هل يفلت العالم العربي من “الثقب الأسود” ومخاطر الخراب؟

In صالون بن رشد by CIHRS

تجسد الدولة العربية الحديثة إلى حد كبير التجلي السياسي لظاهرة “الثقب الأسود” الفلكية. وفيه تشكل السلطة التنفيذية ثقبا أسود يحول المجال الاجتماعي المحيط به إلى ساحة لا يتحرك فيها شئ ولا يفلت من إسارها شئ.
ذلك هو التوصيف الذي استخدمه تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 لتشخيص حالة الصلاحيات المطلقة في يد هذه السلطة وأجهزتها التنفيذية، ويساعدها في ذلك ما يسمى بالأحزاب الحاكمة إن وجدت، والتي اعتبرها التقرير ليست إلا مؤسسات تابعة للجهاز التنفيذي ويستخدمها مثلما يستخدم القضاء العادي والاستثنائي لإقصاء وتحجيم الخصوم، فضلا عن الآليات الأكثر أهمية مثل الأجهزة المخابراتية والأمنية.
فهل يستطيع العالم العربي أن يفلت من الثقب الأسود، وحالة تمركز السلطة التي تقود مجتمعاتنا إلى المزيد من التردي وتنذر بالفوضى والخراب: ذلك هو السؤال الذي طرحه مركز القاهرة على عدد من المتحاورين في أمسية ثقافية نظمها في إطار صالون ابن رشد في 22 مايو الماضي حول تقرير التنمية الإنسانية.
أدار الأمسية سيد إسماعيل منسق برنامج الثقافة العربية بالمركز. وأوضح أن التقرير ربط بين أمرين أولهما أن الإصلاح الجزئي لم يعد يصلح في هذه اللحظة الراهنة، والآخر أن القيد السياسي على عملية التنمية هو القيد الأشد وطأة في الوطن العربي.
أما الدكتور مصطفى كامل السيد الأستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة وأحد معدي الأوراق الخلفية التي اعتمد عليها التقرير، فأشار إلى أن التقرير يعد الحلقة الثالثة من مجموعة التقارير التي يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول الوطن العربي.
وقال: إن التقرير الأول تناول عجز المشاركة السياسية في الوطن العربي، والثاني عجز المعرفة والثالث الذي نحن بصدده يتناول عجز الحريات والحكم الرشيد، مشيرا إلى أن التقرير الرابع المقبل سوف يتناول أوضاع المرأة العربية.
وأضاف: إن التقرير تحدث عن نقص الحريات، والحكم الرشيد وأبعاد أزمة الحرية والديمقراطية في الوطن العربي. ووصف السيد التقرير بأنه لم يضف أي جديد بالمقارنة بما قيل من قبل تجاه تلك القضية.
وكشف السيد عن وجود 3 صياغات تم إعدادها للتقرير قبل صدوره بشكله النهائي الحالي وأرجع ذلك إلى تدخل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وقال: على الرغم من عمليات “الغربلة” التي تعرض لها التقرير بسبب تدخل مسئولي البرنامج إلا أن روح التقرير جاءت متباينة مع الأوراق الخلفية التي اعتمد عليها.
وانتقل السيد إلى الأزمة التي تعرض لها التقرير قبل صدوره وما أثير حول وجود اعتراضات أمريكية ومصرية أخرت صدور التقرير. واعترف بحقيقة هذه الاعتراضات وقال: إن الكاتب الصحفي الأمريكي توماس فريدمان أول من كشف هذه الحقائق، مشيرا إلى أن فريدمان أشار إلى وجود ضغوط أمريكية على البرنامج الإنمائي اعتراضا على إدانة الإدارة الأمريكية وقضية احتلال العراق. وأضاف كذلك أن تناول التقرير لاحتمالات توريث الحكم في مصر كان بدوره محل اعتراضات مصرية. وعرض للتقرير وقال إنه يضع مجموعة من المعايير للحكم الرشيد منها اللا مركزية والشفافية والقضاء على الفساد وتداول السلطة.
ولفت السيد إلى أن هناك معايير أخرى لم يتضمنها التقرير من وجهة نظره، وتشمل الرشادة في صنع القرار والتي اعتبر غيابها من العوامل المهدرة والمعطلة لعملية التنمية.
وانتقد السيد بعض سياسات الحكومة المصرية تجاه بعض المشروعات الجدية وضرب مثالا على ذلك بالمشروع القومي لتنمية جنوب الوادي “توشكي”.
وقال إن المشروع حسب المعلن عنه انه سينتج استصلاح 3 ملايين ونصف المليون فدان وانتقال 5 ملايين مصري إلى جنوب الصحراء الغربية.
وأضاف، أن ما تم إنجازه حتى الآن هو استصلاح نصف مليون فدان فقط، مؤكدا أن المشروع يواجه العديد من المعوقات منها ارتفاع درجة الحرارة وزيادة نسبة البخر في تلك المنطقة بالإضافة إلى عدم وجود استثمارات كافية.
وانتقد أيضا الحكومة وسياستها في مشروع فوسفات أبو طرطور في الصحراء الغربية، مؤكدا أن العائد منه ضعيف جدا، رغم أنه كلف الدولة كثيرا من الأموال، إلا أنه ما زال العمل جاريا فيه حتى الآن. كما انتقد إنشاء مطار جديد بالقرب من المطار القديم وإنشاء نفق الأزهر والعديد من القرارات التي وصفها بأنها خاطئة.
وقال السيد إن افتقاد عنصر صانع القرار في أعلى مراحله سمة مهمة لغياب الحكم الرشيد.
وقسم الوطن العربي إلى دول تجري إصلاحات جزئية وأخرى تسير على خطى متمهلة وبطيئة جدا لإحداث الإصلاح.
أشار إلى أن مصر وبعض دول الخليج تسير على هذا الإصلاح الجزئي في حين أن ليبيا وسوريا تمثلان استثناء في المنطقة، ووصف ما يجري في مصر، بأنه إصلاح جزئي داخل عملية الإصلاح نفسها، مشيرا إلى أن كافة قطاعات وقوى المجتمع المدني في مصر تقف ضد هذا الإصلاح الجزئي.
واختلفت الدكتورة دلال البزري الكاتبة والباحثة اللبنانية مع الدكتور مصطفى السيد، وقالت إن التقرير به بواعث ملل كثيرة، مشيرة إلى أنه مليء بالتكرار بلا مبرر واضح.
وانتقدت تكرار ذكر الإسلاميين والديمقراطية وأيضا إغفال اسم الدول في حالة السلبيات وذكرها عند الحديث عن إيجابيات.
وأوضحت البزري أن التقرير أكاديمي أكثر منه معرفيا لافتة إلى أن ما تضمنه التقرير من آراء الكتاب والخبراء الأجانب حول الديمقراطية والحرية لم يعد صالحا الآن.
وذكرت أنه على الرغم من ذلك فإنه يمكن أن نستخلص عدة حقائق، وأفكار قابلة للنقاش من التقرير أهمها ما يتعلق بالتراث الإسلامي النهضوي والنغمة السائدة الآن هى الربط بين الإصلاح والنهضة والديمقراطية.
واعترضت البزري على ما تضمنه التقرير من وجود 3 أنماط للحكم في العالم العربي وهى الملكية المطلقة والجمهورية الثورية والراديكالية الإسلامية. وتساءلت أين هذه الأشياء من الواقع الذي نعيشه الآن؟!
وانتقدت البزري عدم تعرض التقرير لإشكالية الثقافة وتركيزه على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في حين أنه تغافل العامل الثقافي وتأثيره على قضية الديمقراطية والحرية والحكم الصالح خوفا من الإسلاميين.
وعلى الرغم من اتفاق الدكتور جمال عبد الجواد رئيس وحدة العلاقات الدولية بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام مع ما طرحته البزري من انتقادات للتقرير ووصفها بأنها انتقادات ذكية، إلا أنه أكد أن التقرير أدى وظيفته وصدر في لحظة يهتم فيها العالم كله بقضية الإصلاح في المنطقة العربية.
وأشار إلى أن العالم العربي متأخر اقتصاديا وسياسيا لغياب الديمقراطية، مشيرا إلى أن التقرير أكد هذه الحقائق بطريقة منهجية.
وقسم عبد الجواد العالم العربي إلى دول تقوم بإصلاح ووضع المغرب في مقدمة البلدان العربية القابلة للتغيير وتسير تجاه الإصلاح وتأتي بعدها الأردن ثم مجموعة من الدول العربية تقع في منطقة “وسطية” منها مصر.
وأوضح أن الأنظمة والملكيات المطلقة أوضاعها أصعب وهى تسير نحو الإصلاح بخطى بطيئة جدا.
ولفت عبد الجواد إلى أن الصورة المرسومة والسيناريوهات التي ينتهي إليها التقرير بها درجة عالية من التشاؤم والسوداوية، مؤكدا أنها صورة حقيقية وواقعية للأوضاع الراهنة في الوطن العربي. ونوّه أن “الثقب الأسود” امتص كثيرا مما حوله في المجمع وحوله إلى حالة من السكون واللا حركة.
وقال عبد الجواد: إن عمليات القمع والرشوة والفساد أو “اللا تسييس” كلها عوامل أدت إلى تدمير النخب السياسية العربية والقضاء على المجتمع السياسي في تلك البلدان.
وأضاف: أن الدول المستبدة ودولة “الثقب الأسود” جعلت المسافة بينها وبين المواطن تقريبا فراغا. وأكد أن جزءاً كبيراً من خطورة الحالة الراهنة أن تلك الدول لو أرادت إحداث إصلاح فيجب أن يكون هناك مكونات لبناء ذلك، مشيرا إلى أن دولة الثقب الأسود لم تبق على الكثير من مواد البناء لتحقيق إصلاح سياسي حقيقي.
وشدد عبد الجواد على أن المهمة الرئيسية التي تواجه تلك المجتمعات هى إعادة بناء النخبة السياسية، مؤكدا أنه بدون نخبة فاعلة لا يمكن تحقيق ديمقراطية أو إصلاح حقيقي.
وأوضح أن التقرير به تناقض في الصياغة، مشيرا إلى أنه في الوقت الذي أشار فيه التقرير إلى الاستعانة بالخارج لتحقيق الإصلاح حاول عدم انتقاد الخارج، كما أنه لم يدن النظم العربية لقيامها بانتهاك الحريات وقمع الحقوق، وفي نفس الوقت أكد أنه لم يثق في هذه الأنظمة.
ولفت عبد الجواد إلى أنه ليس هناك شئ اسمه التغيير عن طريق الخارج، مشيرا إلا أن هناك عالماً واحداً والقوي فيه يؤثر على الضعيف واصفا القضية بأن بها قدراً من “الاصطناع”.
وقال: بالنسبة للمنطقة العربية فإن الخارج كان له دور جوهري لإحداث التقدم وإحداث بعض الإصلاحات في المنطقة العربية.
وتساءل عبد الجواد لا أعلم ماذا سوف يكون مصير العالم العربي بدون الخارج؟ مشيرا إلى أن درجة تقدم أي مجتمع من المجتمعات هى مدى اتصاله بالخارج في أي مجال.
وذكر أن المنطقة غير متأصل بها روافع التقدم وقوة الدفع نحو الحداثة والحرية، مؤكدا أن أحد أسباب ذلك في مصر هو توجيه الاتهامات لكل من يتصل بالخارج بالخيانة والعمالة بغض النظر عن الوضع السياسي القائم.
وطالب عبد الجواد بحل إشكالية الدين والدولة، مشيرا إلى أنه لا يمكن في دولة مثل مصر على سبيل المثال أن تستوعب جماعة الإخوان المسلمين، بدون حل الصراع السياسي العام حول العلاقة بين الدين والدولة.
وانتقد عبد الجواد الفكر السياسي العربي، وقال إن الفكر السياسي العربي ما زال -وعلى الرغم من مرور 50 عاما من التحرر من الاستعمار- يتصرف وكأننا في إطار حركة التحرر الوطني

Share this Post