الثورة بين استدعاء الأمل وخيانته

In مقالات رأي by CIHRS

مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

«ما من مظاهر نعرفها في الحياة تُقارع ظاهرة الثورة في قدرتها على استدعاء الأمل، وإلهامه، وأيضًا خيانته!»

(آصف بيات، كاتب وأستاذ علم الاجتماع)

لنبدأ بهذه القصة الطريفة لكاتب روسي ساخر: سنة 1920 حين أطلق فلاديمير لينين، منظّر الثورة الروسية وزعيمها، شعاره الشهير: «الشيوعية هي سلطة السوفيات مع الكهرباء» كان برنامجه إيصال النور الكهربائي إلى كل مناطق البلاد الشاسعة، آنذاك، كتب الكاتب الروسي، مخائيل زوشينكو (Mikhail Zoschinko)، قصة ذات أبعاد رمزية عنوانها «الفقر»، تقول أنه حين أدخل الكاتب الكهرباء إلى شقته، ظهر مع الإضاءة الساطعة، الكاشفة لكل أرجاء البيوت، ما لم يكن يكشفه المصباح الزيتي الخافت: فقر مدقع وقذارة مقرفة في كل الأركان حيث «ما إن تضغط على الزر، الآن، حتى ترى كل التفاصيل المزعجة: سرير برزت نتوءاته وفراش ممزق وأريكة كان يعتقد الكاتب إنها جيّدة فانكشفت بطانتها وحشرات تهرول بعيدًا وهي تحاول أن تنقذ نفسها من الضوء ونعل أحدهم القديم في زاوية…» أحزنه وأحرجه ما رأى، لذلك، فضّل العودة إلى المصباح الزيتي حتى يخفي الفقر الذي يعيشه وقال في الأخير: «أيها الأصدقاء! نور الكهرباء أمر جيّد، لكن الحياة تحت ضوئه ليست كذلك». فالشقة التي كانت «مستورة» بشبه ظلامها، أضحت كل عيوبها مكشوفة.

لم يكن زوشينكو من الكُتاب الذين كانوا يروجون للبروباجندا السائدة، فقد قال في عديد المرات أنه لا يحمل أيديولوجيا ولا ينتمي إلى أي حزب، لكن سرّ حب الناس لكتاباته وشهرته الفائقة في أنه كان يريد، عبر فكاهة جميلة وسخرية محببة، دفع الكآبة التي يشعر بها عموم الناس يوميًا، وفي نفس الآن كان يبعث برسالة واضحة، أزعجت السلطات السوفياتية، خاصة زمن حكم ستالين. رسالة مفادها أن المواطن، ينتظر من الثورة برامج تحسّن وضعه الاجتماعي وتعطيه الأمل وتمنحه الحرية، لا إلى أيديولوجيا دعائية تحلّق فوق واقعه البائس وتغطي على فقره المدقع.

الثورة التونسية، التي فتحت الباب أمام ثورات عربية أخرى، لم تكن تحمل أيديولوجيا ولا كانت تقودها زعامات حزبية مؤثرة، وربما كان هذا سبب الالتفاف الجماهيري حولها، لكن ما أن سطعنا نور الحرية الذي لم نعشه منذ استقلال البلاد، حتى ظهرت كل عيوبنا، فقرنا السياسي وانفعالاتنا الأيديولوجية واستعداد النخب السياسية والمدنية لإعادة إنتاج كل الكوارث التي ثار ضدها الشعب، واذا ما سلمنا مع عزمي بشارة بأن النخب السياسية هي التي تتحكم (بنسبة كبيرة ) في عملية الانتقال الديمقراطي، وأن الثقافة السياسية لهذه النخب هي التي تؤثر في الثقافة السياسية للشعوب؛ فإننا أمام انفلات سياسي أذهل جلّ المراقبين: محاولة السيطرة على أجهزة الدولة بكل الوسائل من منطلق الغنيمة وعودة الزبونية ومظاهر الفساد والتوافقات المغشوشة والصراعات الهامشية وإهمال قضايا الشعب، فلا كانت النخب قادرة على إعادة بناء الدولة كهيكل له حرمته وسيادته واستقلاليته ولا هي كانت قادرة على بناء ديمقراطية صلبة عبر الإسراع بتكوين مؤسسات مستقلة تحميها، وقد تمكن شعور خادع وغرور من الجميع مفاده أن الديمقراطية حاصلة ومستمرة ولا يمكن الرجوع إلى الوراء، ولم يدركوا أن الشعب ربط نجاح الديمقراطية بعديد المطالب، ومنها تقدم اقتصادي ملموس وتوازن جهوي يعيد الاعتبار للجهات المحرومة وفرص تشغيل وتنمية حقيقية.

لذلك ما أن اتخذ قيس سعيد قراره بطي صفحة الانتقال الديمقراطي وتكريس حكمه الفردي، حتى وجدت النخب السياسية القديمة نفسها معزولة تمامًا ودون سند شعبي يحميها. فكيف وصلت الأوضاع إلى ما نحن عليه اليوم؟ غياب النضج السياسي الجامع، الذي يمتلك فهما جيّدا للمتغيرات ورؤية شاملة للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية؟ أم استفاقة الغول الأيديولوجي الذي ظل في حالة سبات طيلة أسابيع الثورة؟

يعتقد أستاذ علم الاجتماع الأمريكي، آصف بيات، الذي له معرفة عميقة بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا ودرس نُظمها السياسية وحركاتها الاجتماعية لعقود، أن ثورات الربيع العربي جاءت في مناخ عالمي غابت فيه «الأيديولوجيا الثورية»، لذلك هي تختلف عن تلك التي وقعت في القرن العشرين، مثلا، في كوبا ونيكارغوا وايران الإسلامية، فهي –أي ثورات الربيع العربي– لم تقطع نهائيًا مع اقتصاد السوق ولا هي كانت معادية للرأسمالية والغرب، إذ كان سقفها منخفضًا، يطرح قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ومفهومًا غامضًا وسائلًا للعدالة الاجتماعية… «افتقار ثورات الربيع العربي إلى الإيديولوجيا وميوعة تنسيقها وغياب أي قيادة جامعة أو مفاهيم فكريّة لديها، أمور لم يسبق لها مثيل تقريبًا. ولكن الأشدّ إدهاشًا هو افتقارها إلى أي نوع من النزعة الجذريّة التي وسمت الثورات السابقة، وأن مُثُل الديمقراطيّة العميقة والمساواة وعلاقات التملّك المنصفة والعدالة الاجتماعيّة، بهتت أو كانت موضع خُطب، أكثر مما كان يُحفزها اهتمام صادق يرتكز على رؤية استراتيجيّة، أو برامج ملموسة. في الحقيقة، يبقى السؤال هو إذا ما كان الذي نجم عن الربيع العربي هو ثورات فعلاً، بالمعنى الذي كان للثورات الرديفة في القرن العشرين».

وسوف لن نناقش آصف بيات حول الثورة ومدى قطيعتها مع الماضي، فأهمّ الثورات وأكثرها عنفًا وقطعًا في التاريخ عرفت ارتدادات مربكة أعادت الماضي بكل مساوئه، وفي بعض مراحل يأس فيكتور هوغو (Victor Hugo) خلال حكم نابليون الثالث «نابليون الصغير» كما كان يسميه، بعد الانقلاب العسكري سنة 1851، قال الشاعر والكاتب أن البؤس يدفع الناس إلى الثورة، ولكن الثورة قد تعيد الناس إلى البؤس.

لكن سنناقشه في أهمية الرافعة الأيديولوجية التي يتأسف بيات لغيابها زمن الاحتجاجات، إذ أنني اعتقد جازمًا أن الأيديولوجيا في سيرورتها، هي، عبر حقائقها المطلقة واستقطابها الشديد وتعاليمها الصارمة ورفضها التنسيب، عامل تقسيم وفصل وإفشال، وهي استنطاق لمرجعية تعتبرها مقدسة، تمامًا مثل استنطاق النص الديني، الذي يحوله المفسر عبر تأويلاته وترجماته إلى مرجعيات لا تقبل التشكيك، تبتعد أو تقترب من محتوى النص نفسه، لكن ما من أيديولوجيا، في الحكم، نجحت في تحقيق الرفاه للشعب وحققت أمانيه. بالعكس أغلب أيديولوجيات القرن العشرين كانت لها عواقب كارثية، كما أن الأيديولوجيات القومية العربية التي جاءت كلها إلى الحكم عبر الانقلابات العسكرية وسيطرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين لم تحقق إلا الهزائم المحزنة خارجيًا، والاستبداد المريع في أوطانها، وما وقع كشفه أخيرًا في سوريا من مقابر جماعية وسجون تحاكي المسالخ وروايات مروعة عن أساليب التعذيب والسحل وقطع الأطراف إلا أدلة أخرى على رعب الأيديولوجيا وفشلها الذريع.

وفي تونس، كان حضور الأيديولوجيا بتقسيماتها القاطعة وانغلاقها المرضي وتعاليمها الصارمة ملفتًا منذ فُتح المجال السياسي على مصراعيه بعد سقوط النظام في 2011، لكنها كانت أكثر حضورًا وأشد إرباكًا لحظة إجراءات قيس سعيد الاستثنائية حين كان على عديد الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية والحقوقية والنقابية أن تختار بين التمسك بالديمقراطية، مصدر كينونتها وإشعاعها واحترام العالم لها، وبين الثأر من الخصوم مهما كانت الطريقة، وكانت النتيجة أن فقد الجميع، لا فقط مكانته الحزبية والمدنية والحقوقية والنقابية، بل وكذلك مصداقيته، ولا أدل على ذلك ما تعيشه هذه الأحزاب والمنظمات من ترهل وانقسام وضعف.

لكن هل ربحت السلطة الحالية، عبر حكمها الفردي ومفهومها الخاص للديمقراطية، الرهان نهائيًا؟ سأل عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» عن ماهية الحكومة العادلة: «هل هي سلطة امتلاك فرد لجمع، يتصرّف في رقابهم، ويتمتّع بأعمالهم ويفعل بإرادته ما يشاء، أم هي وكالة تُقام بإرادة الأمة لأجل إدارة شئونها المشتركة العمومية؟» في الإجابة عن هذا السؤال المحوري معنى الديمقراطية، الديمقراطية الحقيقية، وكذلك ضمان الاستقرار.

المصدر: جريدة الشارع المغاربي

Share this Post