بهي الدين حسن
في أعقاب الكارثة الأخيرة – لن تكون الأخيرة – التي أحاقت بالمسجد الأقصى، هاتفني أحد معدي البرامج الإذاعية، لكي أدلي بتعليق تلغرافي في برنامج عاجل بمناسبة الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة –لن تكون الأخيرة- على المسجد الأقصى.
شعرت بهم ثقيل، لا يقل ثقلا عن كارثة الاعتداء الأخير –لن يكون الأخير- فليس لدى ما أقوله، سوى تكرار الكلام “البايت” الذي أقوله، أو أكتبه أنا وغيري بمناسبة اعتداءات مماثلة على الأقصى وغيره، على مدار العقود الأربعة الأخيرة.
قررت أن أتناول الكارثة بشكل مختلف، فوضعتها في سياق الحرب الأهلية الجارية بين فتح وحماس، والتي حصدت في اليوم السابق على كارثة الأقصى الأخيرة –لن تكون الأخيرة- نحو 300 قتيلا وجريحا، وقبلها بأيام كانت قد حصدت نحو 80 آخرين، بينهم أكثر من 25% أطفال ! قلت إن ما يحدث بين فتح وحماس يقدم لإسرائيل الغطاء المناسب، ليس فقط للاعتداء على الأقصى، بل لاستباحة ما تبقى من بقايا فلسطين، وإقناع العالم بأن الفلسطينيين غير مؤهلين لإدارة دولة مستقلة، بعد أن عجزوا عن إدارة خلافاتهم بطريقة سلمية، وقتلوا من الفلسطينيين في يومين عددا لو قتلته إسرائيل لطلبت الجامعة العربية عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن.
بالطبع لعنت إسرائيل وجرائمها بقوة في نهاية تعليقي، ولكن يبدو أن حديثي لم يعجب معد البرنامج، فأعاد طرح السؤال بطريقة مختلفة، لكي أركز فقط على كارثة الأقصى الأخيرة –لن تكون الأخيرة- فأجبت بما أقوله ويقوله غيري طوال 4 عقود. شعرت بارتياح المذيع، وكدت أسمع شهقات إعجاب المستمعين أيضا !
هناك كارثة لا تقل فداحة تتعلق بالرأي العام في العالم العربي، وهى ازدواجية المعايير المتجذرة في وجدانه، وبمقتضاها صار الضحايا في العالم العربي أو الإسلامي لا قيمة لهم، ما لم يسقطوا بحراب أو نيران طرف أجنبي، أما عندما يذبحون ويحرقون، بل وتغتصب نسائهم بواسطة إخوان لهم عرب ومسلمون، فإنه لا قيمة لهم، بل تجري أحيانا نوعا من المباركة غير المباشرة، وذلك بالاستعداد السريع لتصديق الجناة وأبواقهم بأنها نتيجة مؤامرة إمبريالية أو صهيونية! واتساقا مع ذلك، لم ولن يتخذ الرأي العام العربي موقفا مسئولا من الحرب الأهلية الفلسطينية الوشيكة بين حماس وفتح، يتناسب مع جسامتها، مثلما لم يتخذ موقفا مسئولا من قبل من مذابح المخيمات الفلسطينية في بيروت وطرابلس في الثمانينيات على أيدي ميليشيات فلسطينية وحركة أمل، بدعم وغطاء من سوريا، والتي ما زالت “دولة الصمود والتصدي” ! مثلما لا يتخذ الرأي العام العربي الآن موقفا مسئولا يرتفع لمستوى هول المذابح الطائفية اليومية المتبادلة بين شيعة وسنة العراق، والتدمير المتبادل للمساجد والمواقع الإسلامية المقدسة هناك.
إن الضمير الجمعي العربي ينبذ حتى الآن مجرد الاعتراف بأن هناك مئات الألوف من الأكراد والشيعة قتلوا في عهد صدام حسين، فضلا عن مئات الألوف من الإيرانيين والكويتيين في حروب غير مشروعة، خاضها السفاح الذي صار شهيدا في عيون كثيرين في العالم العربي!
دارفور لا تختلف، فمن يتابع وسائل الإعلام العربية، لن يجد دارفور على الأرجح، عند الحديث عن الكوارث والمآسي الإنسانية، ولكن بالأحرى في سياق الحديث عن المؤامرات الإمبريالية والصهيونية، وسيصدم المؤرخ لهذه الفترة الأكثر كآبة في العالم العربي، عندما يجد أن أسماء لامعة من علماء الإسلام والمفكرين والكتاب والإعلاميين العرب، كانوا أكثر حرصا على التخفيف من حقيقة هول مأساة دارفور أكثر من الحكومة السودانية ذاتها! وجذب الأنظار والأنوف والآذان “للمؤامرة الإمبريالية إياها”، حتى لا نرى فظاعة الكارثة، أو نشم رائحة جثث الضحايا، أو نسمع صراخ اللواتي يتعرضن للاغتصاب كل يوم ! ويفلت الجاني بجريمته.
في دارفور سقط خلال ثلاثة أعوام أكثر من مائتي ألف قتيل، وتحول نحو 2.5 مليون آخرين إلى لاجئين خارج السودان أو نازحين إلى مناطق أخرى، وتعرض النساء والفتيات للاغتصاب الجماعي. ولكن ذلك لم يكن كافيا لإيقاظ الضمير العربي أو الإسلامي!
وإذا نحي المرء جانبا معايير حقوق الإنسان، بل الاعتبارات الإنسانية المجردة، واستدعي معايير القبيلة العربية، فإنه يحق له التساؤل وفقا لهذه المعايير: لماذا شرف المرأة المسلمة في البوسنة أكثر قيمة من شرف المرأة المسلمة في دارفور؟ لماذا كان غضب مفكري وكتاب العرب والمسلمون على الاغتصاب الجماعي للنساء المسلمات في البوسنة؟ ولماذا هذا الصمت المخزي على الاغتصاب الجماعي للنساء المسلمات في دارفور؟!
في البوسنة قام الصرب باغتصاب جماعي واستخدام للنساء كسلاح حقير في حرب التطهير العرقي؟ وفي دارفور يقوم السودانيون المسلمون باغتصاب جماعي للنساء المسلمات وفتيات في عمر الطفولة، بشكل جماعي كسلاح حقير في النزاع المسلح هناك؟
فإذا لم يكن هناك احترام لحقوق الإنسان ولحرمة النفس الإنسانية (!) فأين هو حتى معيار الشرف في قيم القبيلة العربية والمسلمة؟!
اتفاق مكة بين فتح وحماس لم يأت بجديد، إن عناصره كلها متفق عليها وأعلن عنها في محطات سابقة –هى استراحة المحارب بين كل جولتين- آخر هذه المحطات كانت في دمشق بين أبو مازن وخالد مشعل أيضا. اتفاق مكة قد يكون راحة أخرى للمحاربين لالتقاط الأنفاس، وحتى يكون الأخير لابد للرأي العام في العالم العربي أن يتخلى عن ازدواجية معاييره، وأن يكون له كلمة، وإلا فإن “مكة” لن تكون حتى المحطة قبل الأخيرة !
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=90023
Share this Post