- جيرمي سميث مدير مكتب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في جنيف،
- كريم سالم الباحث المختص بالشأن الليبي في برنامج الحماية الدولية بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
على مدى السنوات الثماني الأخيرة، أصبحت ليبيا تدريجيًا محكومة بأمراء الحرب والجماعات المسلحة، هؤلاء دأبوا على تنفيذ جرائم مروعة وفظائع متكررة، في ظل إفلات شبه كامل من العقاب، حتى مزقت الجرائم الدولة، وجعلت إصلاح مؤسسات الدولة – بما يشمل المنظومة القضائية – أمرًا شبه مستحيل.
هذا الوضع لم يكن يومًا حتميًا. فمن بعد اندلاع المظاهرات الجماهيرية في فبراير/شباط 2011 وسقوط نظام معمر القذافي بعد شهور، شرع الليبيون في عملية إعادة بناء بلدهم. وانتشرت منظمات المجتمع المدني، وارتفع عدد النشطاء والصحفيين الذين بذلوا الجهود لتهيئة دولة حرة وديمقراطية تحكمها سيادة القانون. هذا بالإضافة إلى الإصلاحيين والنشطاء الحقوقيين الذين عادوا إلى ليبيا، بعد خروجهم منها فراراً من نظام القذافي الغاشم. كما بدأ قانونيون في جهود لتعزيز النظام القضائي الليبي، ومن خلفهم مواطنون شجعان اهتموا بكشف انتهاكات حقوق الإنسان الجارية والتمسوا المحاسبة على كل جرائم الماضي. إلا أن هؤلاء جميعًا أصبحوا أهدافًا رئيسية للجماعات المسلحة المصممة على الحُكم بالعنف والترهيب. فشاعت الاغتيالات وعمليات الخطف والاحتجاز التعسفي والتعذيب والتهديدات بحق الإصلاحيين وعائلاتهم، ومازال التهديد مستمرًا.
في الوقت نفسه بدأ المجتمع الدولي في التقليل من أولوية جهود ضمان المحاسبة على جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا. وتُعد الطريقة التي تعاملت بها الحكومات على مستوى مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة مع ليبيا، دالة على هذا التوجه. ففي فبراير/شباط 2011 ومع استمرار المظاهرات في جميع أنحاء البلاد، شكّل المجلس لجنة تقصي الحقائق الدولية المعنية بليبيا. وتم تكليف اللجنة بالتحقيق وضمان المحاسبة الجنائية الفردية على انتهاكات القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في ليبيا. وفي يونيو/حزيران 2011 أكد المجلس على التزامه باستمرار عمل اللجنة. وبعد شهرين، سقطت الحكومة، إذ قُتل القذافي في أكتوبر/تشرين الأول على يد جماعة مسلحة. وفي الجلسة التالية للمجلس، في شهر مارس/آذار 2012، لم تُجدد ولاية اللجنة، وحل محلها قرار يشجع على “التعاون الفني” بين الحكومة الليبية والأمم المتحدة، مع إنهاء عملية التحقيقات الدولية.
وبعد ثلاث سنوات، في مارس/آذار 2015، تبين أن انتهاكات الفصائل المسلحة مستمرة ومتصاعدة، ومن ثم وافقت الحكومة الليبية على السماح ببعثة خاصة من المفوضية السامية لحقوق الإنسان، تتولى التحقيق في الجرائم المرتكبة في ليبيا، وتم تكليف البعثة من قبل المجلس. لكن بعد عام، في مارس/آذار 2016 تم إنهاء عمل البعثة، بعدما أفادت بأن الفصائل المسلحة الموالية للحكومة الليبية، ومنها قوات اللواء خليفة حفتر، ربما ارتكبت جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان.
وفي الفترة نفسها، حذّرت مدعية المحكمة الجنائية الدولية في عدة مناسبات من أن تحقيقاتها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا غير ممولة بالشكل الكافي من الدول الأعضاء. بل أن العديد من هيئات المساعدات الإنسانية الحكومية قد خفضت مستوى أولوية التمويل لصالح مبادرات المجتمع المدني المتصلة بالإصلاحات القانونية والمحاسبة في ليبيا.
وجدير بالملاحظة في هذا الصدد، أن تحقيق المفوضية السامية وتقريره المرفوع للمجلس في 2016، قد سلط الضوء بقوة على تدهور الوضع مع تزايد الهجمات بحق المدافعين عن حقوق الإنسان والصحفيين، وذكر تزايد هجمات الجماعات المسلحة على القضاة والمحامين والمحاكم، كعائق أساسي يعترض إنجاز المحاسبة الفعالة وإصلاح النظام القضائي في ليبيا. على أن هذه التحذيرات لم يراعها أحد. فعلى مدى السنوات الأربع الأخيرة، لم تُظهر أي حكومة التزامًا بتولي زمام مبادرة حماية المسئولين عن إدارة العدالة في ليبيا، أو ضمان المحاسبة الجنائية على الهجمات بحقهم. وسواء كان هذا مقصودًا أو لا، فإن الرسالة المرسلة لأمراء الحرب في ليبيا واضحة: المحاسبة على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات حقوق الإنسان ليست من أولويات المجتمع الدولي. وأن عناصر الفصائل المسلحة الذين يعترضوا طريق الساعين لضمان العدالة وسيادة القانون في ليبيا سيبقون بمعزل عن العقاب، ومن ثم فمن المنطقي استمرار الهجمات في شتى أنحاء ليبيا.
منذ عام 2016، وفي مواجهة العنف والتهديدات بالعنف، إما اضطر العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان والقضاة والمحامين والموظفين الحكوميين السابقين والصحفيين – الذين سعوا لإرساء سيادة القانون والمحاسبة في البلاد – للفرار أو للعيش في خوف مقيم. وفي أحدث واقعة من نوعها، في 7 أغسطس/آب 2019، تم اختطاف مسئول بوزارة العدل على يد جماعة مسلحة. عُثر عليه قتيلاً بعد أيام. وفي مايو/أيار من العام الجاري، اختطفت جماعة مسلحة مديرة منظمة لحقوق الإنسان وعائلتها. وقُتل أربعة من أفراد أسرتها، بينما تمكنت هي من الفرار، ولا تزال تحت التهديد.
واجه الفاعلون بالمجتمع المدني الليبي أيضًا جملة من القوانين والأوامر التي تقيد ممارسة الحقوق المدنية الأساسية. إذ اعتمدت السلطات على الفراغ الدستوري وقوانين عهد القذافي القمعية، مثل قانون المطبوعات لعام 1972 وقانون الجمعيات لعام 2001، في إصدار لوائح وقرارات تقيد كثيرًا من حرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات. وتم استخدام أنظمة تخص وزارة الثقافة والمجتمع المدني في تعليق عمل أو حلّ العشرات من منظمات المجتمع المدني، وإلغاء تسجيل جمعيات ومنظمات دولية. كما أصدرت دار الإفتاء في عام 2018 فتوى تحظر الاتصال بالمنظمات الأجنبية، إلا من خلال وزارة الخارجية الليبية. أما إدارة الإعلام الأجنبي بوزارة الخارجية في حكومة الوفاق الوطني فتلجأ كثيرًا للقبض على صحفيين واستجوابهم. وهناك قواعد قانونية تطالب الصحفيين بإرسال أي موضوع قبل نشره للحكومة التي تؤشر عليه بالموافقة.
يبدو أن المحاولات الدولية لتحقيق وفاق وطني “سلمي” في ليبيا قد خففت من تقدير – أو هي همّشت – المحاسبة الدولية على الجرائم، من أجل إرضاء الفصائل الليبية المسلحة. ولا يقتصر الضرر على أن هذا النهج يحول دون ردع العنف القائم في ليبيا، إنما يؤدي أيضاً إلى التخلي عن حماية ودعم المواطنين الليبيين الذين ناضلوا من أجل المحاسبة على المستوى الوطني ولإصلاح قطاع العدالة.
ثمة حاجة إلى نهج جديد يضع المحاسبة على الانتهاكات الجارية للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنسان على رأس قائمة الأولويات، ووضع تمكين وحماية المجتمع المدني والمواطنين المعنيين بإرساء العدالة والمحاسبة على المستوى الوطني، في القلب من عمليات صناعة القرار الدولية. وثمة خطوة أولى مطلوبة بشدة، هي إعادة مجلس حقوق الإنسان تشكيل لجنة تقصي الحقائق الدولية المعنية بليبيا، وتكليفها بولاية واضحة لجمع الأدلة على الجرائم المُرتكبة في ليبيا، وتحديد المسئولية الجنائية الفردية لمرتكبي هذه الجرائم، مع السعي لإنجاح الجهود الوطنية والدولية الرامية إلى حماية وتمكين المواطنين الليبيين الفاعلين بهذا المجال.
[1] هو المقال هو الأخير ضمن فعاليات ندوة “النزاع الليبي والعدالة الدولية”، إسهام مارك كيرستين في الندوة صدر عبر موقع “العدالة في النزاعات” تجدونه هنا.
المصدر: Libya and International Justice Symposium: Impunity Begets Impunity
Share this Post