إن تأمّل سجل حقوق الإنسان خلال الشهور الثمانية الماضية، التي أمضاها الرئيس د. محمد مرسي على كرسي الحكم، يثير انزعاجًا شديدًا إزاء التدهور المزري والمتسارع لحالة حقوق الإنسان في تلك الفترة الوجيزة، بصورة أسوأ مما كان عليه الحال قبل الثورة في عهد الرئيس السابق. إن مصر تشهد في واقع الأمر نسخة أخرى من النظم التسلطية، ولكن بملامح خاصة.
فلم يسبق أن تعرض استقلال السلطة القضائية وحرية الإعلام في عهد الرئيس السابق لهجمات بالضراوة التي جرت بها خلال الشهور الثمانية الماضية. كما لم يسبق أن قام أنصار الحزب الوطني الحاكم بأنفسهم بممارسة التعذيب، ومهاجمة المتظاهرين على النحو الذي قام به أنصار وأعضاء أحزاب التحالف الحاكم، فقد كانت هذه المهام القذرة متروكة في عهد الرئيس السابق للأجهزة الأمنية والبلطجية المأجورين منها.
في 15 أكتوبر الماضي، وبمناسبة مرور المائة يوم الأولى على تولي الرئيس محمد مرسي الحكم، حذر مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في تقرير له تحت عنوان “ما بعد المائة يوم للرئيس محمد مرسي مؤشرات سلبية على مستقبل حقوق الإنسان، وأزمات كبرى مفتوحة“[1] من أنه “مازالت قضايا حقوق الإنسان خارج دائرة الاهتمام، ومحل انتهاك السلطات في الدولة، رغم ما يحظى به الرئيس الحالي من سلطات تشريعية وتنفيذية ربما لم يحظ بها رئيسًا من قبله. إلا أن غياب قضايا حقوق الإنسان عن خطة الرئيس للمائة يوم، وغيابها أيضًا عن ممارساته وسياساته على مدى تلك الفترة، حال دون وقف العديد من الانتهاكات والتعديات علي تلك الحقوق، بل كان ذلك مصدرًا لثلاث أزمات كبرى”. وكشف التقرير عن “عدم امتلاك الرئيس لتصور واضح بشأن قضايا حقوق الإنسان، حيث أنه لم يتطرق لهذا الملف الحيوي في خطته المعلنة للمائة يوم الأولى لحكمه، ولم يحاول الاستفادة من المبادرات المطروحة في هذا الصدد لمواجهة تلك المشاكل والتعامل معها، ومن بينها خطة المائة يوم التي قدمها له ملتقى منظمات حقوق الإنسان المستقلة، في أول يوم له في منصبه”.
وأوضح التقرير الصادر منذ 4 شهور “أن المائة يوم الأولى شهدت ثلاث أزمات كبرى وثيقة الصلة باحترام حقوق الإنسان. أولها يتصل باحترام استقلال السلطة القضائية وأحكام المحاكم، وذلك حين قرر رئيس الجمهورية صرف النظر عن حكم المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، ثم إقالة النائب العام بالمخالفة لقانون السلطة القضائية. ثاني الأزمات مع الصحفيين والإعلاميين. وثالثها مع حركات الاحتجاج السلمي، خاصة مع تكرار قيام أنصار وأعضاء حزب “الحرية والعدالة” بالتحرش والاعتداء العنيف على المتظاهرين المعارضين، وعلى الإعلاميين الناقدين أمام مدينة الإنتاج الإعلامي، وعلى رافعي قضايا في المحاكم ضد ممارسات محددة تناصرها جماعة الإخوان المسلمين. وهي أزمات لا تزال مفتوحة، ومن المحتمل أن تتفاقم بصورة أكبر، ما لم يبادر رئيس الجمهورية ببلورة معالجة شجاعة وشاملة انطلاقًا من مبادئ حقوق الإنسان وسيادة القانون والتزامات مصر الدولية وثيقة الصلة”.
وأعرب التقرير عن خشيته من أن استمرار هذه السياسات والممارسات سيؤدي إلى تهديد واعتداءات أكثر جسامة في الفترة القادمة ضد عدد من الحقوق الأساسية وهى:
- الحق في التجمع السلمي، والممارسة الجماعية للاحتجاج السياسي والاجتماعي، مع احتمال تزايد مشاركة أنصار الحزب الحاكم في أعمال القمع، على النحو الذي حدث خلال المائة يوم وبعدها.
- الحق في تكوين الجمعيات الأهلية وممارسة نشاطها بحرية وفقًا للمعايير الدولية، مع استهداف خاص لمنظمات حقوق الإنسان.
- الحق في تشكيل النقابات العمالية المستقلة، والتعددية النقابية.
- الحق في حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية لغير المسلمين السنة، وحقوق الأقليات الدينية وغير الدينية.
- الحق في حرية الصحافة والإعلام وتدفق المعلومات.
- حقوق المرأة.
- الحق في محاكمة عادلة”.
للأسف أن أسوأ مخاوف هذا التقرير تحققت بصورة أكثر قتامة، وذلك على النحو التالي:
- تقويض مبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء بالإعلان الدستوري الصادر في نوفمبر الماضي، وتعيين نائب عام جديد يفتقر لثقة المواطنين ومرؤوسيه في استقلاله عن السلطة التنفيذية، وعن رئيس الجمهورية. فضلا عن تشكيك الرئيس -والحزب الحاكم “الحرية والعدالة”- الدائم في نزاهة القضاء واتهام بعض الأحكام بأنها مسيسة. وهي الممارسات التي أفقدت المواطنين الثقة في عدالة ونزاهة أحكام القضاء، وتسببت في التطورات التي تشهدها مدينة بورسعيد مؤخرًا. عندما يعلن رئيس الدولة وقيادات حزبه عدم ثقتهم في نزاهة بعض أحكام القضاء، ويحرضون ضد المحاكم، ويمنع أنصارهم المحكمة الدستورية العليا من ممارسة مهامها، وسط تواطؤ كل سلطات الدولة المعنية والأجهزة الأمنية؛ فإنه لا يمكن لوم المواطنين على تبنيهم نفس الموقف إزاء أحكام قضائية أخرى.
- إعلان “فرض حالة الطوارئ”، دون ضرورة لفرضها، وبواسطة قانون يخالف المعايير الدولية لحقوق الإنسان، طالما تم استخدامه في العصف بحقوق المواطنين.[2]
- استمرار ممارسات التعذيب وإهانة كرامة المواطنين بشكل منهجي، وتمتع ضباط وأفراد وزارة الداخلية بحماية الدولة لهم ومباركة رئيس الدولة لأدائهم، رغم سقوط عدد قياسي من القتلى وضحايا التعذيب في خلال أيام محدودة، الأمر الذي يسمح باستمرار ظاهرة الإفلات من العقاب في مصر وانتكاس وضعية حقوق الإنسان.[3]
- تبني رئاسة الدولة وحزب الرئيس حملة الهجوم على حرية الإعلام من خلال التصريحات التي تضيق بالحرية النسبية المتاحة، أو تقديم البلاغات المتعددة إلى جهات التحقيق ضد صحفيين وإعلاميين[4]. فضلا عن الشرعية التي يصبغها الدستور الجديد على ممارسات قمع الإعلام وحبس الصحفيين؛ بدعم من ممثلي حزب رئيس الدولة في الهيئة التأسيسية.
- قمع الاحتجاجات السياسية والاجتماعية باستخدام القوة المفرطة، التي راح ضحيتها عدد كبير من الضحايا، بينهم بعض أبرز النشطاء السياسيين المعارضين لجماعة الإخوان المسلمين بطلقات في الرأس. ثم تبني الحكومة قانون جديد يقيد الحق في التظاهر السلمي؛ ويناقض المعايير الدولية التي سبق أن صدقت عليها الحكومة المصرية.
- تخلي الشرطة والأجهزة الأمنية عن مسئوليتها القانونية في حماية الاحتجاجات السياسية والاجتماعية، والتواطؤ على جرائم الاغتصاب والاعتداء الجنسي على النساء في المظاهرات، ومساهمة أعضاء مجلس الشورى -الذي يسيطر على تشكيله حزب رئيس الدولة- في تبرير هذه الجرائم المشينة علنًا، وذلك بتحميل النساء مسئولية الاعتداء عليهن لأنهن يمارسن حقهن في التظاهر!
- تبني الحكومة التي عينها رئيس الدولة وحزبه قانونًا جديدًا للجمعيات الأهلية، من شأنه القضاء على الهامش المحدود المتاح لحرية تكوين الجمعيات، وخاصة المنظمات الحقوقية. والبدء في تنفيذ بعض بنود القانون الجديد قبل اعتماده، وذلك بناء على تعليمات رسمية من رئيس مجلس الوزراء. إن المشروع الذي يتبناه حزب رئيس الدولة للجمعيات الأهلية[5] هو الأكثر قمعية في تاريخ مصر منذ عرفت الجمعيات الأهلية.
- انعدام استقلالية مجلس حقوق الإنسان، فهو يضم في تشكيله أغلبية تنتمي إلى التحالف الحاكم، فضلا عن ضم شخصيات معروفة بعدائها لحقوق الإنسان، بعضهم يستخدم خطابًا سياسيًا طائفيًا علنيًا، تطغى عليه اللغة التحريضية على الكراهية والعنف ضد الأقليات الدينية المسلمة وغير المسلمة. إن مهمة المجلس بتشكيله الحالي وممارساته حتى الآن تتركز في التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، أو التقليل من شأنها، بدلا من كشفها والتنديد بها؛ فضلا عن تجميل صورة الحكومة أمام المجتمع الدولي. لقد عانى المجلس القومي لحقوق الإنسان دائما من مشكلة الاستقلالية في ظل نظام مبارك، ولكنه فقدها تماما في العهد الحالي، بل صار منبرا غير مباشر للتحريض العلني على الاعتداء على حقوق الإنسان من خلال بعض أعضائه.
في هذا الإطار تتوجه المنظمات الحقوقية إلى مؤسسة الرئاسة بالمطالب التالية:
- تشكيل لجنة مستقلة تضم أبرز الكفاءات المهنية في مصر في القانون الدستوري وحقوق الإنسان -بصرف النظر عن اعتبارات الانتماء السياسي أو الديني- لمراجعة الدستور الجديد، وإلغاء أو تعديل المواد التي تشكل إهدارًا لحقوق الإنسان ولقيم الديمقراطية ولمبدأ سيادة القانون في باب “مقومات الدولة والمجتمع”، وباب “الحقوق الحريات”، وكذلك المواد التي تمنح رئيس الجمهورية صلاحيات وسلطات هائلة دون آليات لمحاسبته؛ مع ضرورة تبني مرجعية المواثيق الدولية لحقوق الإنسان لباب الحقوق والحريات.[6]
- تعيين نائب عام جديد يرشحه مجلس القضاء الأعلى، وتوقف رئيس الدولة وحزب الرئيس عن التشكيك في أحكام القضاء، والإسراع بتقديم مشروع مجلس القضاء الأعلى لقانون السلطة القضائية –الذي أعده في 2011– إلى مجلس الشورى لإصداره كقانون.
- وقف ممارسات التعذيب في أقسام الشرطة والسجون وأماكن الاحتجاز، وإجراء تحقيقات جادة في عمليات قتل المواطنين وتعذيبهم، بواسطة الشرطة أو غيرهم من الجماعات والأفراد وإحالتهم للقضاء.
- التوقف عن استهداف المتظاهرين والمعارضين لجماعة الإخوان المسلمين ورئيس الدولة خلال مشاركتهم في فعاليات الاحتجاج، وقيام الشرطة بواجبها في تأمين وحماية المتظاهرين والمتظاهرات، واتخاذ الإجراءات القانونية الكفيلة بالقضاء على ظاهرة الاغتصاب والاعتداء الجنسي، ووقف انتهاك حقوق المحتجزين خلال عمليات القبض والتحقيق.
- إجراء تحقيقات جادة وعلنية مع المسئولين الذين تواجدوا في قصر الاتحادية أثناء الاعتداءات التي تعرض لها المعتصمين في الخامس من ديسمبر الماضي بجوار سور القصر، وكذلك التحقيق مع قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين تورطوا في التحريض السياسي والطائفي على استخدام العنف، أو شاركوا في فض الاعتصام، أو في تعذيب المحتجين ومحاولات انتزاع اعترافات منهم تحت وطأة التعذيب[7]؛ والتي راح ضحيتها 11 مواطنًا على الأقل وأصيب المئات وتعرض آخرون للاختطاف والتعذيب الوحشي؛ وذلك نتيجة نداء الدم الذي أطلقته قيادات جماعة الإخوان المسلمين لقواعدها بالاحتشاد والتوجه صوب القصر الرئاسي لفض اعتصام سلمي، وذلك تحت شعار “حماية شرعية” الرئيس المنتخب.
- إعادة تشكيل المجلس القومي لحقوق الإنسان -بما يتفق مع المعايير الدولية الواردة بمبادئ باريس الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن المؤسسات الوطنية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان- من شخصيات مستقلة تتمتع بالنزاهة والاحترام لدى الرأي العام، ولديها رصيد معترف به في مجال عمل المجلس.
- توجيه رئيس مجلس الوزراء لسحب مشروع قانون تنظيم الحق في التظاهر المقترح من حكومة الدكتور مرسي؛ وتعديله وفقًا للملاحظات المرسلة مسبقًا –لوزارة العدل– من مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش.
- توجيه رئيس مجلس الوزراء لسحب مشروعي قانون الجمعيات، المقدمان من وزارة الشئون الاجتماعية وحزب الحرية والعدالة (من خلال وزارة التنمية المحلية)، واعتماد مشروع قانون الجمعيات المقترح من 56 منظمة مصرية حقوقية وتنموية، أو مقترح وزير العدل المستشار أحمد مكي، بإعادة العمل بمواد القانون المدني ذات الصلة، كأساس للمناقشة بدلا من مشروعي الحكومة والحزب القمعيين.
- توجيه رئيس الوزراء ووزارة الشئون الاجتماعية والأجهزة الأمنية، بعدم التدخل والوصاية على نشاط المنظمات غير الحكومية.
- ضمان مقومات مراقبة المنظمات الوطنية والدولية للانتخابات وفقًا للمعايير الدولية ذات الصلة، بما في ذلك حق منظمات المجتمع المدني في الحصول على تصاريح مراقبة الانتخابات دون وصاية من المجلس القومي لحقوق الإنسان، ودون فرض أي قيود على عدد المراقبين. ودعوة المنظمات الدولية المتخصصة بمراقبة الانتخابات، وعلى رأسها الأمم المتحدة.
- الاعتراف بإلزامية كافة المواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي صادقت عليها مصر، واعتبارها مرجعية في تفسير كل النصوص القانونية ذات الصلة بحقوق الإنسان.
الموقـعـون
- مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
- البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان.
- الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية.
- دار الخدمات النقابية والعمالية.
- المجموعة المتحدة، محامون ومستشارون قانونيون.
- مجموعة المساعدة القانونية لحقوق الإنسان.
- مركز الأرض لحقوق الإنسان.
- المركز المصري لحقوق المرأة.
- مركز أندلس لدراسات التسامح ومناهضة العنف.
- مركز حابي للحقوق البيئية.
- مركز دعم وسائل الاتصال الملائم من أجل التنمية (أكت).
- المنظمة المصرية لحقوق الإنسان.
- مؤسسة المرأة الجديدة.
- المؤسسة المصرية للنهوض بأوضاع الطفولة.
- مؤسسة حرية الفكر والتعبير.
- نظرة للدراسات النسوية.
- مركز قضايا المرأة المصرية.
- المنظمة العربية للإصلاح الجنائي.
- المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
- مصريون ضد التمييز الديني.
- المبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
[1] ما بعد المائة يوم للرئيس محمد مرسي مؤشرات سلبية على مستقبل حقوق الإنسان، وأزمات كبرى مفتوحة
[2] حفظ الأمن مع عدم الإخلال بضمانات حقوق الإنسان لا يستلزم إجراءات استثنائية والقوانين السارية تكفي: مذكرة مقدمة من ملتقى المنظمات المستقلة لحقوق الإنسان
[3]انظر مبادرة النقاط العشر لوقف جرائم النظام المقدمة من 13 منظمة حقوقية مصرية على:
http://eipr.org/pressrelease/2013/02/19/1635
وانظر أيضًا تقرير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية: “عامان من الثورة.. الظلم مستمر.. جرائم الدولة بلا حساب: الداخلية فوق القانون، والنيابة لا تقوم بدورها”:
http://eipr.org/report/2013/01/22/1601
[4]جريمة إهانة الرئيس، جريمة نظام مستبد، تقرير صادر عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
[5] “حزب الحرية والعدالة يؤكد تبنيه القانون القمعي للمجتمع المدني”، “تصفية المجتمع المدني “بالقانون”: على حكومة د. مرسي أن تسحب مشروعها لتأميم النشاط الأهلي”. بيانين صادرين عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
[6]لا لدستور إعادة إنتاج الاستبداد السياسي والديني: منظمات حقوق الإنسان ترفض مسودة الدستور
[7]انظر تقرير مركز القاهرة حول أحداث الاتحادية:
Share this Post