بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسانعجز العالم العربي خلال موجتَي انتفاضات الربيع العربي اللتيْن تواصلت نحو عقد، في الوصول إلى حلولٍ وسطٍ مناسبةٍ بين نُخَب حاكمةٍ فشلت في الانتقال بالاستقلال الوطني عن المُستعمِر الأجنبي إلى النهوض بالمقدّرات الاقتصادية والإنسانية لشعوبهم وطموحات شعوب عجزت في أن تُطوّر نُخَبَاً سياسية بديلة، لديها مشاريع مدروسة لمستقبل أفضل، وليس مُجرّد شعارات رومانسية ثوريّة. كانت تونس استثناءً لم يدم، للأسباب نفسها التي أعاقت الدول الأخرى. المغرب استثناء آخر بفضل ذكاء نُخْبَة الحكم فيه. دول الخليج الغنيّة بنفطها استثناءٌ من نمط ثالث، لذا صارت مُنفصلة تقريباً عن باقي المنطقة بسماتها الخاصّة، الاقتصادية والسياسية.
نتيجة ذلك العجز في التوصّل إلى حلول توافقية، اندلعت حروب أهلية، وصراعات مُسلّحة ضارية، وانقلابات عسكرية، في دول عربية عدّة، ارتُكِبت خلالها جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية، نتجت عنها مآسٍ إنسانية وجيواستراتيجيّة ما زالت متواصلة، فتفكّكت ثلاث دول تتقاسم السلطة فيها أطرافٌ متعدّدة تتمتع بدعم أطراف إقليمية ودولية متصارعة (سورية وليبيا واليمن)، بينما يتهدّد السودان المصير نفسه، وتحتلّ إيران مقعد الحاكم الفعلي في كل من العراق ولبنان، وتصير أكبر دولة عربية (مصر) ثاني أكبر دولة مديونة تعيش على التسوّل من دول الخليج وأوروبا، والمؤسّسات المالية الدولية، بينما تعجز في وضع حدّ للانهيار المتواصل في عُملتها الوطنية، وفي توفير إضاءة يومية مُنتظمة لمواطنيها في منازل عاصمتها ومدنها. خلال آخر عشر سنوات، صارت المنطقة العربية بمثابة رجل العالم المريض، تتنافس القوى الإقليمية الصاعدة (إيران وإسرائيل وتركيا) على اقتسام النفوذ فيه، وقضم أطراف منه. هذا تطوّر غير مفاجئ.
في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 شنّت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) “طوفان الأقصى”. قد تفشل هذه العملية في تحقيق الأهداف الفلسطينية التي وُضِعت لها، أو قد تتجاوزها بتحقيق أهداف فلسطينية أخرى لم تكن مُقدَّرة لها. ولكن من المرجّح أن تكون لها تأثيرات نوعية في العالم العربي، في ضوء أنّه صار ساحة لانهيارات أرضية جيوسياسيّة متوالية خلال العقد الماضي، على النحو الذي سبقت الإشارة إليه أعلاه.
بصرف النظر عن التقييمات السالبة أو الإيجابية لعملية طوفان الأقصى ذاتها، فقد ردّت عليها إسرائيل بإطلاق حرب إبادة واقتلاع للفلسطينيين في غزّة، تحت مزاعم الدفاع عن النفس، ومنحت دفعة أكبر للسعار الاستيطاني في الضفّة الغربية. بينما انبعثت أكبر حركة تضامن شعبي مع حقوق الشعب الفلسطيني في الجامعات الأميركية، ومدن عدّة في أوروبا والولايات المتّحدة، ما اضطر الإدارة الأميركية لتقديم مشروع قرار في مجلس الأمن بوقف إطلاق النار في غزّة (10 يونيو/ حزيران 2024)، رغم استخدامها حقّ النقض (فيتو) لمنع إصدار مشاريع قرارات مشابهة توالت في الأشهر السابقة. كما أعلنت حكومات دول في أوروبا اعترافها بالدولة الفلسطينية.
وبالتوازي، صارت المسألة الفلسطينية في رأس جدول أعمال أكثر محكمتَين أهمّية في العالم. تُحاكَم إسرائيل في محكمة العدل الدولية بتهمة الشروع في الإبادة الجماعية، بينما تبتُّ المحكمة الجنائية الدولية في طلب المُدّعي العام القبض على رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ووزير أمنها يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وتبتُّ كذلك في طلبه القبض على ثلاثة من أبرز قيادات حركة حماس باتهامات مشابهة.
هذا التضامن العالمي مُتعدّد الأطراف والأبعاد، الذي تواصَل أشهراً، لم يواكبه تضامنٌ جماعي شعبي مماثلٌ في العالم العربي إلّا في المغرب، بينما لم تسمح الحكومات العربية بتجسيد نداءات التعبير عن التضامن الشعبي مع الشعب الفلسطيني، إلّا بشكل رمزي في الأردن وفي اليمن، مع اختلاف دوافع السماح، بينما قُبِض على مئات المصريين الذين حاولوا تجسيد هذا التضامن. للأسف، ليست هذه الفجوة الهائلة بين التعبير الشعبي عن التضامن العربي مع القضايا العربية والتضامن العالمي مع القضايا نفسها جديدة. حجم الفجوة فقط هو الذي يختلف. فخلال عامي 2002 و2003، اجتاحت تظاهرات تضامنية حاشدة عواصم ومدناً في أوروبا وأميركا الشمالية تضامناً مع الشعب الفلسطيني، ثمّ احتجاجاً على الغزو الأميركي للعراق، وبلغ عدد المشاركين فيها (في 15 فبراير/ شباط 2003) نحو 20 مليوناً، فيما اعتُبِرَت أكبر تظاهرة في تاريخ البشرية. رغم محدودية تظاهرات التضامن في العالم العربي في ذلك الوقت، مقارنة بخارج المنطقة العربية، إلّا أنّها التظاهرات الوحيدة في العالم التي سقط فيها قتلى، وتعرّض مئات المواطنين للاعتقال والتعذيب، في بعض الدول العربية. لكنّ فجوة سياسية مُركّبة من نمط آخر بدأت تتشكّل ملامحها في الأفق منذ 7 أكتوبر (2023). صحيح أنّه لم يسقط قتلى هذه المرّة في التظاهرات التضامنية العربية المحدودة، ولكن سقط نحو 40 ألف شهيد فلسطيني أمام عيون الجميع، بينما يهدّد نحو مليونين آخرين خطر المجاعة، ما يُعمّق كلّ يوم الشعور بالعجز والعار؛ شعور بالعجز تجاه وحشية آلة الحرب الإسرائيلية والمساندة الأميركية لها؛ شعور بالعجز إزاء ضراوة القمع السياسي والأمني لمبادرات التضامن الشعبي، أو حتّى التعبير عن الشعور الإنساني بالفجيعة؛ شعور بالعار نتيجة مقارنة مدى ضآلة الفعل التضامني الشعبي العربي بمدى حجم وفاعلية التضامن الشعبي في مجتمعات دول تُشكّل في ذاكرة الثقافة السياسية العربية مُعسكرَ الاستعمار والإمبريالية؛ بل مشاركة قطاعات واسعة من اليهود في هذه الأعمال التضامنية، وتبرُّؤ أبرز رموزهم الأدبية والأكاديمية علناً من جرائم الحرب الإسرائيلية؛ شعور بالذهول والعجز إزاء هُزال ردّات فعل الحكومات العربية على وحشية العدوان الإسرائيلي، بالمقارنة حتّى مع موقف هذه الحكومات قبل عشرين عاماً، أو بموقف حكومات غير عربية الآن، مثل جنوب أفريقيا ودول أوروبية ولاتينية.
جامعة الدول العربية ماتت فعلياً (من دون إعلان وفاة) في القضايا كلّها، وليس في المسألة الفلسطينية فقط. الأمين العام الحالي لا يحاول حتّى التظاهر بأنّ الجامعة ما زالت تتنفّس، مثلما كان يتظاهر أمناء عامّون سابقون. بالتوازي مع حرب الإبادة الجارية في غزّة، لم يجد قادة جيوش خمس دول عربية حَرجاً في الاجتماع الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) في البحرين مع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، للتباحث في الأمن الإقليمي. لذا يبدو مُقنعاً ما كتبه اللبناني حسام عيتاني: “إنّ المسألة الفلسطينية قد هبطت في جدول أعمال الحكومات العربية من الشقّ السياسي إلي الشقّ الإنساني”.
يساهم في تعميق هذه الفجوة المُركَّبة، أيضاً، استمرار “حماس” في الاشتباك المُسلّح مع أقوى جيش في المنطقة تسعة أشهر، مقابل نجاح الجيش ذاته في إخراج أقوى جيش عربي (مصر) من ميدان القتال في حرب 1967 بعد ثلاث ساعات فقط، في أعقاب تدميره سلاح الطيران المصري. مع ذلك، هناك مُكوّن فلسطيني حيوي في تخليق فجوة العجز، فالهدف في النهاية هو سياسي وليس عسكرياً، أي الانتزاع الفعلي للدولة الفلسطينية من مداولات القانون الدولي وتحويلها لمؤسّسات حيّة في الأرض. هذا الهدف لا يُحقّقه حتّى تحويل الشعب الفلسطيني كلّه، في الضفّة الغربية وغزّة، لمقاتلين يحملون السلاح. وفقاً للأكاديمي الفلسطيني يزيد صايغ في دراسته المرجعية “الكفاح المُسلّح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية (1949- 1993)”، فإنّ الكفاح المُسلّح استراتيجيّة قد انتهت عملياً عام 1982 بخروج قوّات منظّمة التحرير من آخر دولة عربية مجاورة لإسرائيل كانت تسمح بذلك. بقي بالطبع الحقّ في مقاومة الاحتلال المضمون بالقانون الدولي، أي عمليات المقاومة المتفرّقة التي تحدث من وقت لآخر.
لكن تحقيق هدف الاستقلال يتطلّب تطويرات نوعية ومُؤثّرة في علاقات القوى الدولية والعربية والفلسطينية، وداخل المجتمع الإسرائيلي، ومواقف هذه الأطراف من المسألة الفلسطينية. لا يكفي أن تلوك الأطراف الثلاثة الأولى عبارة “الدولة الفلسطينية” أو “حلّ الدولتَين”، في كلّ مناسبة ومن دونها، لكي يتحقّق هذا الهدف. من الضروري تحويل هذه العبارات الواعدة إلى آلية سياسية تُوجِد حقائقَ في الأرض، خاصّة أنّه لا يوجد أي طرف ذي وزن في إسرائيل، في الحكم أو المعارضة، يقبل ذلك. فأنصار سيناريو الدولتَين أو سيناريو الدولة الواحدة ثنائيّة القوميّة بدأوا في الانقراض في إسرائيل منذ اندلاع العمليات الانتحارية ضدّ المدنيين الإسرائيليين في تسعينيّات القرن الماضي، ثمّ تدشين الصعود التدريجي لأقصى اليمين المُتطرّف. لا يخلو من مغزى أنّ قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار، الذي ترقّبه العالم طويلاً، الذي كانت تلهث وراءه أطراف فلسطينية وعربية ودولية على مدار ثمانية أشهر، لا يجد إرادة دولية لإعماله رغم مرور شهر منذ صدوره.
في المقابل، لا يوجد تحرّك فلسطيني مُؤسّسي جادٌّ نحو خلق الحقائق السياسية على الأرض، هناك أُمنيات. قال رئيس حركة حماس في الخارج، خالد مشعل (يونيو/ حزيران 2024): “السيناريو الأقرب للتحقّق هو انهيار هذا الكيان (إسرائيل) وتفكّكه، وفقدانه مُبرّرات وجوده”. لم يشرح كيف، بينما مفاوضات التوفيق بين حركتَي فتح وحماس تتواصل للعام السابع عشر. تتبدّل مواقع التفاوض من القاهرة إلى الدوحة إلى الجزائر، ثمّ أخيراً في موسكو، من دون حصاد.
السلطة الفلسطينية، التي بُنِيت على النسق السياسي والأمني لحكومات عربية، أهلكها الفساد المالي والإداري، وتعاونها الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي. يقول الباحث المتخصص في الشأن الفلسطيني ناثان براون إنّ “مُؤسّسات السلطة الوطنية قد ذَبُلت وانحطّت وفَقَدت صلتها بمشروع بناء الدولة إلّا في المستوى الخطابي”. لذا، ليس مفاجئاً أن تكون مكانتها السياسية والأخلاقية في الحضيض في نظر الشعب الفلسطيني ذاته، وفقاً لأحدث استطلاعات الرأي (يونيو/ حزيران 2024) في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، التي يُجريها بشكل مُنتظم المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية. رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عبّاس (أبو مازن) هو الأدنى شعبية بين المُرشّحين لرئاسة الدولة الفلسطينية الموعودة، لدى من شملهم استطلاع الرأي. المرشّح الأكثر شعبية في الاستطلاعات دائماً مروان البرغوثي (السجين مدى الحياة، الذي يحتاج مُعجزة لكي تقبل إسرائيل الإفراج عنه) متفوّقاً بفارق كبير أيضاً عن قيادات “حماس” داخل غزّة وخارجها.
في هذا السياق البائس، من المفهوم تماماً أن ينقسم الشعب الفلسطيني بحدّة بشأن خيارات المستقبل، فوفقاً لاستطلاع الرأي المذكور، تراوحت الخيارات بين مواصلة الكفاح المُسلّح، والمقاومة السلمية، وحلّ الدولتَين، والدولة الثنائيّة القوميّة، وحل السلطة الوطنية الفلسطينية.
أخيراً، بصرف النظر عن فحوى أهداف حركة حماس من “طوفان الأقصى”، فإنّها، وردّات الفعل العسكرية والسياسية على تلك العملية، قد شكّلت حافزاً لزلزال سياسي ما زالت هزّاته تتواصل، لكن هناك فجوة أخرى هائلة بين نمط الأماني التي أطلقتها العملية والصمود البطولي للشعب الفلسطيني، والحقائق السياسية المريرة في الأرض، حيث ليس واضحاً بعد طبيعة الحقائق السياسية الجديدة التي ستتخلّق يوماً. يعتقد بعض المُحلّلين أنّ الفجوة الهائلة بين حجم المعاناة الإنسانية الفلسطينية وديناميكية التضامن الدولي الفيّاض معها، من ناحية، والعجز العربي الحكومي والشعبي، من ناحية أخرى، قد يكون مَصدراً لانفجارات عفوية في العالم العربي. قد يكون هذا بمثابة زلزال سياسي من نمط آخر، ربما يكنس معه أنقاض مرحلة فشلِ الدولة القومية في المنطقة، الذي طال أكثر ممّا ينبغي، وربّما يضع المنطقة في أعتاب مرحلة تاريخية جديدة.
Share this Post