محمد سيد سعيد
جريدة البديل، 7 سبتمبر 2008
قصص عشرات من رجال الأعمال شاهد على التشوه الأخلاقي والنفسي الناتج عن الاستقواء بالسلطة السياسية، فضلًا عن استبداد الثروة بذاتها.
ولذلك ينتشر مرض العجرفة والافتراء وعقيدة امتلاك الأرض ومن عليها، بين فئة من رجال الأعمال الكبار المشتغلين بالسياسة، أو بالأحرى المندمجين مع السلطة السياسية، وكثيرا ما تجري ترجمة هذا الاندماج بصورة تفصيلية للغاية. في مجال العمل تنتشر مثلا عادة تشغيل كبار الضباط المسرحين من الخدمة في شركات الأعمال ـ بصفة أو أخري ـ”لتسهيل الإجراءات” أي “تزييت العلاقات العامة للبزنس” على مستوي الحياة اليومية. وحتى في غياب هذا الاسلوب يقوم بعض رجال الأعمال حتى المتوسطين منهم بالسيطرة على مناطق وأحياء بكاملها من خلال صلتهم بالضباط الكبار على نحو أو آخر. ويفخر بعضهم علنًا أنه يوظف أو يشتري أقسام بوليس بكاملها.
أما على المستوى الأعلى فالفخر يدور حول الصلة بالساسة الكبار المحيطين بقمم السلطة السياسية، وعلي المستوي المباشر فإن تقلد وظائف سياسية في الحزب وفي “مجلس الشعب” أو “مجلس الشورى” يضمن علاقات جيدة على كل الأصعدة ويضاعف من القوة السياسية التي تكون الثروة قد اشترتها بالفعل مع الوقت.
هذا الاندماج يسبب فسادًا شاملًا ليس فقط للمجتمع وللاقتصاد وللسوق نفسها، إنه يفسد كذلك الشخصية الإنسانية على المستويين الأخلاقي والثقافي، خاصةً هؤلاء الذين لم يصعدوا السلم من أوله، بل بدأوا بإدارة الثروة التي جمعها الأب العصامي أو بتبديدها في شراء النساء والعلاقات وبالنهاية السلطة أيضا. وبالنسبة لهؤلاء الأخيرين يبدأ الحظ في الابتسام مع التعرف على شخصيات قوية في النظام.. إذ تأتي معها العقود والفرص والمناصب وتتدفق الأموال دون حساب في بضع سنوات، وأحيانا بضعة أشهر.
إبداع في “ظاهرة عالمية”
ويبدو هذا الفساد قانونًا عامًا للرأسمالية، بل ربما قانونًا عامًا للثروة والسلطة حيثما تزاوجا. وإن صدقنا ابن خلدون فالجيل الأول غالبًا ما يكون قويًا وصلبًا، وقد يتلوه جيل ثان أكثر علمًا وأكثر معرفة بالعالم فيضيف، ولا يستغرق الأمر سوي الوقت اللازم لجيل ثالث أو رابع يكون قد تم تدليله، فيمضي في طريق اللاعودة مع الفساد، وتبديد الثروة والانكسار في المنافسة مع “عصاميين جدد” أو شراء السلطة وبالتالي الاحتكار في السوق بالمال.
ولكي لا يصادر أحد على المطلوب بالزعيق الدائم: «ظاهرة عالمية» نقول إن الطبقة الرأسمالية هي التي تحكم أمريكا وأوروبا وكل مجتمع رأسمالي آخر، ولكن معني الحكم ومحتواه الثقافي هنا شيء مختلف تمامًا، وقد اخترعت مصر مع حفنة صغيرة العدد، من الدول المتخلفة، فكرة أن يحكم رجال الأعمال مباشرةً عن طريق منحهم أو تمكينهم من شراء الوظائف النيابية والوزارية، كما أن مصر اخترعت منح هذه الوظائف لشخصيات لا تزيد فكرتها عن العالم وعن السياسة والاقتصاد والقضايا الكلية على ما يعرفه الأطفال.
في أوروبا وأمريكا قد يتمتع كبار رجال الأعمال والسياسة بغرور داخلي شديد، ولكنك لا تلحظه في الخارج. ويبدو بعض رجال الأعمال والسياسة أكثر بساطة وتواضعًا من غيرهم من الناس، وبعض أكثرهم حكمة يبدو وكأنه يطاردك بالأسئلة حتى “يتعلم”، بينما يعرف أكثر منك بكثير. وبعضهم يظهر في الحياة العامة بل والخاصة بطريقة أبسط بكثير جدًا من موظفي مكاتبهم المتكلفين في نيويورك أو واشنطن أو لندن أوهامبورج. والقانون العام هو أن السوق لا ترحم. فعندما يفسد أحدهم بسبب التدليل أو عجرفة القوة غالبًا ما يخرج من السوق، ومع الوقت يخرج من “ذمة الناس” ويصبح مشهدًا مثيرًا للشفقة ولا تأتي سيرته إلا مصحوبةً بلغة تحقير في برامج “الجوسيب” أي النميمة المخصصة للمشهورين.
ويذكرنا هذا الوصف بفيلم غزل البنات فيما أتذكر، حينما يقابل أنور وجدي الخدم فيظنهم الباشا ثم يقابل الباشا الفعلي فيعامله بغرور باعتباره “الخادم الوحيد” في القصر.
هنا بيت القصيد، فالنظام الأمريكي هو بنهاية المطاف ديمقراطي. ومهما بلغ الفساد ذروته فهو لا يشكل مرضًا شائعًا، وثمة قدر ما من التنسيق بين الدولة والطبقة الرأسمالية، وخاصةً فيما يتعلق بالسياسة الخارجية. ولكن لا أظن أن هذه الطبقة تحلم بنوع النفوذ السياسي المباشر الذي منحه نظام مبارك لنظيرتها المصرية. وبكل بساطة رجل الأعمال الأمريكي والأوروبي هو في نهاية المطاف “رجل” أو “امرأة” وليس بأي حال إلها كما يجري النظر له هنا في مصر.
الليبرالية المصرية قبل 1952 بدورها لم تجرد الأثرياء من السلطة السياسية ولكنها لم تتدخل في السوق لتعيد توزيع الثروة بصورة مصطنعة، تمامًا كما فعل نظام مبارك. السوق ظلت سوقًا مستقلة عن الحكومة بينما رجال الأعمال الشاطرون كانوا يتنافسون على بضعة مقاعد في البرلمان، وأكثرهم كان يخسر المعارك الانتخابية أمام الشخصيات القومية التي ألهمت شعبنا بدورها الوطني والثقافي.
التحول الديمقراطي
ويعني ذلك أن انجاز الانتقال إلى الديمقراطية هو الضمان الأساسي، وربما الضمان الموضوعي الوحيد لفك الارتباط العضوي والمباشر بين الثروة والسلطة. وقد تكون الديمقراطية هي أيضًا الضمان الوحيد للحيلولة دون إصابة الأجيال التالية من رجال الأعمال بالفساد الشامل.
لا تضمن الديمقراطية المعروفة من النمط الغربي إنهاء الحكم الطبقي، فالطبقة الرأسمالية تحكم في نهاية المطاف، لأن القرارات والسياسات الكبري تظل متحيزة لرأس المال، ولكن مفهوم الحكم هنا ليس مباشرًا وليس عضويًا، فحكم الرأسمالية اجتماعيًا وليس سياسيًا. ويؤكد علماء السياسة والاجتماع في أوروبا والولايات المتحدة أنه نادرًا ما يهتم رجال الأعمال الكبار بتقلد الوظائف السياسية، أو حتى بإبراز اهتمام سياسي خاص يزيد على غيرهم من الناس.
أما الحصيلة الأساسية للديمقراطية، فهي إدخال الطبقات الشعبية للمعترك السياسي. وهنا تتفوق الديمقراطية في أوروبا بالقطع عنها في الولايات المتحدة، كما تتفوق الأخيرة على معظم بلاد جنوب شرق آسيا، التي تكونت فيها طبقات رأسمالية تعمل بالوظائف السياسية. وبوجه عام يتمتع المجتمع بتجربة ديمقراطية أصيلة، كلما قل احتكار الطبقة الرأسمالية للسلطة والثروة وتضاعفت وتائر دخول الطبقات الشعبية للمعترك السياسي وللحياة العامة بكل مستوياتها.
نظام مبارك قلد النمط الشائع في بعض بلاد جنوب شرق آسيا حيث تسيطر الطبقة الرأسمالية، ليس فقط على الحكم بالمعني الاجتماعي العميق، وإنما على الوظائف السياسية الكبرى أيضًا. ويُسمي هذا النمط رأسمالية المحاسيب، حيث تغدق الدولة الامتيازات على رجال الأعمال الذين تختارهم بالتمييز ضد الآخرين، وقد تمنحهم وظائف سياسية، خاصةً في البرلمانات وفي المجالس المحلية.
ولكن نظام مبارك تفوق في الدمج بين السلطة والثروة على النمط الآسيوي من ناحيتين. فهو أخرج الطبقات الشعبية أو في الواقع الشعب كله تقريبًا بصورة تامة من المعترك السياسي، بل من المجال العام كله. وحتى يستعيد الشعب سلطته المفقودة وحضوره المباشر في المجال السياسي يؤدي القمع وفرض السلبية والاغتراب العام إلى تمكين رجال الأعمال من الهيمنة التامة على المجتمع جنبا إلى جنب مع الشرطة والعسكريين. ويتأهل هذان الطرفان لزواج لا مهرب منه مهما كان النفور المتبادل قويا.
ومن ناحية أخري، فإن منح الثروة يظل على خلاف النمط الآسيوي عملا سياسيا. فنخبة الحكم هي التي تقرر في النهاية تمكين رجال أعمال بعينهم من الإثراء السريع، عبر أنشطة بعيدة تمامًا عن أن تكون خلاقة أو ذات محتوي ثقافي وفني مهم. والعكس هو الأصل في النمط الأسيوي. فالدولة قد تضفي على رأس المال قيمة سياسية مباشرة. ولكن يتوجب على رأس المال أن يحقق نفسه عن طريق أنشطة تتطلب قدرات تنظيمية وتكنولوجية فذة. وهذا هو تحديدًا ما مكن الآسيويين من منافسة الأمريكيين والأوروبيين بكفاءة. أما في مصر، فالثروة تأتي بصورة أساسية عن طريق الوكالات، وعمليات الاستيراد والتلاعب بالمساعدات والعلاقات الأجنبية، وأنشطة سريعة ذات محتوى فني محدود. ولذلك يتسم أغلب رجال الأعمال ليس فقط بخفة ثقافية بل بخفة شخصية أيضا.
الحضور الشعبي والتوازن الطبقي
يعنينا التأكيد على أن الحضور المباشر للقوي الشعبية وللمثقفين ولأصحاب الخطاب الأخلاقي والديني المستنير هو الضمان الأهم لتصحيح تطور طبقة رجال الأعمال في مصر، وإنقاذ بلدنا من الركود والفضائح. فالاستبداد واحتكار السلطة والثروة هي أصل البلاء الحالي الذي نعاني منه.
غير أن تصحيح بنية السوق يمثل أيضًا ضمانة أساسية أيضًا. فتح الأسواق للدخول والخروج حسب الأداء وصيانة المنافسة أمر أساسي للغاية، عبر تصحيح قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار. كما أن منع السلطة السياسية من التحكم في الأسواق بقرارات علوية سواء للمصارف العامة أو للبورصة أو حتى للبنك المركزي أمر بالغ الأهمية.
إن إنتاج قانون أفضل للشركات المساهمة، يمنح الجمعيات العمومية سلطات حقيقية، ويقلل من ظاهرة الاستيلاءات والإملاءات السياسية، أمر بالغ الأهمية بالنسبة لتطور السوق.
ولا شك أيضًا أن تمكين رجال الأعمال من تنظيم أنفسهم بأنفسهم، وعقد انتخابات حقيقية دون تدخلات سياسية يضمن لهم حق التعبير الحر عن أنفسهم دون حاجة للتقرب من أصحاب السلطة.
وفي السياق نفسه فإن تحرير النقابات لتمكين العمال من التعبير الحر عن أنفسهم بنفس القوة يغرس لدي رجال الأعمال ثقافة التفاوض وليس ثقافة الفرض والقوة، ويقلل كثيرًا من الاندفاع للعجرفة وسوء الخلق.
الشفافية ضرورة لإنجاز نفس المهمة الاجتماعية والسياسية وحتى بالنسبة للمهمة التربوية.
فكل بلد لديه طريقته لتربية طبقته الرأسمالية، وطبقته السياسية. ومنع نظام مبارك الثقافة المصرية الأصيلة من إنجاز هذه المهمة، فتضخم قطاع من رجال الأعمال سيئي التربية
Share this Post