باسم زكريا –
“علينا فقط أن نعلم أننا كجيل –تقاطعت الثورة مع سنين شبابه وساهمت في تكوين إدراكه– رأينا كل ما كان مؤجلًا. رأينا التيار الإسلامي الذي كان ملء السمع والبصر يحكم ويسقط ويتحول إلى أربعة أصابع على خلفية صفراء ورأينا الجماهير تتحرك وتُسيّس وتصنع خيارات قد تتوافق مع أهواءنا أو أفكارنا تارة وتتعارض معها تارة أخرى”
اليأس ليس خيانة، طالما كان خيارًا شخصيًا لا سياسيًا، وهو خيار مفهوم في ضوء ما يشهده معسكر الثورة من إحباطات وبالضرورة يؤدي بصاحبه إلى الانسحاب من السياسة. أما اليأس كخيار سياسي –أي أن تنبني أجندة سياسية جوهرها اليأس في التغيير– فهو الخيانة إذ يؤدي بصاحبه إلى أن يكون مطية لمن يركب. فلقد علمتنا تجربة ثلاث سنوات من الثورة أن التغيير الاجتماعي أمر حتمي، غير أن نتائجه لا يمكن التنبؤ بها حيث أن الأمر مرتبط بحركة جماهير لا يمكن التنبؤ باتجاه بوصلتها.
فبينما يستخف أغلب المهتمون بالشأن العام من النشطاء والمحللين بدعوات النزول إلى الشارع في الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١، نجد الناس تنزل إلى الشارع لتقوم بثورة. ويمر يومان ويأتي الثالث ليكون جمعة غضب ينزل فيه إلى الشارع أناس كانوا يهابون أمين الشرطة. ينزل في ذلك اليوم هؤلاء الناس أنفسهم إلى أقسام الشرطة لاقتحامها وإحراقها ومطاردة من فيها من ضباط، كخطوة أولى لإعادة تعريف محددات المجال العام كمساحة للعيش. ثم يهتفون للجيش ويلتقطون مع أفراده الصور التذكارية، وبعد ذلك في الخامس والعشرين من يناير ٢٠١٢ يموج الشارع بنفس أولئك الناس يهتفون “يسقط يسقط حكم العسكر”. ثم ينتهي الأمر بالناس كتفا بكتف مع قوات الشرطة والجيش في مواجهة الإخوان، أو هكذا يظن البعض أنه انتهى.
كل تلك التقلبات من النقيض إلى النقيض لا تفرض علينا فقط التواضع تجاه قدرتنا على التنبؤ، بل تحتم علينا أن نتوقف عن إنفاق أوقاتنا في البحث عن الإجابات لنصرف بعض الوقت والطاقة في البحث في الأسئلة. فربما لم نشتبك بعد مع السؤال الصحيح.
أنفقنا الكثير من الوقت والجهد في محاولة فهم ما يريده الناس غير أن الحقيقة أن ما يريده الناس أمر واضح للعيان. فالناس يريدون الاستقرار. ومن ناحية أخرى فإن من يظن أن الثورة ضد الاستقرار، وبالتالي فإن الثورة ضد إرادة الناس، هو مخطئ حيث يتوقف بالثورة عند الحالة الثورية أو التجربة الذاتية ويغفل مآلاتها الاجتماعية الاقتصادية. ففي حقيقة الأمر جوهر الثورة – على المستوى النظري – هو السعي لإزالة أسباب الصراع أي أنها الطريق الوحيد لاستقرار حقيقي مُستدام. بطريقة أخرى، كلنا نريد الاستقرار وبالتالي لابد أن ينصرف سؤالنا من “ماذا يريد الناس” إلى “كيف يريد الناس ما يريدون”. ففي مساحة الكيف تلك تتصارع الرؤى وتصطدم.
تكشف لنا تجربة الثلاث سنوات بما صاحبها من تقلبات، أن الإجابة الأحق بالعناية عند الاشتباك مع سؤال الــ”كيف” هي الإجابة التي تقدمها الكتلة الحرجة من الجماهير في الشارع وليست الإجابة التي يقدمها الحاكمون أو الثوار. وحيث أن اللحظة التي نحياها الآن هي بشكل من الأشكال امتداد للحظة الثلاثين من يونيو والتحالف الناتج عنها – رغم ما لحق بذلك التحالف من خلل أودى بالأجنحة الديمقراطية منه خارجه لحساب الأجنحة الأمنية – فلابد من أن نفهم كيف أجاب الناس على سؤال “كيف يريدون الاستقرار” منذ الثلاثين من يونيو وحتى الآن.
لم تكن البيئة السياسية في البلاد ما قبل الخامس والعشرين من يناير بيئة مرحّبة بالتنظيم أو مساعدة عليه، لذلك بعد سقوط الحزب الوطني لم يكن هناك بديل سوى تنظيم الإخوان مرتكزا على شرعية أخلاقية اكتسبها من معارضة نظام مبارك، ومن خطابه الديني القريب من غالبية الناس، مدعوما بشبكات الخدمات التي قدمها التنظيم في غياب من الدولة. لذلك اختار الناس الإخوان في ثلاث استحقاقات انتخابية، في استفتاء التاسع عشر من مارس وانتخابات البرلمان ٢٠١١ وانتخابات الرئاسة ٢٠١٢. غير أن الإخوان تصوروا أن معهم من الشرعية الأخلاقية ما يكفيهم التحالف مع من هم خارجهم، ولما فتشوا في جعبة تلك الشرعية الأخلاقية لم يجدوا إجابات لأسئلة الحكم الجادة عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي طرحها عليهم موقعهم في حكم البلاد. فكانت النتيجة أن خسروا مواقع السلطة واستنفذوا الشرعية الأخلاقية فلم يتمكنوا من العودة إلى مقاعد المعارضة.
لم يكن سقوط تنظيم الإخوان سقوطا للإخوان وفقط بل كان سقوطا لاحتمالات تقديم إجابات سياسية على أسئلة الحكم خارج إطار الحزب الوطني، أي كان سقوطا للسياسة بمعناها الضيق المحصور في الديمقراطية الإجرائية. كان سقوط الإخوان كأنه إيذان ببدء عهد جديد عنوانه مجال سياسي بلا سياسة – فها هي الديمقراطية الإجرائية تسقط والتيار الثوري لم يستطع بناء بديله السياسي بعد – فكان من الطبيعي أن يعود الناس إلى التعلق بأذيال الهوية، يلتمسون الإجابات عند المؤسسة العسكرية التي هي أعلى درجة في سلم تطور الدولة البيروقراطية المصرية.
لم يكن سقوط الإخوان بالأساس بسبب هويتهم بدليل أنهم كانوا على نفس تلك الهوية حين اختارهم الناس للحكم في الصناديق. وبدليل أيضا تبني طائفة الحكم الحالي خطابا ليس ببعيد في محافظته عن خطاب الإخوان، واستخدام نفس دعاية التشويه ضد النشطاء والسياسيين التي كان يستخدمها الإخوان ضد معارضيهم. كان سقوط الإخوان بسبب أنهم اختاروا أن يكون خطابهم الهوياتي هو كل عدّتهم في الإجابة على أسئلة الحكم الاجتماعية الاقتصادية.
رغم ذلك، فقد استطاع حكّام البلاد الحاليين باستخدام ترسانتهم الإعلامية وشبكات المصالح التي تقف خلفها أن يصوّروا المعركة على أنها معركة على الهوية، وبذلك يؤخروا موعد مواجهة أسئلة الحكم الجادة حول أزمات البلاد الحقيقية. غير أن ذلك لا يمكن أن يدوم طويلا وإن عاجلا أو آجلا سيأتي موعد وقوف الحاكمين في مواجهة الشعب على أرضية الإجابات على تلك الأسئلة، وأظن أن لا أحدا من أجهزة الدولة ولا المؤسسة العسكرية ولا شبكات المصالح ورجال الأعمال لديه أهلية مجابهة تلك الأسئلة بالجدية اللازمة. فلا أحدا ممن سبق ذكرهم لديه الرغبة أو القدرة على دفع الأثمان اللازمة – أو إجبار من يلزمه دفع الأثمان اللازمة – للإجابة على تلك الأسئلة.
من ناحية أخرى فإن تكلفة القمع حتى وإن كانت قد انخفضت في مواجهة الإخوان والإسلاميين، فهي ما زالت مرتفعة إن تم توجيهها لعموم الناس التي وإن تناست معركتها مع الشرطة في الثامن والعشرين من يناير ٢٠١١، فهي لم تسقطها من ذاكرتها بالكلية. كما أن البلاد لم يعد بها ما يكفي من الموارد لكي يكون القمع موجهًا للشعب جميعا فردًا فردًا. سيمر الوقت وسيغيب الإخوان عن المشهد كقوة كبيرة تستحق أن تكون مواجهتها هي مبرر الحكم أو سبب وجود الدولة، وحينها بعد أن يفشل الحاكم –فريق كان أم مستشار– في التصدي لأسئلة الحكم وفي ممارسة عقلنة القمع، سيجن جنون الدولة وتمارس الهيستريا كأسلوب للحكم والقمع وهو الأمر الذي سيكون له تأثير على الاصطفاف داخل المعسكر الديمقراطي.
منذ العام ٢٠١١ وحتى الآن تمتع المعسكر الديمقراطي ببحبوحة تعدد الخيارات الممكنة في إطار ما يمكن أن نطلق عليه خيارات تقدمية أو خيارات ثورية. أما بعد استتباب الأمر لتحالف “تسلم الأيادي” المتمخض من تحالف الثلاثين من يونيو وما سوف يمارسه ذلك التحالف من هيستيريا، فالخيارات التقدمية ستكون شديدة المحدودية من جهتين. الجهة الأولى أنه لن يكون هناك معنى لخطاب التوافق وتجاوز الاستقطاب الهوياتي المنبني على ابتزاز إسلامي مرتكز على شرعية الخطاب الإسلامي في الشارع، تلك الشرعية التي اندحرت تماما ليست فقط في الثلاثين من يونيو ولكن أيضا في صناديق الاستفتاء على دستور ٢٠١٤ الذي كان بمثابة إعلان موت شرعية ذلك الخطاب، وبالتالي نسف مرتكزات الابتزاز باسمه. من جهة أخرى فإن ما ستمارسه الدولة من هيستيريا لن تجعل مجالا لخطاب يدّعي التقدمية يحتمي بكنفها. ستكون الخيارات أشد وضوحا، إما أن تختار أن تكون مطية للرجعية أو تفتش عن طريق آخر.
ولكن، ما هو الطريق الآخر؟ أظن أن قدرتنا على الإجابة على ذلك السؤال تنحصر في التنظير، فمعسكر الثورة أو المعسكر الديمقراطي ليس لديه من الأدوات ما يمكنّه من تحويل أي تصوّر إلى حقيقة على الأرض. والقادرون على تقديم إجابات حقيقية على ذلك السؤال هم الناس أنفسهم، وكل ما نستطيع فعله هو أن ننظم صفوفنا على خلفية رفض أي ابتزاز رجعي من أي طرف كان، وأن نتموضع سياسيا في الموضع المناسب للالتحام بحركة الناس حين حدوثها، ونحن لدينا تصور نظري عن بديل مرن يشارك الناس في تشكيله ومن ثم تملّكه وبالتالي دفعه إلى الأمام.
صحيح أن التغيير لا يُمكن التنبؤ بنتائجه وأنه من الممكن أن يأتي بالأسوأ، غير أن الواقع من الرداءة بمكان أفقده أسباب استدامته. أصبح السعي إلى المستقبل المجهول اضطرارا لا اختيارا. علينا فقط أن نعلم أننا كجيل – تقاطعت الثورة مع سنين شبابه وساهمت في تكوين إدراكه – رأينا كل ما كان مؤجلا. رأينا التيار الإسلامي الذي كان ملء السمع والبصر يحكم ويسقط ويتحول إلى أربعة أصابع على خلفية صفراء، ورأينا الجماهير تتحرك وتُسيّس وتصنع خيارات قد تتوافق مع أهواءنا أو أفكارنا تارة وتتعارض معها تارة أخرى. أستطيع القول بأن كل ذلك من شأنه أن يمكننا بناء تصور صحيح عن الواقع كما هو، دون الابتزاز باسم حركة مُنتظرة من الجماهير أو تثوير مُنتظر من التيار الإسلامي أو مقرطة مُنتظرة من الدولة. علينا فقط أن نتحلى ببرودة الأعصاب اللازمة وأن نعلم أننا لا مصلحة لنا في الواقع وأننا مضطرون للمستقبل.
نشر هذا المقال في مدى مصر
Share this Post