ولكم في هندوراس قدوة حسنة

In مقالات رأي by CIHRS

في بدايات عام 2008 دخل رئيس هندوراس المنتخب “مانيول زيلايا” -يساري من أصول إقطاعية- في صراع مع الدولة العميقة وأجهزة الإعلام المختلفة متهمًا إياها بتكوين طبقة “أوليجوبولية” أو أقلية تسعى لاحتكار السوق. وقام بفرض وصاية شديدة على جميع وسائل الإعلام المرئية والمقروءة متهمها –عن حق- بتحقيق مصالح طبقة سياسية واقتصادية بعينها. ولكنه استخدم تلك الوصاية في دعاية سياسية موجهة ضد الأحزاب الأخرى وبما يخدم ويمجد حزبه وسياساته. وبدأت حملة اغتيالات وملاحقات ضد الإعلاميين الذين اتهمهم “زيلايا” بمحاولة تقويض الأمن العام والمصلحة العامة وزعزعة الأمن القومي، مما أثار حالة من الذعر المجتمعي بشأن إمكانية عودة الديكتاتورية في هندوراس بكل ما تحمله من ذكريات أليمة. كانت هندوراس قد تخلصت من الحكم الديكتاتوري العسكري عام 1982، لكن وكما هو الحال في العديد من بلدان أميركا اللاتينية والوسطى وشمال أفريقيا، استمر العسكر وبقايا الدولة العميقة التي كونوها في مطلع الستينيات (وما أدراك ما هي الستينيات في أمريكا اللاتينية وخصوصًا لليسار) يشكلون قوة كبيرة وراء الكواليس.

كان “زيلايا” تم انتخابه كرئيس ليبرالي وسطي الفكر يستطيع الخروج عبر مشروعه الاقتصادي من نفق الفقر الذي تعاني منه البلاد دون المساس بمسلمات الحريات العامة! ولكن سرعان ما تغير “زيلايا” وانضم بعد الحكم للمعسكر الاشتراكي وتحالف بقوة مع النظام السياسي في فنزويلا.

زاد الأمر تعقيدًا عندما قرر “زيلايا” في 2009 إجراء استفتاء يسأل الناخبين عما إذا كانوا يريدون عقد جمعية وطنية تأسيسية لصياغة دستور جديد للبلاد، وعلل السياسيين المعارضين لذلك القرار بأن “زيلايا” الذي تنتهي مدة ولايته الرئاسية في يناير 2010، أراد عقد الاستفتاء ليتلاعب في مواد الدستور بما يسمح له بتقديم أوراق ترشيحه لولاية جديدة؛ رغم نص الدستور صراحةً بعدم جواز أن يرشح شخص نفسه للرئاسة لفترتين متعاقبتين خوفًا من عودة فكرة الديكتاتور الفرد.

كانت المادة 374 من دستور هندوراس تنص على أنه “لا يجوز عمل أي استفتاء لتعديل المواد الراسخة في الدستور والذي تم تحديدها في المادة 384″، أي أن تلك المواد المنصوص عليها تعد من جراء المبادئ فوق الدستورية (كالتي اقترحها البرادعي في مصر عام 2011 وقام حزب الحرية والعدالة برفضها في ذلك الوقت).

أقرت المادة 384 من دستور هندوراس والخاصة بتلك المبادئ أن نظام الحكم الجمهوري وتحديد مدة ولاية الرئيس ونظام تجديدها هي من المبادئ الدستورية التي لا يمكن تعديلها في أي استفتاء! وهو ما رفضه “زيلايا” صراحةً، وقرر في تعليقات شفهية أن الجمعية التأسيسية غير ملزمة بتلك المادة وستقوم بتغيير أي مادة تراها مناسبة بما فيها المادة التي تحدد فترة الرئاسة، مما أثار حفيظة الكثيرين في المجتمع السياسي الذين اتجهوا للوقوف خلف الدولة العميقة، ودعمها في صراعها ضد الرئيس المنتخب خوفًا من أن يتبع “زيلايا” سياسات تسلطية أشبه بسياسات حليفه الاستراتيجي هيوجو شافيز، لاسيما أن سياسات “زيلايا” القمعية والتهكمية على الحريات كانت أقرب لسياسات “شافيز” أقرب من كونها متطابقة لأفكار زميلهما اليساري “لولا دي سيلفا”. فالاختلاف بين” زيلايا”، و” شافيز” و” لولا” أقرب من شكل الاختلافات بين محمد مرسي، وعمر البشير وراشد الغنوشي.

وبناءً على شكوى قدمها مجموعة من المحامين للنائب العام أبلغ الأخير رسميًا الرئيس “زيلايا” بأنه سيواجه اتهامات جنائية بتهمة إساءة استغلال السلطة إذا ما شرع في إجراء الاستفتاء. ورفعت دعوى من العديد من المحامين ضد الرئيس أمام محكمة القضاء الإداري والمحكمة الانتخابية العليا، وقضت المحكمتان في مايو 2009 بعدم شرعية الاستفتاء وهو ما أيدته المحكمة العليا بهندوراس (بمثابة المحكمة الدستورية في مصر). رفض “زيلايا”  الحكم في خطاب ديماجوجي شعبوي قائلاً: “إن المحكمة، تمنح العدالة فقط للغني والقوي، وأصحاب البنوك، وكل ما تسببه هي مشاكل للديمقراطية”.

وفي تطور جديد أصدر البرلمان -المكون من أغلبية بسيطة مناوئة لـ “زيلايا”- قرارًا يرفض فيه الاستفتاء، وأصدر قرارًا آخر يحذر فيه الرئيس من اتخاذ تلك الخطوة، وتبع ذلك إصدار قانون يحظر فيه عمل أي استفتاء قبل أو بعد عقد انتخابات الرئاسة بـ180 يوم ليقطع الطريق أمام أي فرصة لـ “زيلايا” لإجراء أي تعديلات قد تعود به كرئيس للبلاد.

ورفض “زيلايا” الامتثال لهذا القرار وطلب من الجيش -المسئول قانونيًا عن الأمن والخدمات اللوجستية في الانتخابات- تأمين الاستفتاء. ولكن قائد القيادة العسكرية الجنرال “فيلاسكيز”( بما يوازي منصب الفريق سامي عنان في مصر) رفض الامتثال للأوامر ورفض تمرير مواد الاستفتاء امتثالاً لحكم المحكمة العليا، فقام “زيلايا” بعزله من منصبه. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم قدم وزير الدفاع ورؤساء القوات البحرية والجيش والقوات الجوية استقالاتهم من مناصبهم اعتراضًا على قرار الرئيس، بينما قضت المحكمة العليا في اليوم التالي بإعادة الجنرال “فيلاسكيز” إلي منصبه، وأوضح رئيس المحكمة الانتخابية العليا أنها ستمتثل لأوامر الجيش فيما يتعلق بالاستفتاء أياً كانت. في الوقت نفسه بدأ البرلمان نقاشًا حول مدى أهلية “زيلايا” للحكم، وتم فيه تباحث قدراته العقلية.

في محاولة جديدة لتمرير القرار، طلب “زيلايا” من فنزويلا أن تطبع أوراق الاقتراع له، وامتثل “شافيز” للطلب، ووصلت أوراق الاقتراع من فنزويلا على متن طائرة، وبقيت صناديق الاقتراع في المطار، حيث أمرت المحكمة الانتخابية العليا في اليوم نفسه بمصادرة بطاقات الاقتراع -التي وصفتها بغير الشرعية- القادمة من فنزويلا. الأمر الذي دفع “زيلايا” إلي اعتلاء تظاهرة مع أنصاره إلى قاعدة القوات الجوية، واستولى على بطاقات الاقتراع واحتفظ بها في القصر الرئاسي؛ وبناءً عليه أقرت المحكمة العليا أن رئيس الجمهورية لم يمتثل للأوامر القضائية المختلفة بالامتناع عن الاستفتاء كما وجدت أنه مسئولاً عن جرائم “تغيير شكل الحكم”، و”خيانة الوطن”، و”إساءة استخدام السلطة واغتصابها” وأصدرت المحكمة في جلسة سرية أمر اعتقال “زيلايا”. هذا الحكم القضائي لم يتم إعلانه إلا بعد القبض على “زيلايا” بساعات.

بناءً عليه اقتحم الجنود مقر الرئيس في العاصمة، قبل ساعة واحدة من فتح باب الاستفتاء، وتم اقتياد “زيلايا” بملابس النوم إلى قاعدة جوية خارج المدينة، كما انتشرت مدرعات الجيش في المدينة وتم تفرقة مظاهرات أنصاره بالقوة، وبعد عدة ساعات تم ترحيل “زيلايا” إلى كوستاريكا.

وقدم البرلمان خطاب ادعى أنه من “زيلايا” يقدم فيه استقالته التي وافق البرلمان عليها، وتم تعيين رئيس البرلمان “روبرتو مشلتي” رئيسًا مؤقتًا للبلاد لحين إجراء انتخابات رئاسية جديدة طبقًا لنص الدستور. في الوقت نفسه صرح “زيلايا” من منفاه أن الخطاب تم تزويره وإنه مازال الرئيس الشرعي للبلاد.

عمت المظاهرات البلاد وقام البرلمان بإصدار قانون بفرض حظر التجوال وقانون آخر يسمح لقوات الشرطة والجيش بالقبض على النشطاء السياسيين من منازلهم واحتجازهم دون سند قانوني. وقام الجيش بقطع الكهرباء عن معظم مناطق العاصمة وبدأت مظاهرات مناوئة لـ”زيلايا” ومؤيدة للعسكر في الخروج. وقد ذكرت التقارير الدولية أن تلك الفترة شهدت حالات قتل، والإعلان التعسفي لحالة الطوارئ، وقمع المظاهرات العامة، وتجريم الاحتجاجات العامة والإضرابات، والاحتجاز التعسفي لـ4000 شخص، والتعذيب، وعسكرة هندوراس، كما شهدت تزايد حوادث التمييز العنصري والحض على كراهية الأجانب، وانتهاك حقوق المرأة وخصوصًا التعدي الجنسي على المتظاهرات وتقييد حرية التعبير، كما تم منع المراسلين الأجانب من العمل وتشويه صورة منظمات حقوق الإنسان.

نددت معظم بلدان العالم بالانقلاب العسكري على “زيلايا”، وأوضح “أوباما” أنه يحاول تكثيف الضغوط على الجيش في هندوراس لوضع حد للانقلاب، ولكنه استبعد إمكانية التدخل العسكري الخارجي في هذه المسألة، وقال مسئولون في إدارة “أوباما” وقتها، أن الجيش الهندوراسي لا يستجيب لدعوات الحكومة الأمريكية ويرفض مسئولوه العسكريون الرد على الاتصالات الأمريكية. ومن جانبها رفضت الحكومة الأمريكية والأمم المتحدة الاعتراف بشرعية العسكر وأصروا على أن “زيلايا” “اليساري المؤيد لـ “شافيز عدو الأمريكان” هو الرئيس الشرعي للبلاد وأن أي سفير يعينه العسكر في الأمم المتحدة أو الولايات المتحدة غير معتد به، كما تم تجميد مقعد هندوراس في منظمة دول الأمريكيتين (مثل الاتحاد الأفريقي لكن أكثر فاعلية).

حاول “زيلايا” العودة لهندوراس عن طريق الجو بعد نفيه، لكن العسكر أغلقوا المجال الجوي أمامه مما حمله على الرجوع إلى منفاه. وبعد ثلاثة أشهر سلك “زيلايا” الطريق البري وسط الجبال حتى وصل لهندوراس في الخفاء وطلب اللجوء السياسي وحماية سفارة البرازيل بعاصمة هندوراس، فقطع العسكر الكهرباء عن السفارة وفرضوا طوقًا أمنيًا حولها. ووقتها صرح “زيلايا” أن المخابرات الإسرائيلية ضالعة في مؤامرة ضده وتحاول اغتياله لمساعدة العسكر.

ونتيجة لضغوط دولية عدة تم التوصل إلى اتفاق يقضي بأن يصوت البرلمان على عودة “زيلايا” لاستكمال شهور رئاسته المتبقية على أن يأمر بتهدئة المتظاهرين ويتم تشكيل حكومة إنقاذ وطني يكونها روبرتو الرئيس المؤقت و”زيلايا”.

وافق “زيلايا” على الخطة لكن البرلمان تراجع عن تنفيذها، وقرر تأخير التصويت على عودة “زيلايا” وشكل الحكومة بشكل منفرد. وعندما أرسل الأمريكان وفد رفيع المستوى لمواصلة التفاوض رفض “زيلايا” التفاوض معهم. وإزاء هذا قرر البرلمان الدعوة لانتخابات مبكرة عن موعدها الدستوري.

 رفضت معظم القوى الثورية فكرة الانتخابات المبكرة على أساس أن “زيلايا” هو الرئيس الشرعي للبلاد واطلقت شعار “لا انتخابات تحت حكم العسكر” وقررت أن “نار زيلايا ولا جنة العسكر”. ولكن في تطور جديد أعلنت الولايات المتحدة ومعظم دول الجوار أن المخرج السياسي الوحيد المتبقي هو إجراء الانتخابات في ظل مقاطعة المعارضة كمَخرج سياسي برجماتي. ولطبيعة الحال لم يتمكن “زيلايا” من ترشيح نفسه. و في ديسمبر 2009 تم إعلان نتيجة الانتخابات بفوز “لوبو سوزا” مرشح اليمين الوسطي المحافظ بـ56% من الأصوات (كان قد حصل على 46% من الأصوات في انتخابات 2005 ضد “زيلايا”). واعترف المجتمع الدولي بنتيجة الانتخابات رغم مقاطعة 51% ممن لهم حق التصويت للانتخابات.

بعد عدة شهور وبعد وساطة من رئيس جمهورية الدومنيكان، تم السماح في يناير 2010 لـ”زيلايا” بمغادرة السفارة البرازيلية إلى منفاه الاختياري بجمهورية الدومنيكان، كما سمح له بالعودة إلي هندوراس من جديد في مايو 2011 بعد إسقاط كافة التهم عنه وإجراء عملية مصالحة قادها الرئيس الجديد “لوبو سوزا”.

تعكف المعارضة الآن للاستعداد لانتخابات 2014 في ظل اتهامات لسوزا والعسكر بقيادة حملة اغتيالات ضد أنصار “زيلايا”، ووسط ترحيب أمريكي بسياسات المصالحة الوطنية التي يقودها “سوزا”.

مقال نشر في جريدة الشروق بتاريخ 12 يوليو 2012 

http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=11072012&id=537bb5a9-4e09-4ad0-8e65-39dca0f07ec6

Share this Post