آفاق العلاقات المصرية الأميركية بعد انتخاب بايدن

In مقالات رأي by CIHRS

بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

على الرغم من أن فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية كان متوقعا، إلا أنه أدّى إلى شعور كبير بالصدمة لدى محيط الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، كما لو أن احتمال فوزه لم يكن واردا أبدا. كانت تغطية أدوات إعلام الرئيس المصري للانتخابات الأميركية أقرب إلى تغطية انتخابات مصيرية يتحدّد فيها مصير السيسي في مصر، وليس ترامب في أميركا. كانت تهيئ الرأي العام المصري لانتصار ترامب، وتتهجم على بايدن حتى بعد فوزه، بل حتى لحظة مبادرة السيسي بتهنئة بايدن. حينها تحوّل في ثوان معدودة أحد أكثر مقدّمي البرامج التلفزيونية السياسية ذيلية في مصر، بمرونة أكروباتية تفوق أذكى روبوت في العالم، من مهاجمة بايدن إلى الترحيب بفوزه في البرنامج ذاته على الهواء!
كان ترامب الرئيس الأميركي الأكثر دعما لرئيس مصري منذ نحو أربعة عقود، أي منذ اغتيال الرئيس أنور السادات عام 1981، فباستثناء فترة محدودة مورست فيها ضغوط جادّة لتحسين الديمقراطية، خلال ولاية الرئيس جورج بوش في بداية القرن الحالي، و48 ساعة خلال انتفاضة يناير/ كانون الثاني 2011، في أثناء ولاية الرئيس باراك أوباما ، فإن باقي الرؤساء الأميركيين تعايشوا مع رؤساء مصر (حسني مبارك، المجلس العسكري، محمد مرسي، عدلي منصور، عبد الفتاح السيسي) من دون تماه مع رئيسٍ بعينه. لكن ترامب تماهى مع السيسي، ومنحه مظلة دعم أدبي وسياسي أربع سنوات كان في مسيس الاحتياج لها من أجل تثبيت أركان حكمه الدموي والفردي، ليس في مواجهة الشعب فحسب، بل وأيضا في مواجهة منافسيه المحتملين من داخل الجيش. الأمر الذي مكّنه من إقصاء الساعين منهم إلى منافسته في الانتخابات الرئاسية في 2018 وسجنهم. بدلا من انتقاد السيسي بما يتناسب مع هول هذه الفضيحة، بادر ترامب علنا، في أكثر من مناسبة، بامتداح قدرات “ديكتاتوره المفضل” على قمع شعبه. بل وحاصر ترامب غضب مجلس الشيوخ (يسيطر عليه حزبه الجمهوري) من انتهاكات السيسي لحقوق الإنسان. وألجم ردود الفعل الغاضبة في وزارة خارجيته على تباطؤ السيسي في الإفراج عن مواطنين أميركيين مصريين وموت أحدهم. ثم بادر ترامب بعرض توسّط إدارته في النزاع بين إثيوبيا ومصر حول مياه النيل، ودعم بقوة لافتة موقف السيسي. وبعدما انسحبت إثيوبيا من مشاورات الوساطة، قال ترامب إن السيسي قد يقصف سد النهضة، موحيا بشكل غير مباشر بأن أميركا لن تمانع، أو تحتج، لاحقا، على الضربة المحتملة.

برحيل ترامب المتماهي، سيختلف نمط العلاقة ليس فقط مع السيسي، ولكن أيضا مع عدد كبير من الأطراف الدولية الأهم كثيرا لأميركا من مصر والسيسي. والسيناريوهات المحتملة للعلاقة بين الإدارة الجديدة ومصر ستتوقف على عدة عوامل. منها مدى أولوية مصر على جدول أعمال رئيسٍ يرث دولةً كشفت انتخاباتها عن انقسام حاد في المجتمع حول قيمه وأولوياته. كذلك يرث بايدن شبكة تحالفاتٍ شبه منهارة مع أهم حلفاء أميركا في أوروبا والعالم. أحد أهم العوامل المؤثرة في صياغة علاقة الإدارة الجديدة مع مصر استقرار فريق بايدن على استراتيجيته الخاصة بالشرق الأوسط، والتي تراوح بين إدارة الظهر تماما للمنطقة والارتباط المحدود جدا بها. طبيعة تفاعلات السيسي ذاته في الأشهر القليلة المقبلة ستلعب دورا في الصياغة الجديدة. أيضا ما يحدث في مصر ذاتها يمكن أن يلعب دورا مؤثرا. مثال ذلك اضطرار إدارة أوباما في يناير 2011 لتغيير سياستها، ووضع مصر على رأس جدول أعمالها. بل إن ما قد يحدث في إيطاليا الشهر المقبل ربما يلعب دورا حيويا في هذا السياق، إذا مضت خطط عقد محاكمة علنية لضباط الأمن المصريين المتهمين بتعذيب الطالب الباحث جوليو ريجيني حتى الموت قبل نحو خمس سنوات.

على الرغم من أن ترجيحاتٍ بعينها تطفو على سطح تحليلاتٍ كثيرةٍ تسعى إلى الإجابة عن سؤال أي أفق للعلاقات المصرية الأميركية، إلا أن السيناريوهات ما زالت مفتوحة ومتعدّدة. من الملاحظ أن أغلب التحليلات لمخاوف السيسي تنطلق من توعد بايدن له بالاسم، وتعهّده بألا يصمت على انتهاكاته لحقوق الإنسان، وألا يمنح “ديكتاتور ترامب المفضل” شيكاتٍ على بياض، ما قد يوحي بالعودة إلى استخدام المعونة الأميركية للضغط عليه لتخفيف قبضته على أعناق المصريين. ولكن مخاوف السيسي أعمق بكثير، وعلى الأرجح، تنبع من القاهرة قبل واشنطن. فلقد اختبر السيسي قدراته منذ سبع سنوات على الصمود في وجه ضغوط واشنطن في أعقاب انقلابه الدموي على أول رئيس مدني ومنتخب في مصر منذ نحو سبعة عقود.
المشكلة الآن مختلفة، فهي لا تنحصر في رياح الضغط التي يخشى أنها تتعبأ للانطلاق صوب القاهرة، فهناك مشكلة في قدرات السيسي ذاته، فالشعبية التي كان يحظى بها قبل سبع سنوات تبخرت على نار التدهور الهائل في الوضع المعيشي للمصريين، وإفراط السيسي في قمعهم من دون حساب. والدعم الخليجي الذي تدفق منذ سبع سنوات “كالرز”، وفقا لتعبير شهير لرئيس المخابرات المصرية حاليا عباس كامل، في حوار مسرّب بينه وبين السيسي، توقف بسبب الأزمة الهائلة التي تمر بها أغلبية الدول المصدرة للنفط في أعقاب الانهيار غير المسبوق لأسعاره في بداية العام الحالي، ومرشحة للاستمرار حتى نهاية العام المقبل على الأقل، بينما سيتطلب تعافي دول الخليج منها عدة أعوام أخرى. بينما تواجه مصر أزمة اقتصادية غير مسبوقة، نتيجة انهيار متحصلاتها من العملات الأجنبية من قناة السويس والسياحة وتحويلات العاملين في الخارج، وهي الأزمة المرشّحة للتفاقم خلال عام 2021، مع استمرار وباء كوفيد 19، في وقت تضاعفت فيه ديونها الخارجية لتصل إلى نحو 120 مليار دولار. وهذه الانحدارات الاقتصادية الحادّة لم تكن كلها حتمية، بل لعبت سياسات السيسي الاقتصادية دورا حاسما في مفاقمتها، خصوصا من خلال التوسع السرطاني للجيش في النشاط الاقتصادي، وفي مشروعاتٍ غير منتجة ولا تخلق فرص عمل كبيرة للمدنيين، بل وطاردة لفرص الاستثمار الخاص المصري والأجنبي في مشاريع منتجة ومشغلة للمدنيين.

ولكن من ناحية أخرى، من المحتمل تحوّل رياح واشنطن الضاغطة إلى عواصف غير مسبوقة منذ نحو نصف قرن. يختلف الحزبان الرئيسيان، الديمقراطي والجمهوري، في أميركا بشكل حادّ حول كثير من قضايا السياستين الداخلية والخارجية، ولكن إحدى القضايا التي تشكّل نقطة التقاء بينهما، هي عدم التسامح إزاء جرائم حقوق الإنسان التي ارتكبها محمد بن سلمان في السعودية وعبد الفتاح السيسي في مصر. من المفارقات أن ذلك هو أيضا موقف الجناح التقدمي الصاعد بقوة في الحزب الديمقراطي. من ناحية أخرى، هناك اتجاه متنام منذ سنوات في أميركا يعتقد أن الاطار الحالي لعلاقة الشراكة المتميزة بين الولايات المتحدة ومصر أمر ينتمي للماضي، ولا يجسده حاضر العلاقة المشبع بالمرارات، ولا يرشّحه لأي مستقبل جدير بالتعويل عليه. نشأت هذه الشراكة في سبعينيات القرن الماضي، ليس فقط لأن مصر كانت أول دولة عربية تشق طريق السلام مع إسرائيل، ولكن لأنها أيضا كانت الدولة القائدة في النظام الإقليمي، وفي منطقة حيوية للعالم.
يعتقد الآن مفكرون استراتيجيون أن مصر فقدت، منذ سنوات، أهميتها الاستراتيجية في المنطقة والعالم، لحساب دول أصغر منها في الخليج العربي. وأن العالم العربي كله لم يعد له الأهمية التي كان يمثلها لأميركا خلال القرن الماضي. بعض المتبنين لهذا التقييم والتوجه هم ضمن فريق الرئيس بايدن. أحدهم ألّف كتابا صدر قبل أيام من إعلان فوز بايدن في الانتخابات، يتناول مستقبل السياسة الأميركية في ظل الرئيس الجديد مع مصر والعالم العربي. في مقالٍ سابقٍ لنشر الكتاب بعدة أشهر، كتب المؤلف أن من المحتمل أن تكون مصر بسبيلها للانتقال من طور الدولة الكبيرة التي لا يجب أن يسمح العالم بتحولها إلى دولة فاشلة (لما قد يكون لفشلها من تداعيات سلبية دولية هائلة)، إلى طور الدولة الكبيرة التي يصعب لذلك على المجتمع الدولي تحمل كلفة إنقاذها من فشلها الاقتصادي والسياسي المزمن. إذا ساد ذلك التوجه الجذري لإعادة تقييم أولوية مصر في السياسة الخارجية للإدارة الجديدة، فإن إدارة السيسي ستواجه زلزالا سياسيا واقتصاديا، لا يمكن اختزاله في الفقدان المحتمل لمعونة عسكرية سنوية مقدارها 1.3 مليار دولار، فقد ساعد وضع مصر شريكا متميزا لأميركا، علي تسويقها في شبكة العلاقات الدولية نصف قرن، لتصير في مقدمة قائمة الدول المؤهلة لتلقي القروض والمنح، حتى على حساب دول نامية أكثر احتياجا. أحدث مثال لذلك القرض أخيرا من صندوق النقد الدولي الذي تغاضى عن المطالبة حتى بالحد الأدنى من الشفافية المطلوبة من مصر، وفقا لقواعد الصندوق ذاته، وتواطأت إدارته بشكل فاضح على الفساد المتفشّي في اقتصادها، خصوصا مكوّنه العسكري، على الرغم من مطالبات المنظمات الحقوقية المصرية والدولية بذلك مسبقا. في حال فقدان مصر هذا الوضع المتميز في العلاقة مع أميركا، فقد تفقد أحد أهم الدوافع لإنقاذها من كوارث الإدارة غير الرشيدة لحكامها، مثلما ستفقد من يضغط على المؤسسات المالية الدولية لمساعدتها بشروط ميسرة كلما لجأت إليها، في وقتٍ لم يعد حلفاؤها الخليجيون قادرين على توفير مظلة إنقاذ بديلة.

تلك المتغيرات الكبيرة في الوضع الداخلي في مصر، السالف الإشارة إليها، والتدهور المتسارع لمكانتها إقليميا ودوليا قد تفسر التوتر العصبي الحاد الذي يطبع تصرفات أجهزة السيسي الأمنية بعد فوز بايدن، وتجعله يبدو كأنه غير قادر على رؤية الوقائع بحجمها الطبيعي، فهو يقرأها بعدسات 20 يناير المقبل “المكبّرة”، أي يوم يتولي بايدن رسميا منصب الرئيس. مثال ذلك إلقاء هذه الأجهزة القبض على ثلاثة حقوقيين خلال أيام معدودة، ثم إصدار وزارة الخارجية بيانات تفسيرية مرتبكة، وبلغة حربية لا تتناسب مع حجم الوقائع، ليعرض الإعلام الذيلي المرتبك هذه البيانات بطريقةٍ أكثر سخونة وبلغة عدوانية موجهة إلى أطراف دولية أخرى لا يسمّيها، حتى ليبدو أن مصر تستعد لرد عدوان عسكري. ربما تكشف هذه العصبية الحادّة أن الخيارات المتاحة أمام السيسي إما أنها سيئة جدا له أو محدودة جدا.
عندما يختار جنرالٌ لم يحارب أبدا قبل أن يتقاعد، فإنه غالبا يختار الحرب. هذا ما فعله السيسي مع المصريين منذ تولى حكم مصر فعليا عام 2013، لذا سيكون خياره الأول الأكثر اتساقا مع شخصية رئيسٍ مختالٍ بنفسه، تعمّدت شرعيته السياسية بالقمع وبدماء آلاف المصريين الأبرياء، خيار من ينظر إلى أي تصحيح لسياساته الكارثية هزيمةً شخصية له. لذلك سيسعى السيسي، على الأرجح، إلى تسويق التطور الخشن المحتمل في العلاقة بالإدارة الأميركية الجديدة باعتباره “دفاعا عن استقلالية القرار المصري” و”حماية لاستقرار الدولة” و”مقاومة للضغوط الخارجية الهادفة إلى إعادة الإخوان المسلمين إلى الحياة السياسية ثم للحكم”. في سياق الإعداد لمعركة محتملة مزعومة حول “استقلالية الإرادة الوطنية”، بعد استلام بايدن الحكم، من المرجّح أن يتشدّد السيسي أكثر في ممارساته القمعية ضد المجتمع المدني والليبراليين، ويزيد عدد من ينظر إليهم بوصفهم رهائن، يظن أنه ربما يمكنه لاحقا أن يقايض عليهم الإدارة الأميركية الجديدة.

القبض على ثلاثة حقوقيين مثال ساطع. وضع المناضل العلماني والحقوقي علاء عبد الفتاح على قوائم الإرهاب، في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، عنوان آخر مهم لهذه السياسة الجديدة. هدف السيسي ليس الدخول في صدامٍ مفتوح ممتد بلا نهاية مع بايدن، بل نمط من الحوار الخشن الذي يستهدف تليين المواقف المحتملة للإدارة الجديدة ومقايضتها، مقابل عدم تبنّيها مطالب بتغيير نوعي في طريقة إدارته حكمه التسلطي. إنها معادلة بسيطة؛ مقايضة لأفراد مصريين مقابل استمرار الديكتاتورية على كل المصريين. في هذا السياق التفاوضي الخشن، من المرجّح أن يبادر السيسي إلى خطوات انفتاحية أكثر على خصوم أميركا، وخصوصا روسيا والصين، غير أنها مبادرات قصيرة العمر، سيكون لها، على الأرجح، تأثير إعلامي أكبر من تأثيرها السياسي على الأرض، فالسيسي في مسيس الاحتياج للوساطة مع إثيوبيا بشأن مياه النيل، فضلا عن الاحتياج لتدخل أميركا وشركائها لضمان التعويم المالي لدولةٍ اعتادت أن تنفق ببذخ سنوات طويلة أكثر مما تنتج، وليس لديها الإرادة اللازمة لمراجعة السياسات التي دفعت بها إلى المستنقع الاقتصادي الذي بدأت تحفر طريقها إليه في خمسينيات القرن الماضي.
أخيرا، نظرا إلى أن الجيش ركيزة حماية الرئيس ومنصة ترشيحه منذ جمال عبد الناصر، فإن الخيارات الكبرى في مصر منذ 1952 لم تكن يوما في يد الرئيس وحده. العلاقة مع الولايات المتحدة صارت تدريجيا خلال النصف قرن الأخير من القضايا الرئيسية التي لا يستطيع الرئيس أن يتخذ فيها قرارا كبيرا من دون توافق مع الجيش. هذا ربما يفتح المجال لتأملاتٍ خارج نطاق هذا المقال.


المصدر: العربي الجديد

Share this Post