محمد السيد سعيد
جريدة الأهرام، 29 نوفمبر 2007
منذ بضعة أشهر تمكن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن من كسر شيء أخطر بكثير مما كسره من قواعد القانون الدولي ومبادئ السلام بين الأمم. إذ إنه كسر نبوءة يتطير منها الأمريكيون وهي نبوءة يسميها الهنود الأمريكيون بـ”لعنة الرجل الأبيض”. اللعنة ربما أطلقها أحد المحاربين العظام من الهنود الأمريكيين ضد البيض بعد أن قام ضابط كبير –أصبح رئيسًا لأمريكا بعد ذلك– بشن غارة قتل فيها قبيلته بكاملها بسبب مقاومتها البطولية. واللعنة هي أن يموت الرئيس الأمريكي قبل أن يكمل ولايته الثانية. وبالفعل فإن ثلث الرؤساء الأمريكيين الذين حصلوا على فترة الحكم الثانية أصيبوا بهذه اللعنة على نحو أو آخر.
وتمكن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن من إحباط صاحب سيناريو فيلم “موت رئيس” الذي استطاب هذه النبوءة واعتمد عليها للخلاص الجذري من سياسات سيئة. ولكن الرئيس بوش لن يتمكن من أن يقهر قاعدة دستورية راسخة وهي قيد الولايتين على حكم الرئيس. هذه القاعدة نبعت من العرف الدستوري الذي وضعه الرئيس الأول للولايات المتحدة جورج واشنطن. فكانت الجوقة التقليدية التي تناشد أي رئيس أن يحكم للأبد قد بذلت جهدها المستميت لإقناعه بالحكم لفترة ثالثة. ولكن جورج واشنطن فعل ما لم يفعله رؤساء كثيرون بعده في العالم بأسره بأن عاد إلى قريته ليعيش حياة جعلها أفضل كثيرًا مما عاناه في المدينة التي سميت بعد ذلك باسمه ولم تكن تكف عن معارضته بالرغم من كونه البطل والمؤسس الرسمي للدولة كلها. أطلق جورج واشنطن دعوته الشهيرة بأن “المدتين فترة كافية”.
لم يكن قيد المدتين قد وضع في الدستور الأمريكي. ولكنه صار قاعدة ثابتة لم يخرقها سوي رئيس أمريكي واحد هو فرانكلين روزفلت الذي ظفر في أربع منافسات انتخابية واضطر لعدم إكمال ولايته الرابعة لسبب قهري وهو الوفاة. ومع أن فترة حكمه الإجمالية لم تزد على اثنتي عشرة سنة وأن هذه الفترة هي التي صنعت أمريكا كقوة عظمي بعد تحررها من الكساد العظيم وتمكنها من الفوز في الحرب العالمية الثانية لم يتردد الأمريكيون في وضع التعديل 22 من الدستور عام 1951 والذي ينص رسميًا على قيد الولايتين ومجموعهما ثماني سنوات.
غالبية ساحقة
في ذلك الوقت كان القيد على مدد تولي الحكم في النظم الديمقراطية حالة فريدة تقريبًا. ولكن بعد أربعين عامًا صار هذا القيد أمرًا أساسيًا بالنسبة للغالبية العظمي من الدساتير الديمقراطية التي تأخذ بالنظام الرئاسي. وفي أوروبا لا يقتصر هذا القيد على الدول القليلة التي تأخذ بالنظام الرئاسي مثل روسيا ورومانيا بل يمتد أيضًا إلى الدول التي تأخذ بالنظام البرلماني مثل النمسا وألمانيا وإيطاليا والبرتغال وأستونيا وسويسرا. ويبقي استثناء كبير ومهم وهو حالة فرنسا حيث يدور الآن نقاش عام بالغ الثراء حول تصريح الرئيس جاك شيراك بأنه يفكر في خوض الانتخابات الرئاسية لفترة ثالثة. فالدستور الفرنسي لعام 1958 لم يأخذ بقيد الولايتين. ولكن المعارضين لتصريح الرئيس يذكرونه بأن هذا القيد صار في فرنسا أيضًا نوعًا من “العرف الدستوري” خاصةً بعد أن التزم به الرئيس الفرنسي الوحيد الذي أكمل ولاية ثانية متصلة منذ عام 1945 وهو الرئيس ميتران.
أما في أمريكا اللاتينية فإن الدساتير الحالية لم تلتزم تمامًا بقيد الفترتين لسبب وحيد وهو أن أكثريتها أخذ بقاعدة أكثر تشددًا وهي قيد الفترة الواحدة. كما خفضت الفترة الواحدة إلى أربع أو خمس سنوات فقط. ويصدق ذلك على دساتير بوليفيا والمكسيك وكولومبيا وكوستاريكا وجواتيمالا وهندوراس ونيكاراجوا وبنما وباراجواي وبيرو. ثم إن هناك فئة أخرى من الدساتير مثل دستور أوروجواي وتشيلي والإكوادور والسلفادور تأخذ بفكرة الولايتين غير المتصلتين بمعني أن يتولى الرئيس فترة واحدة ثم يترك الحكم ولكن يُسمح له بخوض الانتخابات بعد التالية لتولي الرئاسة لفترة ثانية فقط بعد أن يكون رئيس آخر قد قطع اتصال الحكم الرئاسي. وهناك فئة ثالثة تأخذ بولاية رئاسية متصلة بين مدتين فقط وهي البرازيل وفنزويلا. وفي الوقت الحالي لم يعد هناك دستور في أمريكا اللاتينية يسمح بتولي الرئاسة بدون قيد زمني سوي في حالة كوبا، وهي لا تعد نفسها ولا يعدها أحد دولة ديمقراطية بالمعني المستقر في الفكر الدستوري الحديث.
لقد اجتاح القيد الدستوري على مدد تولي الرئاسة أمريكا اللاتينية لسبب واضح وهو أن هذه الدول عانت طويلًا من الحكم الاستبدادي وتعلمت أن توطيد وتعزيز الانتقال الديمقراطي يتطلب الحيلولة دون تمكن شخص واحد من أن يجمع بين يديه سلطات كبيرة لفترة طويلة من الزمن لأن ذلك يُفضي بين أشياء أخري إلى تجمع وتحالف وتكلس مصالح كبيرة حوله بهدف وقف الديمقراطية أو الانتكاس بها.
وهذا هو الدرس نفسه الذي تعلمته عدد لا بأس به من الدول الأفريقية. ولكن هناك فارقًا كبيرًا في ظروف الانتقال الديمقراطي بين أفريقيا وأمريكا اللاتينية. لقد عانت أفريقيا معاناة أشد كثيرًا من الحكم الاستبدادي خاصةً بعد موجة الانقلابات العسكرية التي اكتسحتها وكسحتها منذ الاستقلال. ولكن النضال الديمقراطي في أفريقيا أقل قوة بما لا يقاس عن أمريكا اللاتينية، ثم إنه كثيرًا ما ينصرف إلى الصراع العرقي تاركًا القضية الديمقراطية وقضية الحريات العامة ومكافحة الفساد والتنمية الحقة بدون من يدافع عنها حقًا. ولذلك أخذت أكثرية الدول الأفريقية بقيد المدتين المتصلتين في الولاية الرئاسية. وقد شهدنا للتو نتيجة الاستفتاء الذي عقد في موريتانيا ونيجيريا حيث رفض الشعب بأغلبية كبيرة في الحالتين رفع القيد على مدد تولي الرئاسة. ولكن ضعف الرأي العام الديمقراطي يسمح للرؤساء الأفارقة ولتجمعات المصالح بإزالة هذا القيد من الدساتير لتمكينهم من مواصلة الحكم إلى الأبد. وقد شهدنا هذا الحدث خلال الشهور القليلة الماضية في أوغندا وتشاد والجابون.
مغزى قيد المدتين
تبدو القضية واضحة للغاية سواء من الناحية الدستورية أو من الناحية السياسية. فإذا مسحنا تجارب الانتقال الديمقراطي خلال العشرين عامًا الماضية نجد أن الدول التي حققت انتقالًا قويًا للديمقراطية فرضت قيدًا على مدد تولي الرئاسة أو تركت النظام الرئاسي كليةً إلى النظام البرلماني. أما الدول التي لم تنتقل إلى الديمقراطية فقد استمر فيها الحكم الرئاسي الأبدي. ولدينا تجربة مهمة في دول آسيا الوسطي التي تولي رؤساؤها الحكم من خلال الحزب الواحد في أثناء الفترة السوفيتية ولم يترك أحد منهم الحكم إلا بسبب الوفاة. ولم يشهد أي من الدول الست انتقالًا ديموقراطيًا لأسباب كثيرة وعلي رأسها أن دستور الاستقلال لم يضع قيدًا على مدد تولي السلطة الرئاسية الهائلة. أما في شرق آسيا فكان الوضع أفضل حيث أسرع المجتمع بوضع قيد الولايتين بعد أن حقق النضال الديمقراطي أول نصر كبير. وتجسد كوريا الجنوبية هذه الحقيقة.
ولكن لماذا يتطلب الانتقال الديمقراطي وتعزيزه هذا القيد. إن المسألة هنا أيضًا واضحة تمامًا ولا غموض فيها على الإطلاق تقريبًا. لقد أدرك المفكرون الديمقراطيون حتى في أثينا وروما القديمتين أن فتح باب تولي السلطة الرئاسية بدون قيد زمني يؤدي حتمًا إلى زيادة الطغيان حيث يتمكن هؤلاء الرؤساء من جمع سلطات كبيرة ومركزتها بأيديهم حتى يصبح من شبه المستحيل استعادة سيادة الشعب أو تحقيق التوازن بين السلطات أو الدفاع عند اللزوم عن الحريات العامة. وفي نفس الوقت تضعف قدرة الهيئات النيابية بل والمجتمع المدني والسياسي كله وتعجز عن موازنة سلطات الرئيس التنفيذية الفعلية فتتعطل آليات الديمقراطية ويصبح الانقلاب الرسمي أو الفعلي على الديمقراطية أمرًا ممكنًا ووقع كثيرًا بالفعل. ويصح ذلك حتى في النظم الديمقراطية العريقة مثل الولايات المتحدة حيث تثبت الدراسات أن الرئيس القائم يستطيع تحقيق الفوز في 90% من انتخابات الولاية الثانية. فما بالنا بالانتخابات الثالثة والرابعة وما بالنا بالمجتمعات التي ما زالت تهفو للتحول إلى الديمقراطية
وهذه هي بالضبط المشكلة الجوهرية في المادة 77 بعد أن رفع منها قيد الفترتين.
Share this Post