السيد المستشار رئيس المجلس الأعلى للقضاء
تحية واحترامًا
تُسلِّط وسائل الإعلام والمحللون السياسيون كل سهام النقد -عن حق- إلى المستشار عبد المعز إبراهيم رئيس محكمة استئناف القاهرة، بسبب تدخله في عمل هيئة المحكمة المسئولة عن قضية عمل المنظمات الأجنبية بدون ترخيص، والسماح بالسفر للمتهمين غير المصريين فيها. وبناء على ذلك تنحصر أغلبية المطالبات الموجهة لكم أو للجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف، في تحويل عبد المعز إلى لجنة الصلاحية بالمجلس الأعلى للقضاء، أو سحب اختصاصاته، أو نقده وتوبيخه، بينما من الواضح بشكل ساطع أنه لم يكن سوى مجرد أداة في يد سلطات وأجهزة أمنية عاتية، استطاعت في خلال 24 ساعة أن تضع حدًا للفصل في قضية كان يجري إدارتها لعدة شهور متواصلة، بواسطة ذات السلطات والأجهزة الأمنية، وباستخدام ذات الآليات القضائية مع اختلاف الأشخاص.
هذه السلطات والأجهزة الأمنية -التي تمنحها جريدة «الشروق» في صفحتها الأولى اسم «جهات سيادية عليا»- هي التي أدارت هذه العملية مع الأطراف الأمريكية المعنية في واشنطن وسفارتها في القاهرة، ومع مكتب النائب العام، ومع الأجهزة والهيئات الأخطبوطية التي تدير مطار القاهرة، وأخيرًا مع عبد المعز، الذي اقتصر دوره فقط في الضغط من أجل استصدار القرار القضائي المطلوب في زمن قياسي، سواء من هيئة المحكمة المعنية، أو باستبدالها بأخرى عندما رفضت الأولى.
هذه السلطات والأجهزة الأمنية هي ذاتها التي أدارت الحملة الإعلامية والأمنية ضد منظمات المجتمع المدني لسبعة شهور متصلة، واقتصر دور عبد المعز فيها على منح الغطاء القانوني المناسب للمستشارين الذين أعلن أنه عينهم، ولكن وزير العدل السابق صرح مؤخرًا بأنه -خلافًا للقانون- هو الذي عينهم. أيًا كان من عينهم، فهو قد اغتصب سلطة الجمعية العمومية لمحكمة الاستئناف -وفقًا لما صرح به المستشار هشام جنينة رئيس محكمة الاستئناف- وبالتالي يتضح مدى فساد القول بأن التحقيقات أدارها قضاة مستقلون.
غير أن ما نُشر في الصحف ومواقع الإنترنت عن التاريخ الوظيفي لهؤلاء القضاة، يثير تساؤلات جادة عما إذا كانوا قد أداروا تحقيقات مستقلة ونزيهة تستهدف وجه الحقيقة والعدالة، أم أنهم كانوا أداة لذات الأجهزة، التي أدارت المشاهد الأخيرة، بالتنسيق مع عبد المعز.
إن من يراجع الملف الإعلامي لهذه القضية منذ جرى تدشينها في سبتمبر الماضي، سيلاحظ أن المحاكمة والتحقيقات الفعلية، كانت تجرى في وسائل الإعلام الحكومية والصفراء، بينما كانت التحقيقات القضائية الفعلية مجرد وسيلة لإمداد وسائل الإعلام بمعلومات مبتورة أو غير حقيقية، من خلال عملية تسريب منهجي منظم للمعلومات التي أغلبها غير صحيح، أو مختلق، أو منتزع من سياقه، أو غير مكتمل، ولكنها تنسب دائمًا إما لقضاة التحقيق أو لمصادر قضائية دون تكذيب لاحق. وعندما انعقدت الجلسة الأولى للمحاكمة في 26 فبراير، كانت الشكوى الرئيسية للمحامين، هي أن المتهمين المعنيين الرئيسيين بالقضية ومحاموهم لم يطلعوا على ورقة من ملف القضية، الذي كان يجرى تسريبه يوميًا لوسائل الإعلام.
لتحقيق الأهداف السياسية «للأطراف السيادية» التي خططت لهذه القضية، كان من الضروري تضخيمها بطريقة تلهب مشاعر الرأي العام لأقصى درجة، ولذلك جرى تقديمها في مؤتمر صحفي باعتبارها قضية تهديد للأمن القومي ووحدة البلاد. ولكن عندما قدمها قضاة التحقيق للمحكمة هبطوا بها إلى مشكلة مزاولة نشاط بدون ترخيص، حتى أن نجاد البرعي محامى المتهمين صرح للصحفيين في المحكمة، بأنها أشبه بمخالفات «إنشاء مبان بدون ترخيص». بينما قال عبد المعز إنها جنحة أقصى عقوبة لها 300 جنيه غرامة. وقال أحد قضاة التحقيق لاحقًا عن الخريطة التى كانت ركيزة الادعاء بالتخطيط لتقسيم مصر! «إنها خريطة عادية، وهى ليست محل جريمة أو اتهام، ولم نعثر على تقارير تدعو لتقسيم مصر»، ولكن الحملة الإعلامية كانت قد أثمرت وحققت أهدافها بالفعل.
السيد رئيس المجلس الأعلى للقضاء..
بعد هذه الفضيحة، يتضح أكثر من أي وقت مضى لماذا قاومت كل العهود تمتع القضاء بالاستقلال، ويتبين بصورة أوضح، لماذا امتنع المجلس العسكري عن النظر في مشروع القانون، الذي قدمتموه ليكفل استقلال القضاء. أعرف أنكم تعتبرون هذا المشروع هو هدفكم الأسمى خلال الشهور المقبلة، باعتباره الكفيل بوضع نهاية لتلاعب السلطات والأجهزة في كل العهود بالقضاة والمؤسسة القضائية. ولكن إلى أن يُصدِر البرلمان هذا المشروع في صورة قانون، من الضروري القيام بمحاسبة صارمة لكل من لطخوا وجه القضاء على هذا النحو المشين.
لقد بادرتم مؤخرًا بتوجيه مناشدة علنية للقضاة للتوقف عن «التعليق على أي شأن قضائي متداول في وسائل الإعلام»، بعد التصريحات المتضاربة بين المستشارين عبد المعز وشكري. ولكن اسمحوا لي أن أقول إن مناشدتكم جاءت متأخرة. فلو كان المجلس الأعلى للقضاء قد تدخل منذ البداية لوقف التسريب المنهجي للإعلام لمحتويات هذه القضية، بالمخالفة لقرارات وتوجيهات المجلس الأعلى للقضاء منذ عدة عقود، ربما ما كانت القضية انحدرت لهذا الدرك المؤسف. إن كل الإجراءات التي اتُبِعت في هذه القضية، بالمخالفة للمادة 75 من قانون الإجراءات الجنائية، والمادتين 187و193 من قانون العقوبات، وتعليمات وقرارات المجلس الأعلى للقضاء المتوالية منذ أكثر من 15 عامًا، لابد أن تخضع للمحاسبة والتقييم والتقويم، وليس فقط ما حدث في المشهد الأخير منها.
لقد كانت هذه القضية من أول لحظة مباراة سياسية، جرى فيها امتطاء آليات قضائية وقانونية وإعلامية على أوسع نطاق، وعندما قررت الأطراف «السيادية» أن تضع نهاية لهذه المرحلة منها، فإنها استخدمت ذات الآليات القضائية والقانونية، ولكن المستشار محمود شكري أفسد سيناريو مشهدها الأخير، ذلك لأنها لم تجد من يفضحها في البداية.
مقال نشر في جريدة الشروق بتاريخ 4 مارس 2012
http://www.shorouknews.com/columns/view.aspx?cdate=04032012&id=bfccdc1a-cb28-4a1f-a4d3-137e963abf71
Share this Post