الهوس الأيديولوجي والكراهية

In مقالات رأي by CIHRS

مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

يسأل المفكر والشاعر السوري، أدونيس، «لماذا لم ننجح، نحن العرب، في بناء مجتمعات تكون فيه المواطنة هي الأساس؟» وإجابته أننا لسنا مجتمعات متناسقة، بل تجمعات متناثرة ومتناقضة ومتعادية، تعيش داخل جزر ذهنية منغلقة، رغم أننا نتقاسم فضاءات واحدة تسمى «أوطان»، لكنها فضاءات يتصارع داخلها أناس متسلطون، مهما كانت صلتهم بالحكم، غايتهم ليس بناء مجتمع جديد قوامه العدل والحرية والتنافس السياسي السلمي، بل كل همهم هو الظفر بالسلطة والمحافظة عليها بأي ثمن.

ورغم أن أدونيس يرى أن مشكلتنا الأساسية والأزلية هي «تسييس الدين وتديين السياسة» إلا أن الأمر، في تقديري، يتجاوز توظيف الخطاب الديني في الشأن العام ليطرح قضية علاقتنا بالأيديولوجيا، يسارية كانت أم يمينية، دينية أم قومية شوفينية، وتبنيها كعقيدة ثابتة. فالأيديولوجيا، التي لا يرى صاحبها الواقع إلا من خلال زاوية تفكيره الخاص، تتحول، هي أيضًا، إلى مقدس وعقيدة ثابتة، ترفض بعناد أي تنسيب، وتسجن أصحابها داخل مجموعات مطبقة، تمامًا مثل سجناء كهف أفلاطون، الذين لا يرون الواقع إلا عبر عتمة يقينياتهم المظللة.

الحقيقة المطلقة:

وعقدة الأيديولوجيا أنها تتحول أحيانًا من وجهة نظر وقراءة للواقع إلى فكرة سرمدية راسخة حتى وإن تعارضت مع هذا الواقع وسفهتها التجربة ودحضها العلم، قال غاليلي(Galilée)، حين رفض الناس اكتشافه المدعم بالحقائق العلمية حول دوران الأرض وتمسكوا برأي أرسطو –الذي تبنته الكنيسة– حول ثباتها: «حتى وإن رأى الناس في الطبيعة ما يناقض رأي أرسطو، فانهم يكذبون الطبيعة ولا يكذبون أرسطو»، ومع كهنوت الأيديولوجيا المعاصرة، يمكنك أن تعوض أرسطو بأي مرجعية «مقدسة» أخرى، يمينية أو وسطية أو يسارية.

الهوس الأيديولوجي:

في الحقيقة، مشكلة الأيديولوجيا ليست فقط في أفكارها المطلقة ولا في حقيقتها السرمدية التي تتعالى بعناد على كل الحقائق الأخرى، مهما كانت تجربتها واشتباكها مع الواقع، بل في خطورة تحولها إلى هوس مدمّر لتفكير الشخص والتفاعل مع من حوله، يقول جوسلين بيلونحي (Jocelyn Bélanger) وهو أستاذ علم النفس الاجتماعي، إن مشكلة الأيديولوجيا أنها تتحول، مع الزمن، إلى هوس وبذلك تفقد التنظيم الأخلاقي الذاتي و تسمح بممارسات غير خاضعة لإدانة أخلاقية ذاتية، ثم أن هؤلاء المتعصبين يرفضون كل نقد ويعتبرونه «تهديدًا لوجودهم»، وكثيرًا ما يحيل هوسهم إلى الكراهية، ويغلق الباب أمام كل تواصل مع الأخر، المختلف.

تنكر الأيديولوجية لأصولها الفكرية:

لكن تعالي الأيديولوجيا عن الواقع لا يمنع من أنها وُلدت من التراكمات الفكرية لهذا الواقع بمختلف مكوناته، الفلسفية والدينية والاجتماعية، خذ مثلًا الماركسية ما كانت لتتشكل كأيديولوجية «علمية» لولا التطورات الفكرية التي عرفها كارل ماركس عبر تاريخه الفلسفي، فهو قد استقى أفكاره من أستاذه هيغل، حين كان يناقش ضمن حلقات «الشباب الهيغلي»، وهيغل، بدوره، غرف من الديانة المسيحية، التي كان يعتبرها «الديانة المطلقة»، حيث تربط فلسفته بين ثلاثة أركان: «الحرية والعقل والروح». والخلاصة أن الفكر، كما المعرفة، مبني على التطور والتواصل والتفاعل مع كل المعطيات الثقافية والدينية والاجتماعية.

ومع أن المسار الأيديولوجي يأتي دائمًا بعد تطور فكري وعملية بحث تراكمية، إلا أن مشكلته الأساسية تظل أنه وصل إلى حالة من الانقطاع الذهني عن التفكير والتحصن «بالحتمية»، وحينها تسجن الأيديولوجيا مريديها داخل شرنقة حقيقتها المطلقة وتبدأ في اجترار وتطبيق مسلماتها وتغيب مساحة الحرية التي هي أساس الإبداع الإنساني ومحرّك رقيّه وتطوّره.

عقم الأيديولوجيا العربية:

هل هناك تناقض بين البنية الذهنية الأيديولوجية في فكر النخب السياسية العربية وبين الواقع العربي الذي تسعى إلى تغييره؟ بالنسبة للدكتور سهيل الحبيّب، الباحث الجامعي الذي كتب كثيرًا عن الانتفاضات العربية، أعادت النخب السياسية العربية، بعد «الربيع العربي»، درب الدولة الوطنية في الشرق العربي خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي وأخطائه القاتلة ومالاته المحبطة، حينها طرحت الأيديولوجيا القومية الناشئة التي حلمت بالوحدة العربية وتحقيق الازدهار للشعوب والقضاء على الاستعمار فكانت نتائجها مدمّرة، إذ أفضت الوحدة إلى مزيد التجزئة والتفتيت، و ازداد الاستعمار توسعًا بعد الهزائم المتتالية أمام إسرائيل، والوهن أمام القوى الإقليمية الصاعدة. وارتفعت نسب الفقر والبؤس وتعمّق الاستبداد مع توسع شبكات الفساد والمحسوبية.

وكذلك الشأن بعد انتفاضات الربيع العربي، حين أعطت الجماهير الثائرة فرصة للنخب السياسية حتى تقود البلاد نحو الحرية والعدالة، لكن هذه «النخب الليبرالية واليسارية والإسلامية والقومية»، التي لم تحسم صراعاتها الفكرية في الفضاء العام قبل الحراك الثوري، استبدلت عملية الانتقال الديمقراطي بمتخيلات أيديولوجية، «طبقية» و«هواياتية» أو «قومية» حتى أفرغت الممارسة الديمقراطية من محتواها وهمشت عملية الانتقال، ليتحول الصراع الحزبي، الذي من المفترض أن يتأسس على مضامين سياسية واجتماعية، إلى «تناحرات فئوية».

الحالة التونسية:

أعتقد أن الدكتور سهيل الحبيّب انطلق من مخبر التجربة التونسية بعد الثورة، إذ أن الأيديولوجيا بكافة تلويناتها استعادت نصوص الماضي «المقدسة» والصراع الطفولي أيام الجامعة، دون اعتبار لما يتطلبه الواقع من نضج، وكانت في انفصال تام عن اشتراطات الواقع السياسي والاجتماعي وكذلك المتغيرات الحاصلة في العالم، وبعد أن أهدرت الرصيد القيمي للثورة وأضاعت فرصة ثمينة في التأسيس لمشروع مواطني حامل لهموم المواطنين ومشاغلهم وطموحاتهم، دفعت هذه القوى ثمن ترددها غاليًا، لأنها، في نشوة غرورها، لم تقرأ حساب الارتدادات…

وبما أن الأيديولوجيا لا تقف عند محاولة إقصاء الأخر وتخوينه وتكفيره، مثلما قال عزمي بشارة، بل تتحول، حسب تعبيره، «إلى مبرر للقمع». فلك أن ترى اليوم ردود فعل بعض «التقدميين» حول معاناة مساجين من يختلفون معهم حتى تدرك حجم الكراهية والتشفي، الذي وصل لدى بعضهم إلى حد المطالبة بالإعدام والقصاص، حتى دون معرفة التهم ومدى جديتها، إدراك يصيبك، أحيانًا، ببعض الإحباط لأمرين: الأول، أن التجربة الحالية، على قسوتها لم تلقن ما يكفي من الدروس لتغيير الذهنيات المجيّرة. والثاني، لو قدر لهؤلاء أن يكونوا في السلطة، يومًا ما، ألن تتحول الأيديولوجيا الحاقدة، هي نفسها، إلى «أداة للعنف»؟

المصدر: جريدة الشارع المغاربي

Share this Post