معتز الفجيري
أكاديمي وحقوقي مصري، المشرف العام على مجلة رواق عربي الصادرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.تتجنّب السلطة في مصر اعتبار أنّ أزمةَ الاقتصاد المتجدّدة في البلاد لا يمكن عزلها عن أزمةِ السياسة، وعن اختياراتِ السلطة السياسية التي تؤثّر بالتأكيد في تسييرِ الاقتصاد. لا ينبئ التشكيلُ الجديد للحكومة المصرية، وكذا التصريحات الصادرة عن هذه الحكومة، بتغييرٍ في نهجها الاقتصادي والسياسي. ويبدو أنّ الأمور ستسير كما هي على جميع الأصعدة، ورغم ذلك، تُقدّم الوعود بتجاوز أزمةٍ اقتصاديةٍ مستفحلةٍ تضرب في عمقِ الإدارة السياسية للبلاد. تبقى الصورة العامة للاقتصاد المصري مُقلقة، وحتى وإن تحدّثت بعض المؤشراتِ أخيراً عن ثباتٍ تدريجي في أسعارِ الصرف نتيجة نمو الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي، أو انخفاض محدود في معدّلات التضخم، وتراجع محدود في عجزِ الموارنة العامة، وانخفاضِ حجم الديْن العام الخارجي ليصل إلى 160.6 مليار دولار مع نهاية شهر مارس/ آذار في مقابل 168 مليار دولار نهاية ديسمبر/ كانون الأوّل العام الماضي. هذه المؤشّرات هي وليد حقنة المسكنات الطارئة أو ما يمكن اعتبارها خطّة إنقاذ للأزمة المالية، تحصّلت عليها الحكومة المصرية في الوقتِ المناسب، والدولة على حافة كارثةٍ في مارس/ آذار الماضي، من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، والإمارات، فضلاً عن الزيادة الملحوظة أخيراً في التحويلاتِ النقديّة للمصريين في الخارج.
لكن المؤشّرات الاقتصادية العامة في مصر ما زالت تعكس خللاً عميقاً في بنيةِ الاقتصاد المصري، والتي تتمثّل في انخفاضِ القوّة الشرائية للجنية المصري، بما له من آثارٍ مؤلمةٍ على ذوي الدخول الثابتة والفقراء في مصر، وزيادة أسعار السلع والخدمات الأساسية، وزيادة عجز الميزان التجاري، والزيادة الرهيبة في الديون، حيث وصل حجم الدين العام الداخلي والخارجي نحو 96٪ من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة خدمة الدين 47٪ من إجمالي الموازنة العامة، وتمثّل 69٪ من إجمالي الإيرادات الحكومية. تعكس أزمة الديون اختياراً سياسياً للسلطة الحاكمة دفعتْ فيها البلاد إلى الاقتراض غير المسبوق طوال السنوات الماضية، ليس لدفعِ الاستثمار والإنتاج، ولكن للاستثمار في مشروعاتٍ وأصولٍ ليست لها عائدات متوقّعة على المدى القصير أو المتوسّط، لكن كان لها وظيفة سياسية ودعائية حيويّة للرئيس عبد الفتاح السيسي. تراكم هذه الديون جعل مصر، وبحسب تعبير الباحث الاقتصادي المصري، عمرو عادلي، تتطابق مع نموذجِ “دولة الديون”، حيث تؤثّر الديون على قدراتِ الدولة في تخصيصِ موارد مالية للإنفاق الاجتماعي مقابل استغلال الإيرادات العامة لسداد أعباء الديون المُتراكمة، سواء دوليّاً أو محليّاً. كلّ هذه الأخطاء الجسيمة يدفع فاتورتها المصريون حاليّاً.
وعلى الرغم من أنّ القطاع الخاص المصري يشكّل نحو 71% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن تأثيره الفعلي على معدّلاتِ النمو والإنتاجية والتوظيف، بحسب عمرو عادلي، يظلّ محدوداً للغاية بالاعتماد على المعدّل المحدود لمشاركةِ القطاع الخاص في معدّل التكوين الرأسمالي الإجمالي، والذي يقدّم تقييماً فعليّاً لمساهمةِ الأصول الماديّة ذات الأثر الإنتاجي التي تنضاف إلى الاقتصادِ سنويّاً. ويُرجع عادلي هذه المساهمة المحدودة إلى انهماكِ القطاع الخاص في أنشطةٍ اقتصاديةٍ منخفضةِ الإنتاجية، وزيادة حصول الحكومة على القروض البنكية لتمويلِ العجز الحكومي بالمقارنة بنصيبٍ محدودٍ للقطاع الخاص المصري من قروض البنوك. ومن أهم المعوّقات التي ما زالت تُواجه الاستثمارات الخاصة في مصر غياب ضوابط لدور الدولة، ولا سيما المؤسّسة العسكرية في الاستثمار. وكان صندوقُ النقد الدولي قد وضع بعض الشروط المتعلّقة بالسيطرة على تدخّل الدولة والجيش في الاستثمار ومزاحمة القطاع الخاص، وهي الشروط التي سيكون لها بالضرورة تداعيات سياسية على السلطة الحاكمة وتحالفاتها واستراتيجياتها في البقاء، والتي تستند، في الأساس، على العلاقةِ الوثيقة، والامتيازات المُتبادلة بين الرئيس والمؤسّسة العسكرية، حيث جرى تنفيذ المشاريع القومية الضخمة خلال الأعوام الماضية بالتكليف المباشر لشركاتِ الجيش بتنفيذها، مثل مشروعي العاصمة الإدارية الجديدة وتوسيع قناة السويس.
لم تساعد هذه المشاريع، بحسب تقدير خبراء اقتصاديين، في تحسين الحالة التنافسية للاقتصاد المصري أو رفع إجمالي الطلب المحلّي، لكنها كانت أداة لتعظيم منافع الجيش وامتيازاته من خلال الاقتراض الضخم الذي يتم تحميل أعباء سداده على المصريين. وفي تقييم منشور في إبريل/ نيسان الماضي عن المساعدات الجديدة المقدّمة لمصر، والتي تُعَدُّ ثاني أكبر مُقتَرِض من الصندوق، جدّد صندوق النقد الدولي ضرورة تقدّم الحكومة في مصر في ملف ملكية الدولة ودور الجيش في الاقتصاد. وتتضمّن شروط الصندوق وضع الشركات المملوكة للجيش في وضعٍ تنافسيٍ مُنصفٍ مع الشركات المدنية والالتزام بتقديم الحسابات المالية نصف السنوية لهذه الشركات، والخضوع للرقابة، وإلغاء الإعفاءات الضريبية، وإجراء المشتريات العامة بطريقةٍ تنافسيةٍ وشفافة.
ويبدو أنّ النهج الذي ستستمر فيه السلطة الحاكمة هو السعي إلى تأجيل الإصلاحات الاقتصادية والمؤسّسية والسياسية المطلوبة عبر المناورة وتوظيف الفرص السياسة الدولية والإقليمية لتجديد تأمين المجتمع الدولي ومساندته وتأمين تدفقات مالية من دولِ الخليج إلى مصر، وضمان ضغط الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، على المؤسّسات المالية الدولية لاستمرار الدعم، وداخليّاً عبر استمرار القمع، وإعادة تشكيل خريطة الحلفاء المدنيين والأحزاب بتقديم وعود وامتيازات لبعضها من خلال استمرار هياكل من شاكلةِ الحوار الوطني، وتوزيع حصص تمثيليّة للأحزاب في الانتخاباتِ البرلمانية العام المقبل، مقابل تقديم غطاء سياسي شكلي، داعم للرئيس والحكومة، وتحت سيطرة الأجهزة الأمنية والمخابراتية مع بقاءِ النفوذ السياسي والاقتصادي للمؤسّسة العسكرية. وقد أظهرت تعيينات المحافظين أخيراً استمرار هيمنة العسكريين على مناصب المحافظين، وتعيين نائب لرئيس الوزراء من العسكريين، وهو الفريق كامل الوزير، فضلاً عن توليه وزارتي النقل والصناعة. ويستمر رهان السلطة في مصر على أنّ حلفاء النظام سيتدخّلون في اللحظةِ الأخيرة لوقف أيّ انهيارٍ مُحْتَمل. لكن الاستمرار في هذا النهج سيفاقم بالضرورة من معاناةِ غالبيةِ المصريين الذين لن يشعروا بنتائج أيّ تحسّن تدريجي في المؤشّرات الكليّة للاقتصاد المصري نتيجة خطط الإنقاذ الطارئة ذات الآثار المؤقتة.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post