محمد سيد سعيد
جريدة البديل، 9 يوليو 2008
أنسنة التفسير الديني وديمقراطية تعرف طريق العقل والضمير الحي والعمل المجتهد
ليس من الصحيح أن مصر والمصريين فقدوا صورتهم الايجابية تمامًا في أعين العالم الخارجي والعالم العربي. في عدد كبير من الدول الأوروبية لا يزال الشباب المصريون بمن فيهم هؤلاء الذين يعملون من تحت الترابيزة” أي بدون أوراق قانونية يبهرون المواطنين الأوروبيين بالعمل الشاق وخفة الظل وتلقائية المشاعر وشعبية التذوق. أما في العالم العربي فيعكس المصريون هذا الصراع المضمر والحاد بين نزعة كثيرين منهم للتشدد الديني وتراث الأكثرية المدني والبسيط والقادر على النفاذ للقلوب.
ومع ذلك فإن الصورة العامة للمصريين تتراجع بكل تأكيد. فالمهم في تكوين الصورة هو موقف النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية. وتتدخل هنا بطبيعة الحال عناصر لا شأن لها بالواقع الفعلي بالضرورة. إذ بعضها انطباعي محض. وعلي سبيل المثال فإن الافتراض الشائع في الغرب، أن الصينيين مجتمع مريح لأنه يقبل أبسط الأجور ويتسم بالانضباط الشديد والقبول بالعمل الشاق لساعات طويلة وبإخلاص تام، ليس دقيقًا على الاطلاق. ومن يزر الصين يعلم أن ثمة قدرًا كبيرًا من “النصب” والسرقة والتفلت من الواجب وخراب الذمم والتزويغ كلما كان ذلك ممكنا. ولا تختلف ثنائية الواقع والصورة هنا عن مجال الطعام مثلًا. فالطعام الصيني له شعبية طاغية في أوروبا وأمريكا لأنه الأرخص والأجود. أما في الصين نفسها فنادرًا ما تجد شيئا مما يقال له الأكل الصيني في أوروبا وأمريكا. فأغلب الأكل التجاري في الأسواق غالي الثمن وسيئ بكل المقاييس.
ومع أن المصريين مازالوا الألطف معشرًا والأكثر التزامًا بالأخلاق والعمل الشاق بين شعوب العالم العربي وإفريقيا فهم بالمقارنة بأنفسهم في الماضي يتراجعون. من منا لا يتساءل عن النكتة المصرية الأصيلة بعد أن صارت النكت بدورها تستورد جاهزة ومترجمة بتصرف؟ من منا لا يشعر بالتوق للماضي حيث كانت المشاعر أكثر صفاءً والنفس أكثر رضا والعقل أكثر صفاءً والتواصل أكثر حميمية واللغة أكثر رقة والتدين أكثر إنسانية ودفئًا وأشد إخلاصًا واتساقًا مع روح الإسلام والمسيحية مما هو عليه الآن؟
وبالأمس نسبنا هذا التراجع الشديد أساسًا لغزو نمط خاص للغاية من الرأسمالية أسماها البنك الدولي رأسمالية المحاسيب؟
وأضفنا بعض العوامل المهمة الأخرى وتحديدًا التفسير القاسي للدين وما ارتبط به من أزمة الثقافة المدنية المحاصرة رغم روعتها وعظمة إرثها في مصر بالذات بالمقارنة مع فقر المجتمعات العربية الأخرى بها باستثناءات قليلة. وأشرنا أيضًا إلى دور الاستبداد وإغلاق قنوات المشاركة وهو ما صرف الجميع تقريبًا عن الاهتمام بشئون بلادهم وجعل علاقة المصري بدولته أقرب للاستقالة الفعلية على اعتبار أنها مشكلتهم وليست مشكلتنا
وتعني استعادة صورة مصر المضيئة في الخارج قبل كل شيء استعادة صورة مصر المضيئة أمام نفسها وأولادها.. وتعني قبل ذلك وبعده استعادة أو بالأحرى بناء واقع ينتج ويعزز ثقافة رائعة كنا امتلكنا بعض نواصيها ولا يزال علينا استكمالها ونسجها كما تنسج الأقمشة الحريرية البديعة أو الروائح العطرية الزكية.
لا مناص أن نختط لأنفسنا طريقًا للتطور في المدي المنظور يتسق مع الصورة التي نريدها لأنفسنا أو تريدها الأغلبية. ويمكننا أن نعين العوامل المكونة لهذه الصورة في الواقع فيما يلي: رأسمالية متوازنة ونزيهة،أنسنة التفسير الديني، ديمقراطية تعرف طريقها للعقل والعمل الشاق والضمير الخالص ومن ثم استعادة وتطوير الثقافة المدنية مصرية الطابع ومصرية الأصل ومصرية المستقبل.
التحديث الصناعي
جوهر المشكلة الاقتصادية المصرية أننا لم نحقق سوي مستوي متواضع من النمو لأسباب كثيرة ينسبها أغلب الاقتصاديين لكثرة التغييرات في السياسات الاقتصادية والصدمات الخارجية. ولكن هناك أسبابًا أعمق. المدرسة المثالية تقودنا للتركيز على العوامل الثقافية والأيديولوجية المتباينة. أما المدرسة الواقعية وينتمي لها هذا الكاتب فتقول إن جوهرها هو الفشل في تحديث الاقتصاد جذريًا وبالذات بناء الصناعة التحويلية الحديثة.
اليوم يتعامل رجال الأعمال مع الصناعة باحتقار ولكنها تظل الطريق الوحيد لتحديث حقيقي، وقابل للبقاء، للاقتصاد مع اكساب المجتمع الكرامة والمهارة الضرورية لبناء اقتصاد متوازن وشامل وقادر على تلبية حاجاتهم المتزايدة.
لقد أوضحنا أن المشكلة الاقتصادية كانت وراء التدهور والتراجع الواضح في الثقافة المدنية والمتسامحة للمصريين. وتقديري هو أن الطريق لحل أصيل للمشكلتين معًا هو العودة للعمل الشاق من خلال ما أراه رأسمالية متوازنة ونزيهة.
ما نريده نحن في تيار اليسار الوطني المصري ليس هدم الرأسمالية كما يصورنا خصومنا الفكريون. فنحن نؤيد بناء نظام رأسمالي يقوم على قواعد نزيهة للمنافسة وحد أدني من التوازن الاجتماعي والطبقي.
لا يمكن أن نصل لرأسمالية متوازنة بدون نقابات عمال وحركة عمالية وفلاحية مستقلة وتنظيم قوي وفعال للمهن الحديثة الكبري. وبدون هذه القوي المتوازنة يظن الرأسماليون ورجال الأعمال أنهم يهيمنون على المجتمع. وواقع الأمر أنهم يفقدون أنفسهم كرأسماليين حقيقيين. فبتعبير الاقتصادي العظيم شومبيتر لا يمكن أن يكون هناك منظمون أو “انتربرينورز” إن لم يتعاملوا مع عمال منظمين وقادرين على التفاوض الصناعي الحر. فالتوازن الاجتماعي والطبقي هو ما يخلص الرأسمالية والرأسماليين من بقايا أو من طغيان الطابع الاقطاعي المرتبط بالاحتكار سواء كان سياسيا أو اقتصاديا.
لماذا نتحدث عن استئناف مشروع مصر الصناعي ونحن نتناول قضية الشخصية القومية. يشكو مجتمع الأعمال في العالم من رجال الأعمال المصريين وحكوماتهم لأنهم متواضعون في الأداء وغير راغبين في الاستثمار الفعلي في أهم مصادر النمو وهو زيادة انتاجية العمل وفي التحديث التكنولوجي..إلخ. إنهم يتسمون بالتبعية الذهنية ويريدون أن يستمروا في الاعتماد على الآخرين وطلب تسامحهم مع التأخير وسوء الأداء وتواضع الانتاج والمنتجات والعزوف عن التجديد وليس إبهارهم كما يفعل الصينيون باستعراض القدرات في أزمنة قياسية.
وبوجه عام يمكننا أن نفهم هذه السمات لأنها تتفق مع اقتصاد خدمات بصورة أساسية. ويعني ذلك أن المرور باقتصاد صناعي ضرورة مطلقة لامتلاك مزايا ومهارات الاقتصاد الحديث بل إنه هو الشرط الرئيسي لانتصار الثقافة المدنية سواء بالمقارنة بالبداوة أو بالاتكالية الفلاحية. ويهمنا هنا أيضًا أن نؤكد الحقيقة التالية: إن النجاح الحقيقي لاستراتيجية التنمية البشرية التي يدعونا لها البنك الدولي وبعض الاقتصاديين الوطنيين يكون عبر التصنيع وليس قفزًا عليه.
ولكن جوهر الأمر كله هو تحرير الاقتصاد بمن فيه رجال الأعمال من عقلية المحاسيب أو الخدم لجهاز دولة آمر وباطش. فالمشكلة الاقتصادية المصرية هي في جوهرها مشكلة سياسية واجتماعية. ثمة بالطبع بقرطة زائدة للاقتصاد تدفع دائمًا للتركيز على الآليات الحكومية وطغيان العمل المكتبي الورقي والأمان الزائد في الوظيفة والشعور بالاستحقاق بصورة منبتة الصلة بالانتاجية والامتياز في العمل. ولكن هذه المشكلات التقليدية كان يمكن حلها عن طريق تحديث العمل الحكومي وتخليص قطاع الأعمال من الذهنية البيروقراطية والقواعد القانونية المتزمتة والجامدة. أما المشكلات المستحدثة، وخاصةً التوجه للخطب والصراعات التوزيعية ذات الطابع السياسي والقائمة على القوة والرغبة في الاستيلاء على ما ينتجه الآخرون أو مدخراتهم وتقليص المخاطرة من جانب من يفترض أن تكون هذه وظيفتهم والميل للاحتكار وعبادة المال وتوقع أرباح عالية بصورة اصطناعية وغير ذلك مما نعرفه عن الواقع المصري المعاصر فلا حل له سوى بالقضاء على رأسمالية المحاسيب أو الفساد وبناء نظام رأسمالي نزيه ونظام اقتصادي يقوم على تعدد أساليب الانتاج والاهتمام بشكل خاص بالمنتج الصغير الحديث وبالقطاع التعاوني وتمكين الدولة من مساعدة وليس ابتزاز هؤلاء باصلاح أجهزتها هي.
إن أنسنة التفسير الديني أمر بالغ الأهمية لانطلاق بلدنا على طريق التطور الذي يحفظ لها أصالتها الثقافية والأخلاقية.
أعتقد أن هذا العامل صار أساسيًا للغاية بالنظر إلى أسوأ ما وقعت فيه الشخصية المصرية من مطبات خلال القرنين الماضيين: أي طلب العودة للقرون الوسطي. إن الثقافة السائدة بين قطاعات واسعة من الشباب المصريين من الجنسين وهي ما تسمي بالسلفية بينما هي في الواقع شكل متخلف بوجه خاص للوهابية تنتسب بكل المقاييس لعصور الظلام. إنها ثقافة اكتئابية كارهة للحياة منغلقة مذعورة من الدنيا كلها مهووسة بالجسد والجنس إلى حد الفصام وبعيدة تمامًا عن تلمس الأبعاد الأخلاقية الحقيقية للاسلام. وما يقال عن التفسير السائد والمتزمت للإسلام بين فئات واسعة من شبابنا يقال أيضًا عن التفسير السائد للمسيحية المصرية.
وعلي العكس فإن ما أكسب المصريين سمات التسامح والمرونة والدماثة الحقة والانفتاح العقلي على العلم وعلي العالم والتركيز على الطيبة والضمير هو أنسنة التفسير الديني.
نعني بهذا التعبير أولًا إدراك أن الدين وجه للإنسان الذي جعله الله خليفة في هذه الأرض واستودعه أمانة بقائها وإعمارها. ويعني ذلك الاحتفال بكرامة الإنسان وحقوقه الأصيلة التي لا يمكن مصادرتها بما في ذلك حق الإيمان أو عدم الإيمان من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والموعظة الحسنة لا قمع وبطش المطوعين والإرهابيين والمجرمين من كل الأصناف المتلفعين بالدين. ويعني ذلك ثالثًا التأكيد على جوهر الرسالة الدينية وخاصةً في ميدان الأخلاق الصافية والخالصة بالمقارنة بالقشور والمظاهر الخارجية بل والطقوس الشكلية. فكل ما لا ينضح بجوهر أخلاقي وإنساني لا يستحق البقاء. وهذا وحده هو ما يمكننا من الدفاع عن قيمة العقل والضمير الخالص. إن تدبر قوانين العالم هو الواجب الديني الأول وهو وحده ما يؤكد النزعة الإنسانية العميقة في رسالة الإسلام والمسيحية.
وفقط بفضل هذه النزعة يمكن استعادة الشخصية المصرية وتراثها المدني المنفتح على الحياة. وبينما يدافع هذا الكاتب عن حق جميع تيارات السياسة في الوجود الشرعي فهو ينتظر قفزة كبري للأمام في الممارسة الثقافية والسياسية للإخوان المسلمين بالذات تنقل فهمهم للإسلام إلى مستوي إنساني ووطني حقيقي. وعندما نعود بثقافتنا إلى أطرها وأوعيتها المدنية ستتطهر ممارساتنا الدينية من التزمت والعنف والإرهاب وستعود خالصة لوجه الله ويعود الوطن مشروعًا مشتركًا لكل المواطنين.
ويتوقف مشروع أنسنة التفسير الديني على مستقبل الدولة أي على الديمقراطية الخلاقة. إننا نعني بهذا التعبير ما أشرنا له من قبل: نظام ديمقراطي يقوم على التراضي العام حول الانطلاق والنهضة وليس فقط نظامًا يعمل بدوافع المنافسة الصرفة أو الانتخابات العامة السطحية.
سيكون ذلك ممكنًا عندما يتم تجديد المشروع الوطني المصري وفقًا لبرنامج متفق عليه بين القوي الحية في بلدنا. والمشروع الوطني كان ولا يزال هو الانطلاق والنهضة الأصيلة من خلال دولة مدنية تقوم على حكم القانون وترعي العدالة.
يعني ذلك بدوره بناء دولة وطنية ذات طابع أو وجه إنساني.
Share this Post