبل الطبع، فلا يصدر منها إلا تلك التي تحمل ختم “لا مانع”، وتم الاعتماد على هذا النظام عام 1485م على يد أحد الأساقفة.

3- إرغام أصحاب الكتب الممنوعة على التنكر لأفكارهم ومعتقداتهم وإعلان التوبة.

4- مصادرة الكتب والمنشورات وجمع نسخها من المكتبات ومراكز البيع.

5- إسقاط أسماء المؤلفين وعناوين كتبهم من الأعمال البيبلوغرافية ومن قواميس الأعلام والمؤلفات المرجعية الأخرى.

6- منع إدخال الكتب المحظورة.

وقد توالت إشكالية ملاحقة المبدعين والمفكرين بحدة، في العصر الحديث، ذلك أن الخطاب في العالم العربي مر بتحولات داخلية وخارجية، متأثرًا بالتطور الحضاري الذي عرفه الغرب على مستوى المناهج والعلوم والخطابات الفاعلة في النهضة والتقدم، وازاه توالي النكبات والهزائم على صعيد العالم العربي، تاركة ندوبها في الفكر والذات العربيتين.

وبذلك أنتجت التحولات الداخلية والخارجية التي واكبته، خطابات النقد والبحث عن أدوات تجريبية جديدة جاءت كنتيجة حتمية لضرورة فرضتها حركة التطور واكتشاف الذات والآخر، وتولدت عنها رغبة ذاتية للكشف والمغامرة واختراق الممنوع والمسكوت عنه.

مثلما ساعدت التحولات التاريخية المثقف العربي، على صياغة خطابات ذات منظومات فكرية وإبداعية تؤسس واقعا جديدا يعبر عن أزمة ماض منحسر وحاضر لا يوفر البديل، ويعمل على إعادة صياغة مفهوم الهوية العربية، كما يحاول الإجابة على كافة الإشكاليات الملحة في الإطار الفكري ويصوغ رؤية جامعة للأحلام والمتناقضات على مستوى التعبير الفني.
وقد رافق هذا التحول مستويان متباينان في القراءة:

• التعبير بجرأة عن الذات والواقع عبر النقد والمكاشفة واجتراح الواقع بالأسئلة.

• مراقبة هـذه الخطابات ومحاصرتها بواسطة الرقابة المباشرة أو غير المباشرة وتعريضها للمساءلة القضائية.

والكتاب دراسة لغوية تأويلية متعلقة بالخطاب تأليفا وتأويلا ونسقا تداوليا، ثم التعامل مع النص القانوني باعتباره حكما وقراءة على نص إبداعي متخيل أو نص نقدي وفكري يطرح أسئلة وافتراضات نسبية تؤسس لمتخيل، ووجهة نظر ووعي محقق من جهة أخرى. ومن ثم، فالنص القانوني ليس إلا قراءة معيارية؛ الأمر الذي يحتاج معه إلى مزاوجة قراءة نقدية أخرى للنصين وشروط إنتاجهما.

استند التحليل الذي قامت به المؤلفة في تفكيك البنيات الخطابية، على مقاربة المكونات الثلاثة انطلاقا من أحكام صدرت في حق نصوص أدبية من مثل: ألف ليلة وليلة، في الشعر الجاهلي لطه حسين، ومقدمة في فقه اللغة العربية للويس عوض، كما تم الرجوع إلى أحكام أخرى باعتماد مقاربة تقوم على معطيات ومفاهيم في قراءة التأويل والتأويل النصي واختبار بعض المفاهيم القانونية، ومساءلة النص والحكم تجاهه، بقصد إبراز نوعية القراءة والتشكل الخطابي للقراءة القانونية، من أجل التوصل إلى الكشف عن بنيات هذا الخطاب، ومحاورة النصوص المؤولة لتفكيك هذه المحاكمات واستخلاص القانوني من السياسي فيها.

إشكالية نص أم قراءة؟

من بين الخطابات التي عبرت بوضوح عن هذين المستويين في القراءة والتأويل، الخطاب الأدبي الذي استطاع استيعاب وتمثل الواقع والتعبير عنه بالكشف عن مظاهر الفشل والقوة فيه ونقد النهج السياسي العربي والنظرة التقديسية للدين، إضافة إلى إبراز الوجه الحقيقي للعلاقة بين الفرد والمؤسسات السياسية والدينية والاجتماعية والقانونية.

وقد شكل الخطاب الأدبي المعاصر بأجناسه وأنواعه نموذجًا لثراء النصوص الغنية بتأثير المرجعيات من مثل: خطابات الأزمة والهوية والقومية، خاصة فيما يتعلق بمسألة إعادة بناء نفسها، وإعادة صياغة العالم وفق رؤية جديدة تستوعب التغيرات المتسارعة المختلفة التي حدثت في العالم العربي.

ساهمت هذه الرؤية في جعل الأدب يرتبط بأسئلة النهضة، والبحث عن قوالب جديدة تواكب مشروعه النهضوي. رافق ذلك حركة التجديد في أغراض الشعر وصوره وبنياته، وطرح صيغ تركيبية من خلال ثورة الشعر الحديث الذي كان نتاجًا لفكر عربي يتنامى إزاء أزمة الواقع العربي، فاستطاع أن يجسد الذات العربية وطموحاتها وإخفاقاتها، وأن يعبر عن علاقته بالماضي والحاضر والمستقبل من خلال نموذج جمالي مختلف.

كما أفلحت التجربة السردية في تكسير القواعد، وخلق تجارب جديدة للإبداع وتشخيص الواقع العربي المأزوم. ولعل تبلور الرواية وتحول مسارها نحو التجريب، ثم الارتباط بحساسيات متنوعة يرجع إلى طبيعة اللغة التي قادت نحو ابتداع أساليب في الكتابة وفتح آفاق ومسارب جديدة لاحتواء تعدد الدلالات والمضامين مقابل الدلالة الواحدة.

وبذلك وضع الأدب نفسه في مواجهة مع المؤسسات الحيوية، خاصة السياسية والدينية والاجتماعية، من خلال زعزعة الثوابت الشكلية وتفجير الذات عبر تغيير شكل النص وخلق أساليب لغوية جديدة، إضافة إلى قدرة اللغة الإبداعية على الانفلات من مراقبة السلطة السياسية التي لا تكف عن خنقها وترويضها.

في هذا الإطار، سعى الأدب إلى تطويع اللغة بشكل خفي عبر النماذج البلاغية والأسلوبية والأنساق الدلالية، التي تتضمن كل واحدة منها تصورًا للعالم ورؤى اجتماعية مختلفة، وهو ما تعبر عنه جوليا كريستيفا بقولها: “هكذا نفهم لماذا يكون كل تحول اجتماعي يرافقه تحول بلاغي بمثابة قانون مضموني ويكون كل تحول اجتماعي، بمعنى من المعاني، انتقالا بلاغيا بكيفية عميقة”. مبرهنة على ذلك بالدور الذي لعبته الثورة الفرنسية في خلق لغة وبلاغة جديدتين زعزعتا اللغة الفرنسية في القرنين السابع والثامن عشر.

وقد رافق هذا التطور وجود قوانين تحد من انتشار طرق التعبير المختلفة، حيث حصرت في فصولها وموادها الوسائل والطرق وكيفية النشر عبر التراخيص والمراقبة الإدارية… إلخ.

مشروعية القوانين الحاكمة للنصوص

وفي الاتجاه ذاته، اجتهد المشرع في صياغة مواده ونصوصه، متتبعا الأفكار العامة التي تنادي بها المعاهدات والمواثيق الدولية وكذا المنظمات الحقوقية الرسمية وغير الرسمية على مستوى التنظيم والعقاب. ومن ثم، يخضع النص الأدبي للمحاكمة نتيجة لأن بنيته الفكرية خلخلت المجالين الديني والسياسي معا، سواء أكان ذلك عن حق أو عن باطل، فكانت جل المؤلفات أو المقالات المحاكمة تطمح إلى مجاوزة التسييجات التي يفرضها الديني والسياسي في هذا البلد أو ذاك؛ وهو ما أدى إلى حتمية الصدام بينهما.

الخطاب الديني أو السياسي -في مواجهتهما للنص المجازف- عمدا إلى بيان أن هذا النص يمثل خرقا يقود إلى المحاكمة، ومن ثم، يصبح موضع اتهام في مواجهة الخطاب القانوني، هذا الأخير الذي راح يتشكل من عناصر ومراحل تجعل منه جمعا بصيغة المفرد؛ إذ المقصود بالخطاب القانوني كل المراحل التي يتم فيها استدراج الأدبي والفكري إلى المحاكمة بدءا بالبلاغ وانتهاء بنص الحكم.

النص القانوني إذًا هو خطاب تقييمي وبنية نقدية من مستوى آخر، ذات طرائق في القراءة والتأويل بأبعاد متعددة، خاصة أن هذا الخطاب يندرج ضمن نسق الخطابات القانونية التي توجد كثقافة في أي مجتمع، مكتوبة أو شفوية، من أجل رسم خطوط وحدود للفعل وللكلمة معا.

وقد لعبت عدة أمور في تحويل النص إلى القضاء مثل المؤسسة الدينية كمرجعية تساهم في إنتاج قراءة النص، ثم المؤسسة السياسية التي تضع حدودا تحرم كشفها أو نقدها، إضافة إلى مساهمة “الرأي العام” في خلق وعي مجتمعي يدعو للاحتشام والحفاظ على الأخلاق.

وقد تكاثفت جهود هذه المؤسسات بشكل مباشر، وغير مباشر أيضا، في إجهاض حرية الرأي والتعبير في عدد من الدول العربية وتعريض أشكال تعبيرية مختلفة لأنواع من المحن، توجت بتدعيم المؤسسة القضائية لأنواع التهم الموجهة لنصوص المبدعين والمفكرين بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار والقيم.

وبذلك أصبحت حرية الرأي والتعبير، في العالم العربي، ضحية “إرهاب فكري” ذي أغراض ومقاصد معينة، يحتمي بسلطة القضاء، ويتعلل بقانون العقوبات الخاص بالصحافة؛ وهو ما أثر سلبًا على عملية الإبداع، حيث أصبحت الكتابة محاصرة بين مقص الرقيب ومطرقة المحاكمات، وكلاهما باسم القانون والهاجس الأمني، وتحت ضغط هذه الإكراهات صار المبدع مطالبًا بالتفكير القبلي في كل كتابة، وهو ما يمثل ضربًا من الرقابة الداخلية يغلفها الخوف الدائم من سوء التأويل والتقييم.

وأخيرا، يمكن القول: إن إنتاج خطاب المحاكمات الأدبية أو الفكرية تتحكم فيه مجموعة عوامل تزاوج بين ما هو ثقافي وفكري واجتماعي وسياسي وديني وقانوني، ويعتبر حقل التلقي والتأويل ملتقى كل هذه العوامل متقاطعة ومتداخلة لتفرز في النهاية خطاب المحاكمات. وهو ما بدا واضحًا من خلال جملة المحاكمات والمصادرات التي حدثت في القرن العشرين، والتي وردت كملاحق في نهاية الكتاب.

Share this Post