محمد سيد سعيد
جريدة الأهرام، 4 يونيو 2007
سقطت السماء على رءوسنا يوم الخامس من يونيو 1967. كانت الأجيال الشابة وقتها تعيش حالة فريدة من الانتعاش السياسي بفضل منظمة الشباب وتلقيها أول تجربة تثقيف مجتمعي في تاريخ البلاد الحديث، وبينما لم تكن الأمة قد أفاقت من انتكاس الوحدة مع سوريا، ولا من الظروف الصعبة التي نتجت عن حرب اليمن وتعذر إيجاد تمويل لخطة التنمية الخمسية الثانية، لم يكن أحد يتخيل مطلقا احتمال أن تقع الهزيمة بالطريقة التي وقعت بها، وحتي الآن لم يتمكن المجتمع من فهم واستيعاب الصدمة الكاملة التي عاشها المصريون في الأيام السوداء من الخامس حتى التاسع من يونيو.
ولأن الواقعة كانت رهيبة، والصدمة مذهلة كان لابد للأمة أن تسأل وأن تقدم إجابة تتجاوز بها الهزيمة وأسبابها، كانت إجابة الزعامة الوطنية في ذلك الوقت واضحة في جانب، وملفوفة بالغموض في جانب آخر. الإجابة التي قدمها ناصر في الخطاب، والممارسة كانت إزالة آثار العدوان، وسريعا ما ألحق بهذه الإجابة شعار جوهري هو رفض الاعتراف والتفاوض المباشر مع إسرائيل، وكان في هذا الشعار شيء متفرد ويخص مصر تحديدا والعرب عمومًا: فبرغم أن البلاد كانت تعيش محنة الهزيمة بكل وقعها الثقيل، وصعوباتها أو مستحيلاتها بينما كان البعض يعتقد، أن الأمة استعادت شجاعتها بسرعة خارقة وأبدت استعدادًا كاملًا لتجاوز الهزيمة وتحقيق النصر دون أي تنازلات، وعبر استراتيجية النضال الشامل، بما في ذلك النضال العسكري، لا المفاوضات المباشرة التي طالبت بها إسرائيل، ورفض عبد الناصر أن يزيل آثار العدوان عن طريق التفاوض والاعتراف ودفع ثمن سياسي للعدوان.
وجرت الأمور على هذا النحو من الناحية العملية حتى حققت بلادنا إنجازها الأهم في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو نصر أكتوبر 1973.
كان هذا هو الجانب الواضح من الإجابة الرسمية حتى أكتوبر 1973, أما الجانب الغامض الذي شكَّل محور الخلاف الرئيسي بين المجتمع والدولة منذ ذلك الوقت، فهو ما يتعلق بأسباب الهزيمة.
لم يعلق ناصر ولا علق السادات بعد ذلك على أسباب الهزيمة، كل ما جرى أنه تم نسبتها لأشخاص قصروا في أداء واجبهم، ومن ثم جري تفسيرها باعتبارها حدثًا طارئًا أو عارضًا لا يشير لأي عيوب أو مثالب جوهرية في بنية المجتمع والدولة. أما المجتمع فكانت لديه إجابة أخري. فالهزيمة وقعت لا بسبب قصور في أداء أشخاص، وإنما بسبب الطبيعة التسلطية للنظام السياسي، فلم يكن الزعماء مختارين بحرية من جانب الشعب في انتخابات حرة نزيهة برغم أن الشعب كان مستعدًا تمامًا لانتخابهم في انتخابات نزيهة، ولم تكن هناك مراجعة أو محاسبة سياسية وشعبية مباشرة وغير مباشرة لمن يتولون وظائف السلطة العليا من رئيس الدولة حتى عمدة القرية، بل لم يكن هناك إمكان المحاسبة لأن الصحافة لم تكن حرة، والأفكار محبوسة في الصدور والعقول، والأحزاب السياسية ممنوعة، والجمعيات الأهلية مقيدة ومحاصرة ولا تشارك إلا في حدود صارمة للمسموح وهو قليل، والممنوع وهو كثير. وبإيجاز قال المفكرون وردد المجتمع وراءهم: إن الهزيمة وقعت لأن النظام السياسي عاش أطول مما يجب بكثير على ما سماه الشرعية الثورية لا الشرعية القانونية الديمقراطية. النظام السياسي كان ثوريًا وطغيانيًا في آنٍ، ومن الناحية الدستورية يقوم النظام السياسي على فكرة الحكم المطلق، أي الذي يمنح الحاكم سلطات مطلقة لا يمكن مراجعتها ولا سبيل لموازنتها بسلطات أخري، ولربما كان ذلك ضروريا لفترة قصيرة من أجل إنجاز تحولات اجتماعية صعبة، وتطبيق خطة تنمية طموحة للغاية، خاصة في مجال التنمية البشرية من تعليم، وصحة، وتدريب مهني، وتأسيس جماعة وطنية للعلم والتكنولوجيا، لكنه في الوقت نفسه كان ضارًا للغاية بالعملية السياسية، وبالسلامة العامة للمجتمع ومؤسساته الكبري، بما فيها القوات المسلحة.
ومن ثم فإن التجاوز الحقيقي للهزيمة يجب أن يقوم على عملية إعادة بناء جبارة للمجتمع السياسي يكون التحول الديمقراطي ـ بما فيه من محاسبة ورقابة وحرية في النقاش العام ـ هو الأساس والقلب، وشكلت هذه الأفكار أهم ما طرحته مظاهرات الطلاب والعمال في فبراير 1968, وفي ديسمبر ويناير 1972.
وبعد أن خرج المصريون جميعًا تقريبًا ليلة التاسع من يونيو ليرفضوا الهزيمة وليكلفوا الرئيس ناصر بمواصلة تحدي الصهيونية والاستعمار، عادت الحياة للحركة الشعبية، واستقر في وجدانها أن الطريق إلى الخلاص يبدأ بمزج منجزات الناصرية في المستوي الاجتماعي بالميراث الديمقراطي لمصر منذ افتتاح مجلس شوري النواب عام 1866, ومرورًا بدستور 1923, وحتى ليلة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952.
مر أربعون عامًا دون أن نحقق الانتقال الديمقراطي الذي نصبو إليه لتمكين بلادنا من التجاوز الجذري لمحنة هزيمة يونيو 1967, ويعني ذلك أن التناقض الرئيسي الذي لف حياتنا السياسية كلها منذ ذلك الوقت هو أن محنة الهزيمة لم تنتج الإصلاحات السياسية العميقة التي كان يتحتم إنجازها، ويبدو الأمر عجيبًا وغريبًا لسببين، فبلادنا تصرفت على عكس القانون العام للهزائم السياسية الكبري في التاريخ، لأن هزيمة 1967 لم تنتج إصلاحات كبري من الناحية السياسية والدستورية. ثم إن بلادنا حققت نصرًا جزئيًا في أكتوبر 1973, لكن النصر لم يترجم إلى إزالة آثار العدوان كما وعد الرئيس ناصر، فمازالت إسرائيل تهيمن على جزء كبير من الأراضي العربية التي جري احتلالها في يونيو 1967, كما لا تزال القضية الفلسطينية دون حل، بل ويبدو أن الأمل في استرداد الشعب الفلسطيني لحقوقه التاريخية والقانونية صار أبعد مما كان عليه حتى في ذلك الوقت.
نتيجة التناقض
تعي الأجيال التي عاشت محنة الهزيمة هذا التناقض بصورة بالغة الشدة والحدة، وربما نال اليأس من قطاع كبير من هذه الأجيال، لكنها لا تزال تحتفظ في وجدانها بذخيرة الحركة الوطنية المصرية، وهي تشعر بأنه مهما تنوعت مواقفها السياسية والأيديولوجية فهي تنتمي إلى تراث هذه الحركة، والأهم أنها تنتمي إلى طموحاتها وأشواقها: دولة مدنية حديثة تحمي الحريات العامة، تقيم نظامًا ديمقراطيًا يحتضن أشواق النهضة الوطنية.
ولا يعني ذلك أن الأجيال التالية لم تعش التناقض الذي نتحدث عنه، أي محنة الهزيمة التي لم نتحرر منها بعد، لأننا لم ننجز الإصلاحات السياسية والدستورية الديمقراطية. إنها عاشت هذا التناقض لكن عبر التفاف جزئي أو كامل على إرث الحركة الوطنية. لقد عاشت هذه الأجيال محنة 1967 بالقطيعة مع كل مشروع الحرية والنهضة الذي صاغه أجدادنا منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وبتبنى مشروع بديل تمامًا يقوم على أيديولوجيا تزج بالدين في السياسة، وتعتبر أكثر التفسيرات تشددًا للإسلام الطريق إلى الخلاص من محنة الهزيمة، وعندما نتأمل بعناية هذه التفسيرات للإسلام وتراثه العظيم، نجد أنها تقوم في نهاية المطاف على تصور لنظام سياسي شمولي يمارس فيه حفنة أشخاص سلطات مطلقة، ويقيدون فيه الحريات العامة، ويحصرون كل سلوك اجتماعي أو سياسي في رؤية ضيقة تنتمي إلى قرون بعيدة، ولا تكاد تكون لها صلة بالدعوة الحقيقية للإسلام.
مازلنا نحتاج إلى تفسير شامل لأسباب نشأة هذه الرؤية التي تنقلب على تراث الحركة الوطنية المصرية، لكن لاشك أن فشل الدولة في الاستجابة لمطالب الحركة الوطنية والأزمة الممتدة التي سقط فيها مشروع النهضة لهذا السبب أنتج استجابة عكسية لمحنة 1967, فبدلًا من تجاوز الهزيمة عن طريق التمسك بإرث الحركة الوطنية وتنميته يعذب قطاع كبير من المجتمع المصري والمجتمعات العربية نفسه وبلاده بالعودة إلى إرث فقهي ينتمي للقرون الوسطي، وما يؤكد سلامة هذا التحليل هو أن هذه الرؤية أو هذا المشروع البديل انصرف أساسًا إلى ممارسة العنف العشوائي والجماعي ضد المجتمع المصري والمجتمعات العربية نفسها. أربعون عامًا مضت على المحنة، ولا تزال الاستجابة الخلاقة الضرورية والمنبثقة عن الإرث النهضوي والديمقراطي للحركة الوطنية مطروحة على العقل العربي دون أن تنجز بعد!
Share this Post