بهي الدين حسن

ردًا على د. عبد المنعم سعيد (2 – 2).. عن الإرهاب وحقوق الإنسان

In مقالات رأي by CIHRS

بهي الدين حسن

بهي الدين حسن

مثل كل مواطن مصري، يبدو د. عبد المنعم سعيد منزعجًا للغاية من الإرهاب، ولكن القلق لا يمتد إلى الفشل الفاضح والمتواصل في مكافحته، بل تمدده، بسبب أعمال القمع التي تدفع الناس للتطرف، وأن تجد في العنف والإرهاب وسيلة للانتقام، بينما يرتفع منسوب الانزعاج إلى الذروة لدى الدكتور بسبب اهتمام منظمات حقوق الإنسان الدولية والوطنية بالوضعية المزرية لآدمية الإنسان في مصر. حتى ليبدو وكأن الدكتور لا يُقلقه القتل المجاني لمواطنيه في الشوارع والسجون وأقسام الشرطة، وشيوع التعذيب والاختفاء القسري، وسجن عدد كبير من زملائه الصحفيين والأكاديميين والنشطاء السلميين، وتكميم أفواه عدد من أبرز الإعلاميين. لكن ما يُقلق الدكتور هو ذلك الاهتمام الذي يظنه «مبالَغًا فيه» من منظمات حقوق الإنسان. من ثَمَّ يبحث عن تفسير لهذا الاهتمام «الغريب وغير المبرر» من وجهة نظره. يتذكر د. عبد المنعم، في مقاله، بتبجيل كبير مستحق، التحاقه منذ 30 عامًا بخلية لمنظمة العفو الدولية في مصر، وذلك في مهمة إنسانية نبيلة، للدفاع عن حقوق الإنسان في دولة أخرى. حينذاك لم يسأل الدكتور نفسه عن سبب الاهتمام «المبالَغ فيه» من منظمة العفو بهذه الدولة، بل اعتبر انتهاك حقوق الإنسان في هذه الدولة سببًا كافيًا. بعد 30 عامًا مازالت منظمة العفو في المكان ذاته تواصل مهمتها الإنسانية النبيلة في جميع دول العالم، ما تغير فقط هو موقع د. عبدالمنعم، وعدد الذين يتهمون المنظمة العريقة بـــــــ«أجندة خفية».

مشكلة د. عبد المنعم مع مركز القاهرة والمنظمات الحقوقية المستقلة في مصر لها أبعاد إضافية، إذ يتهم الدكتور –بلا سند– هذه المنظمات بالتسيُّس والانخراط في الحركة السياسية، لمجرد أنها تنتقد سجل الحكم الحالي في حقوق الإنسان، بينما لو أنفق الدكتور بضع دقائق من وقته في مراجعة مواقف مركز القاهرة، خلال حكم مبارك والمجلس العسكري والإخوان المسلمين والحكم الحالي، لتأكد من أن المركز قد اتبع المعايير ذاتها معهم جميعًا، بل إنه شارك مع منظمات أخرى في إصدار بيان يدين مزاعم تعذيب نُسب للمتظاهرين في ميدان التحرير ارتكابها في الشهور الأولى للانتفاضة. وبدأ حملته الخاصة بحقوق الإنسان تحت حكم الإخوان المسلمين، فور خطاب تنصيب محمد مرسى رئيسًا، وليس في 30 يونيو، مثلما يظن الدكتور. أصارحك القول: لقد بلغ الحال للمرة الأولى منذ نشأة منظمات حقوقية في مصر أنه لم يعد ممكنًا الآن لمنظمات إصدار بعض تقاريرها المكتملة، لأن الثمن سيكون نهاية وجود هذه المنظمات، وبالتالي افتقار الضحايا المتزايد عددهم لمن ينقل أنينهم. للمرة الأولى أيضًا يتلقى حقوقيون تهديدات بالقتل أو بتلفيق قضية تخابر، ومع ذلك كله، فإن الدكتور يشكو مما يعتبره «اهتمامًا مبالَغًا فيه» بحقوق الإنسان. بالطبع من حق الدكتور ألا يهتم، ولكن عليه أن يكف عن لوم غيره، لمجرد أنه «يهتم» بنقل أنين الضحايا، حتى لو أدى ذلك إلى فقدانه حياته!

ولكن المشكلة تصير أكثر فداحة في أطروحة د. عبد المنعم، عندما يبرر دعوته إلى المنظمات الحقوقية للصمت على جرائم حقوق الإنسان، لأن الحكم الحالي مدعوم بــــــــ«الغالبية الشعبية والقوات المسلحة». هنا ينتقل الدكتور في واقع الأمر إلى دعوة صريحة لمركز القاهرة وكل منظمة حقوقية مستقلة عبر التاريخ إلى الانتحار، لا أقل من ذلك. في ألمانيا النازية كانت «أغلبية الشعب وقواته المسلحة» مع هتلر، ولكن الحقيقة الأخلاقية والتاريخ كانا إلى جانب أقلية بدأت ضئيلة رفضت اتباع عقلية «القطيع»، ووقفت بجانب حقوق المضطهدين من المفكرين والأدباء والفنانين والشيوعيين واليهود والأقليات الأخرى. القصة نفسها تكررت وانتهت للنتائج ذاتها في الولايات المتحدة الأمريكية، في أوائل خمسينيات القرن الماضي في فترة المكارثية. ثم تكررت أيضًا في أمريكا في أعقاب هجمات 11 سبتمبر. في ذلك الوقت كانت «أغلبية الشعب» الأمريكي المخدوع بالصراخ الأعمى حول الإرهاب تقف خلف إدارة الرئيس جورج بوش و«القوات المسلحة» التي تقاتل الإرهابيين في أفغانستان، وتبحث عن أسلحة نووية مزعومة في العراق، قبل أن تسقط في أيدي الإرهابيين. كان بوش يردد عبارة د. عبد المنعم بكلمات أخرى: «مَن ليسوا معنا فهم ضدنا»، بينما كان للأقلية الأخلاقية في أمريكا رأى آخر. لم يأبهوا باتهامهم بالخيانة ولا باتهامهم بــــــ«طعن جنود جيشهم في ظهره وهو مازال يحارب الأعداء في ميدان القتال». وقاموا بفضح الخطاب الديماجوجي المخادع، والأكاذيب التي تسعى لتوظيف مخاطر حقيقية للإرهاب، لتحقيق أهداف سياسية أخرى غير معلنة لـــــ«الأغلبية الشعبية». قاموا بفضح التعذيب في سجني أبو غريب وجوانتانامو وممارسات بشعة أخرى. في ذلك الوقت كتب (واقع الحال أتخيل أنه كان يصرخ) كين روث، مدير هيومان رايتس ووتش –إحدى المنظمات التي يلومها الدكتور على الاهتمام «المبالَغ فيه» بآدمية المصريين– يشكو عزلة صوت الحقوقيين الأمريكيين في مواجهة «الأغلبية الشعبية والقوات المسلحة» الأمريكية. قال روث: «لا أحد يريد أن يسمعنا.. الكل لا يريد سماع سوى صوت الأمن». منظمة أمريكية أخرى هي «حقوق الإنسان أولًا»، توصلت إلى أن أفضل وسيلة لكسر حصار «الأغلبية الشعبية التي تقف خلف قواتها المسلحة» في أمريكا هي أن تشكل فريقًا من جنرالات الجيش الأمريكي المتقاعدين الداعمين لحقوق الإنسان، وأن يقوم هذا الفريق بحملة لتبصير الشعب الأمريكي بمخاطر الممارسات والسياسات المتبعة، خلال الحرب ضد الإرهاب، على حقوق الإنسان، بل والأمن القومي الأمريكي ذاته. تخيلوا معي للحظة ماذا يكون مصير أي حقوقي مصري يحاول أن يطبق هذه الفكرة الآن في مصر؟ عندما اعتزم الرئيس باراك أوباما لاحقًا إلغاء عدد من القرارات وثيقة الصلة بحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب التي كان قد أصدرها بوش، فإنه دعا هؤلاء الجنرالات «الحقوقيين» ليقفوا إلى جانبه عند توقيعه رسميًا هذا القرار، تكريمًا لهم واعترافًا بفضلهم. ثم جرى تعيين رئيس منظمة «حقوق الإنسان أولًا» مساعدًا لوزير الخارجية لحقوق الإنسان، بينما مازال العار والمطالبات بالمحاكمة تلاحق وزير الدفاع الأمريكي حينذاك.

لنتخيل للحظة ماذا سيكون حكم التاريخ لو أن الأقلية الأخلاقية من المفكرين والصحفيين والأكاديميين والحقوقيين في ألمانيا النازية وأمريكا –في زمن المكارثية ورامسفيلد– وغيرهما من الدول، قد اتبعت نصيحة د. عبد المنعم سعيد، لأن «الأغلبية الشعبية» تقف –في لحظة عابرة مهما طالت– في الجانب الخطأ من التاريخ؟

يومًا ما ستلقى مهمات الدفاع عن آدمية الإنسان تقديرًا مناسبًا من المصريين وحكامهم، وبعض آكاديمييهم أيضًا.


[1] نشر هذا المقال بجريدة المصري اليوم بتاريخ 7 يناير 2016.

[2] الكاتب هو مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ولكن المقال قد لا يعبر بالضرورة عن رأي المركز.

Share this Post