على مدى الشهور القليلة الماضية وبالتحديد منذ منتصف يوليو كانت الأراضي الفلسطينية المحتلة مسرحا لأحداث جسام، جسدت أزمة داخلية حادة بدا واضحا فيها؛ الغياب المطلق لسيادة القانون في مقابل فرض الأمر الواقع بقوة السلاح التي يملكها هذا الطرف أو ذاك من داخل السلطة الوطنية الفلسطينية أو أجهزتها الأمنية أو المجموعات المسلحة المحسوبة على حركة فتح، واختلط فيها الحابل بالنابل بحيث بدت الفوضى السياسية وعمليات الاختطاف والاعتداءات التي تمارسها بعض الأطراف تستظل برايات “الإصلاح ومقاومة الفساد” وربما كانت أيضا هذه الرايات مسوغا لدى السلطة الفلسطينية في إجراءاتها التي شملت نوعا من الإحلال داخل الأجهزة الأمنية ومحاولة إعادة تنظيمها ودمجها على أسس مختلفة وإعلان حالة الطوارئ.
وفي خضم هذه الأحداث التي تنذر بكارثة الدخول في اقتتال أو حرب أهلية قابلة للاندلاع في أية لحظة، فقد بدت إسرائيل المستفيد الأكبر من كل ما يحدث من تداعيات تنذر بتقويض القضية الفلسطينية بصورة نهائية.
وفي هذا السياق نظم مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ندوة في أغسطس الماضي تحت عنوان “الإصلاح أو الكارثة.. هل من وسيلة لإنقاذ القضية الفلسطينية من الضياع”، وأدار مداولاتها بهي الدين حسن مدير المركز، وشارك في تقديم المداخلات الرئيسية فيها كل من:
د. سمير غطاس مدير مركز مقدس للدراسات السياسية، راجي الصوراني مدير المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان بغزة، د. محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام.
أكد سمير غطاس أن الأزمة الفلسطينية أعمق مما شهدته الفترة الأخيرة من مواجهات وأن هذه المواجهات لم تكن سوى أحد وجوه هذه الأزمة، بل ربما تمثل “بروفة” مصغرة لانفجارات تالية متوقعة.
وأوضح غطاس أن المواجهات الأكثر عنفا وحدة في هذه الأزمة ارتبطت بمواجهة سياسية مع الرئيس الفلسطيني عرفات أو تم تحويل الأحداث باتجاه هذه المواجهة، مشيرا إلى أن الأزمة تحيط بها عدة أمور ملتبسة وأن البعض صورها على أنها مواجهة بين المسار الإصلاحي وجناح الفساد داخل السلطة في حين أن الذين سموا أنفسهم بمعسكر الإصلاحيين هم أيضا متهمون بالفساد من قبل المجتمع الفلسطيني.
وحذر غطاس من تصوير الأزمة على أنها مجرد فوضى أمنية مشيرا إلى أن الفوضى مجرد عرض وأنه يجب البحث عن الأسباب الكامنة للأزمة التي تطال جوانب متعددة في المجتمع الفلسطيني ولا تتوقف على الأجهزة الأمنية وحدها.
أضاف غطاس أن الالتباس وجد تعبيره كذلك في موقف الفصائل الفلسطينية التي تسيطر على الشارع السياسي الفلسطيني وتمنع تطوره السياسي مدللا على ذلك بأن حركة حماس التي كانت تعادي عرفات وقفت إلى جانبه وصورت الأزمة الأخيرة بأنها فتنة داخلية يخدم من يقومون بها أهداف شارون ويحاولون كسر إرادة الشعب الفلسطيني، مشيرا إلى أن حماس قامت بالاتصال المباشر بعرفات في موقف بدا أنه موقف اصطفاف معه ربما ضد القوى التي تخشى حماس من سيطرتها على غزة.
أكد غطاس أن ينابيع الفساد الموجودة في السلطة الفلسطينية ظاهرة للعيان ولا يمكن إنكارها مدللا على ذلك بأن أحد أجهزة السلطة وهو جهاز الرقابة أصدر تقريرا رسميا عام 1998 عن أشكال وأوجه الفساد التي طالت رموزا أساسية في السلطة ولكن تم تجاهل هذا التقرير، وأضاف غطاس أن هناك تقريرا آخر وهو تقرير ميشيل روكار والذي أشار فيه إلى أن عرفات يعيق الإصلاح موضحا أن روكار يرأس جهة رقابية أنشأها الاتحاد الأوروبي لمراقبة أداء السلطة الفلسطينية حيث أكد التقرير بشكل دقيق ومفصل أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإنه وفي خلال عام سوف تتلاشى السلطة الفلسطينية وتنهار.
وعبر غطاس بمرارة عن اعتقاده بأن ينابيع الفساد باتت بكل أسف حالة مجتمعية. مضيفا أن الفساد ليس ظاهرة طارئة على السلطة الفلسطينية وإنما هو ظاهرة قديمة واكبت حركة المقاومة الفلسطينية، خاصة بعد تمركزها في لبنان ومعايشة الحرب الأهلية التي كان لها انعكاساتها على الثورة الفلسطينية، حيث ولدت عديدا من أشكال الفساد التي نقلتها السلطة معها.
استطرد غطاس مشيرا إلى أنه في أول تشكيل للسلطة كانت رواتب أعضائها وموظفيها تأتي من البنك الدولي وعندما دخل عرفات إلى الأراضي المحتلة قرر أن يقوم وحده بصرف المرتبات وتحديد صيغتها وطريقة صرفها، مؤكدا أن شيمون بيريز رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك شجع على إفساد السلطة وترك الأمر لعرفات ليقرر وحده ما يشاء بحجة تمكينه من مواجهة القوى المتطرفة في المجتمع الفلسطيني.
وأكد أن هناك شراكة عملية واسعة خلقتها مدرسة أوسلو بين رجالات أمن إسرائيليين سابقين وكوادر قيادية فلسطينية.
وذهب غطاس إلى أن القسط الأكبر من المساعدات والتحويلات المالية التي تلقتها السلطة الفلسطينية قد تعرض للنهب ولم يبذل جهد حقيقي لبناء ركائز الدولة.
الأسباب الستة
ورصد غطاس أسبابا عدة وراء الأزمة المزمنة وذكر في مقدمتها أن الشعب الفلسطيني وبعد مرور أكثر من 10 سنوات على بداية تجربة السلطة يمر الآن بأزمة انسداد في الأفق السياسي أمام أية تسوية سياسية ممكنة كما لا يتلمس المجتمع بكل فئاته أي أفق سياسي للخروج من هذه الأزمة.
وأضاف غطاس أن السبب الثاني يتمثل في تفشي ظاهرة الفساد دون أن يكون هناك أي معالجة حقيقية لها، أما السبب الثالث فيتمثل في الصراع على السلطة التي انتهت ولايتها قانونا وتشريعا في 14 مايو 1999 حسب أوسلو دون أن تكون هناك إشارة إلى تجديدها، وذلك رغم حدوث تطورات عديدة في المجتمع الفلسطيني بما يتجاوز هذه السلطة.
أضاف غطاس أن السبب الرابع هو ما أسماه بفائض العنف، مفسرا ذلك بأن تعدد أجهزة الأمن أدى لسيادة هذه الأجهزة على الحياة السياسية إلى جانب تفشي أشكال التنظيمات المسلحة في الشارع الفلسطيني.
استطرد غطاس مشيرا إلى أن السبب الخامس يتمثل في خطة غزة أو مبادرة شارون التي طرحها في 14 أبريل 2003، والتي تقول بالانسحاب من طرف واحد، حيث كان شارون –حسب غطاس- جادا جدا في الانسحاب من غزة وهذا الوضع يفجر الصراع حول من يحكم غزة عند إخلاء الإسرائيليين لها، حيث الجميع يحاول استباق الأمور لفرض سيطرته على القطاع ويدلل غطاس على ذلك بأن عرفات حاول ذلك بتعيين موسى عرفات رئيسا للأمن في القطاع ليفرض سلطته عليها وفي المقابل كانت هناك طموحات لدى الجيل الجديد للتخلص من سلطة عرفات أو إدارة غزة بشكل مختلف عما كانت تدار به في السابق.
ذكر غطاس أن السبب السادس والأخير يتمثل في الاختراقات على المستويين الأمني والسياسي؛ مشيرا إلى أن الاختراق السياسي ليس إسرائيليا أمريكيا أوروبيا فقط ولكنه أيضا اختراق إقليمي للسلطة نتيجة تحللها. وفيما يخص الاختراق الأمني ذكر غطاس أن هناك 168 شهيدا اغتيلوا بنفس الطريقة التي استشهد بها الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بما يؤكد وجود هذا الاختراق.
شرعية سياسية
واستهل راجي الصوراني مداخلته بالإعراب عن تحفظه على ما توصل إليه غطاس من اعتبار الفساد ظاهرة تطول المجتمع الفلسطيني بأسره، مؤكدا أنه لا يوجد شعب فاسد وخائن وأنه قد يكون هناك أشخاص فاسدون، لكن لا يوجد شعب فاسد؛ مشيرا إلى أن الفاسدين معروفون للشعب الفلسطيني لكن المشكلة هى في غياب آلية لمحاسبتهم.
كما أشار الصوراني فيما يتعلق بالمساعدات إلى أن تقارير المنظمات الدولية تؤكد أن الإغلاقات التي تعرضت لها الأراضي المحتلة سببت خسائر اقتصادية تفوق قيمة المساعدات التي قدمت للشعب الفلسطيني وأنه إضافة لذلك فقد تم نهب 9 مليارات دولار من الشعب الفلسطيني كاستقطاعات من العمال الذين عملوا في إسرائيل منذ عام 1968 حتى دخول السلطة للأراضي الفلسطينية، مشيرا إلى أن هذا لا ينفي أن هناك نهبا واضحا من قبل البعض داخل السلطة لأموال الشعب الفلسطيني.
وأكد الصوراني أنه لا يمكن وصف الحركة السياسية الفلسطينية بأنها انتقلت من السياسي إلى العسكري إلى الإرهاب، مشيرا إلى وجود أخطاء، لكن تمت ممارسة نقد علني عليها مؤكدا وجود ناظم سياسي يجمع الحركة السياسية الفلسطينية، وقال الصوراني إنه لا يمكن تصور أن رجلا واحدا يمكن له أن يفسد أمة كما يقال عن عرفات، مشيرا إلى أن السلطة الفلسطينية قائمة وموجودة لأن الشعب الفلسطيني متمسك بالشرعية السياسية وليس لأن رجال هذه السلطة يفرضون وجودهم. أشار الصوراني إلى وجود 143 ألف رجل أمن يعانون من قصف مقارهم وإلقائهم في الشوارع والمخازن حيث لا يستطيعون التحرك، كما أن الوزارات الفلسطينية لا يعمل منها سوى وزارتي الصحة والتعليم موضحا أن هناك 81% من الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة يعيشون تحت خط الفقر و68% يعانون من البطالة.
أكد الصوراني أنه حتى هذه اللحظة لم يتم طرح ملف الإصلاح الفلسطيني بصورته الحقيقية من قبل القيادة السياسية الفلسطينية وأن هناك غياباً كاملا للإرادة في الإصلاح على المستوى السياسي، مشيرا إلى أن الأمر لا يتوقف على مجرد قرارات أو بعض الإجراءات.
من جانبه أكد الدكتور محمد السيد سعيد أن الحالة الفلسطينية من حيث الاستبداد والفساد هى جزء من حالة عربية عامة، حيث تتسم التشكيلات الاجتماعية والسياسية العربية خلال الخمسين عاما الماضية بتعمق متزايد للفساد والاستبداد، الأمر الذي يضاعف من هشاشة هذه التشكيلات ويعجزها عن مناهضة أو مقاومة الظروف الخارجية أو الدفاع عن الاستقلال الوطني، كما في الحالة الفلسطينية.
أشار د. سعيد إلى أنه في الحالة الفلسطينية يبدو أن للفساد والاستبداد خصوصية من حيث إنه كان يعكس على نحو غريب وغير منطقي حالة ثورية بما يعني أن لدينا حالة فريدة في التاريخ تتمثل في وجود ثورة وطنية لها عمق شعبي واتساع تاريخي وعمق فلسفي لكنها ولدت وفي داخلها فيروس فساد، وبحيث يبدو الفساد جزءا من حالة ثورية اتجهت تاريخيا لمناهضة الإمبريالية الأمريكية والصهيونية، ولكنها تعاني من فساد بدا ظاهرا منذ البداية تقريبا ومنذ انتهت معركة “الكرامة” واستيطان منظمة التحرير الفلسطينية للأردن ثم لبنان، وكانت هذه الظاهرة منعكسة في تعليقات الصحافة العالمية عليها إلى الحد الذي استدعى تعليقات من الخصوم الصهاينة الذين أبدوا تعجبهم من أنهم يواجهون خصوما ثوريين يقضون بعض الوقت في الخمارات والبعض الآخر في جبهة المعارك حتى تمت تسميتهم بثوريي “شارع الحمراء” في السبعينيات، إلى جانب ما يعرف عن حجم الأموال التي كانت تنفق لشراء الولاء والصحفيين والدبلوماسيين والساسة وغيرهم حتى أن الذي أبدع ظاهرة شراء المثقفين هى منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس عرفات شخصيا ولم تكن ظاهرة تقترن بصدام حسين.
وعبر الدكتور سعيد عن اعتقاده بأن الفساد الفلسطيني جزء من ظاهرة عربية متأصلة ارتبطت إلى حد كبير بتفجر النفط العربي، حيث سريعا ما تبنت نظم عربية عديدة هذه الحالة الثورية وأفاضت عليها من مالها في إطار شراء الولاءات السياسية، ففاض المال على الثورة الفلسطينية فأفسدها وخلق ظاهرة داخلها حرفتها إلى نقيضها.
أشار إلى أن ما ساعد على تحول الظاهرة الثورية الفلسطينية إلى ظاهرة بترودولارية أنها كانت قد استقرت على صيغة عسكرية منذ البداية خاصة بعد معركة الكرامة واتفاق القاهرة سنة 1970، مما أدى إلى تعدد مبالغ فيه للفصائلية لأنها ارتبطت إلى حد كبير جدا بالمال وأجهزة المخابرات، مشيرا إلى أن هذا ارتبط أيضا بظاهرة أسماها “الانحراف الإرهابي” في الثورة الفلسطينية، وساهم هذا الانحراف وبالذات في خطف الطائرات في تحول أعداد كبيرة من الكوادر الثورية الشابة إلى محترفين إرهابيين يملكون أسرارا ويرتبطون بأجهزة مخابرات عربية ويتحركون بسهولة وسلاسة كبيرة جدا بين مختلف مناطق العالم وتحول ابن المخيم إلى مالك للأموال الكثيرة والأسرار المهمة، فحمل كثيرا من الخبرات التي يعتبرها الدكتور سعيد خبرات الإرهابي وليست خبرات الثوري مع شعبه، مما أدى لتعاظم ظاهرة الفساد.
واعتبر د. سعيد أن الفشل في صياغة نظرية للثورة الفلسطينية وتحديد العلاقة ما بين النضال الشعبي السياسي والنضال العسكري المحترف كان له دوره في انهيار الثورة وتحولها من حالة سياسية إلى حالة عسكرية وانهيارها من حالة عسكرية إلى حالة إرهابية وإفلاسها وعجزها المتزايد عن تصويب أخطائها، وخاصة في ظل قيادة على مستوى عال ومتفرد في الاستبداد مثل ياسر عرفات.
وأكد د. سعيد على أهمية إعادة هندسة الحالة الفلسطينية لوجود ضرورة كبيرة لاستمرار الثورة الفلسطينية واستمرار العمل على تصفية الصهيونية، مشيرا إلى حالة النجاح التي حققها الشعب الفلسطيني وهى حالة الانتفاضة الأولى التي يمكن من خلالها البناء لنظرية للثورة الفلسطينية وتجميع أجزاء الصورة لجعل هذه النظرية خلاقة تلحق الهزيمة بالصهيونية، وتؤدي بالشعب الفلسطيني في نهاية المطاف للاستقلال.
Share this Post