في عهد مبارك جرى تقديم قانون تقييد الصحافة بعنوان “حرية الصحافة”، وكذلك قانون قمع المجتمع المدني باسم “تحرير المجتمع المدني”. على النهج نفسه تقول الآن وزارة الداخلية من خلال مقترحات بعض القوانين أنها تحاول استعادة الأمن وحماية المجتمع، بينما هي في حقيقة الأمر تحاول استعادة الوصاية الأمنية على المجتمع، التي حطمتها ثورة 25 يناير، وتجرم الثورة بأثر رجعي، ودون أن تعزز الأمن.
كان هذا الاستنتاج هو أبرز ما خلص إليه تقرير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الذي تناول فيه بالتعليق والتحليل خمسة مقترحات بمشاريع قوانين قدمتها وزارة الداخلية لمجلس الوزراء، بدعوى استعادة الأمن وحماية المجتمع. في ذات الوقت الذي قامت فيه بعض وسائل الإعلام المملوكة للدولة بتجميل الوجه القبيح لتلك القوانين؛ كي تحظى بقبول مجتمعي، وذلك من خلال تقديمها تحت دعاوي حماية مصالح الملايين من المواطنين المتضررين من أعمال البلطجة والانفلات الأمني.
التقرير الذي أعده مركز القاهرة، قدم قراءة قانونية في خمسة مشاريع قوانين هي: قانون بشأن حماية المجتمع من الخطرين، قانون بشأن تنظيم المظاهرات في الطرق العمومية، قانون بشأن تعديل قانون تجريم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت، قانون بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات، قانون بتعديل بعض أحكام قانون الحفاظ على حرمة أماكن العبادة.
يكشف التقرير عن قيام” ترزية القوانين الجدد” بإتباع نهج أسلافهم في عهد مبارك في صياغة القوانين، لإضفاء شرعية زائفة على تقييد حقوق المواطنين وحرياتهم، عن طريق الصياغات الفضفاضة والعبارات غير المنضبطة قانونًا، بما يساعد على تكييف استخدامها لتجريم ممارسات طبيعية للمواطنين، تحميها مبادئ حقوق الإنسان.
غالت القوانين المقترحة في العقوبات إلي حد بلغ معاقبة نوايا محتملة. فوفقًا لمقترح قانون حماية المجتمع من الخطرين، يقع العقاب بناءً على ارتياب أجهزة الأمن في أشخاص نظرًا لقيامهم بسلوك “يُنبئ” بوقوع جريمة تخل بالنظام العام. أي أن العقوبة يمكن أن تُوقع بناءً على شك أجهزة الأمن في شخص يُحتمل أن يقوم بجريمة، ولكنه لم يرتكبها بعد.
اعتبر القانون أن مجرد المشاركة في الإضراب أو الاعتصام من السلوكيات التي تنبئ باحتمال ارتكاب المواطن جريمة، فالأمر إذن لا يستلزم قيام الشخص بفعل مادي أو الشروع بالفعل في ارتكاب الجريمة، ولكن يكفي أن يشارك في مظاهرة آو إضراب ليثير ارتياب أجهزة الأمن، ليصبح مجرمًا محتملاً يخضع للعقاب. جدير بالذكر أن القانون المقترح عين للفصل في هذه القضايا محكمة يتضمن تشكيلها ممثل عن وزارة الداخلية، التي تقرر بناءً على سلطاتها التقديرية مدى ضرورة توقيع العقوبة، لتصبح بذلك وزارة الداخلية مدعيًا وقاضيًا!
تزعم القوانين المقترحة أن إصدارها سيساعد على تعزيز الأمن، ولكنها في واقع الأمر لا تساعد إلا على صرف الانتباه عن المشاكل المزمنة لأداء الشرطة قبل وبعد الثورة، وعجزها عن توفير الأمن قبل وبعد الثورة، نظرًا لانخفاض التدريب والكفاءة والانضباط، وتبني عقيدة أمنية استعلائية على الشعب.
تلك العقيدة الاستعلائية التي تطلبت إعداد قانون يحمي أفراد الشرطة من مجرد “الاعتداء” عليهم بالإشارة. إذ أن التعديلات المقترحة من قبل وزارة الداخلية على قانون العقوبات تضاعف العقوبة إلي ستة أمثال في حالة التعدي ولو بالإشارة على فرد شرطة. قد تكفي الإشارة -التي قد تعتبر مهينة- لتكون سببًا في السجن ما لا يقل عن سنتين أو الغرامة التي لا تتجاوز عشرة آلاف جنيه، أما إذا وقعت هذه الإهانة في وجود مواطنين آخرين –وهذا أمر وارد جدًا- تتضاعف العقوبة الأصلية إلي 12 مثل!
يزعم أحد القوانين المقترحة الحرص على تنظيم الحق في التظاهر، والحد من خطر أعمال البلطجة وتعزيز الأمن لاسيما أثناء عمليات الاحتجاج. ولكن وفقًا للقانون المقترح -الذي جاء بعد ثورة ضربت مثالاً يُحتذى به في التظاهر السلمي– يستلزم القيام بمظاهرة مجموعة من الإجراءات تبدأ بتقديم إخطار مُوقع من ثلاثة أشخاص على الأقل، ممن يتمتعون بحسن السمعة، بما يستلزم من الداعيين للمظاهرة استخراج صحيفة الحالة الجنائية مع الإخطار بالمظاهرة، لتتأكد وزارة الداخلية من تمتعهم بحسن السمعة، وفي النهاية الأمر متروك للوزارة لتقدير حُسن السمعة، الذي لم يحدد المشرع أسبابًا لفقدانه، وقد يحتاج إثباته شهادة من شيخ الحارة.
يُقدم الإخطار لوزارة الداخلية قبل تنظيم المظاهرة بثلاثة أيام على الأقل، ولا يجوز تقديم الإخطار إلى مديريات الأمن في المحافظات، وإنما بمقر وزارة الداخلية بغض النظر عن مدى بعد المحافظة محل المظاهرة عن مقر وزارة الداخلية. هذا الإخطار يجب أن يشمل المكان والزمان والأسباب التي دعت لتنظيم المظاهرة وخط سير المتظاهرين والأعداد المتوقع مشاركتها والمطالب التي سينادي بها المتظاهرون. علاوة على أنه في حالة إغفال مقدم الإخطار أي من هذه الشروط الشكلية لهذا الإخطار، لن يسفر الأمر فقط عن رفض الإخطار أو عدم الالتفات له، وإنما يعاقب عليه بالحبس مدة لا تقل عن سنة فضلاً عن الغرامة!
وبناءً على هذا الإخطار يحدد المحافظ المختص الأماكن التي يجوز تنظيم التظاهرة فيها وموعد انتهائها، أي أنه يحق للمحافظ مثلاً أن يحدد أماكن للتظاهر في أماكن غير مأهولة بالسكان، أو بعيدًا عن الجهة المختصمة في المظاهرة، فالأمر متروك لتقديره.
أخيرًا، إذا اعتقدت الداخلية أن هذه المظاهرة قد تعرض أرواح وممتلكات الأفراد والمنشآت العامة للخطر، أو “إذا كان مكان وزمان تنظيم المظاهرة لا يتناسب مع الحالة الأمنية” –وهي كلها عبارات فضفاضة وغير منضبطة- فمن حقها منع المظاهرة. أما إذا قُدّر للمتظاهرين وخرجوا في المظاهرة، فهم عرضة للسجن ثلاث سنوات حتى خمس عشرة سنة، وغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه، إذا قاموا بتعطيل المرور، أو حمل لافتات وترديد عبارات تثير مشاعر “آخرين”! –رغم أنه من الطبيعي أن تثير أي مظاهرة مشاعر الأطراف التي تحتج ضدها المظاهرة أو الأطراف الداعمة لها- أو خرجوا عن خط سير المظاهرة والمكان المحدد لها. كما يحظر عليهم التظاهر داخل المباني والمنشات الحكومية والتعليمية بما في ذلك الجامعات. كما أنه إذا أدت المظاهرة إلى منع أو تعطيل سير العمل بأحد المرافق العامة، أو حتى تعطيل المرور -وهو أمر طبيعي– يحق للشرطة استخدام الأسلحة النارية والذخيرة الحية في تفريق المتظاهرين. وبناءً علي ذلك فإن المخرج الآمن الوحيد للمتظاهرين قد يكون تسيير المظاهرة صامتة وفي منطقة نائية.
إذا قُدِّر لهذه القوانين المقترحة أن تصدر، فإن ذلك يعني إحياء عناصر أساسية من حالة الطوارئ، دون تحمل وزر إعلانها، واستعادة الشرطة بعض صلاحياتها الاستثنائية قبل الثورة، والتي كانت تضعها فوق الدستور والقانون ومبادئ حقوق الإنسان.
كان من المفترض في اليوم التالي لتنحي الرئيس السابق حسني مبارك أن تجرى عملية إصلاح جذري للشرطة وإجراء دراسة معمقة لأسباب فقدانها الكامل لثقة الشعب فيها، وتقديم الاعتذار للشعب، إلا أن القوانين المقترحة تكشف عن أن الإصلاح الذي تتوخاه الشرطة الآن هو “إصلاح الشعب”، أو بمعنى أدق” تأديب الشعب الذي ثار على الدولة البوليسية”، ولكن بالقانون.
يذكر أن مركز القاهرة كان قد سعى لإدارة حوار مع وزارة الداخلية حول القوانين المقترحة، وذلك بأن بعث لها مسودة تحليلية لمقترحات القوانين في 13 أكتوبر، أي قبل إصدار التقرير بأسبوع تقريبًا، وأوضح مركز القاهرة أنه يعتزم نشر تعليق الوزارة مرفقًا مع التقرير، ولكن للأسف لم يتلق المركز أي رد. جدير بالذكر أن المركز أرسل أيضًا، في اليوم ذاته، صورة من المسودة التحليلية لكل من المستشار محمود مكي نائب رئيس الجمهورية، الدكتور هشام قنديل رئيس مجلس الوزراء، المستشار أحمد مكي وزير العدل، والدكتور محمد محسوب وزير الشئون القانونية والمجالس النيابية، والدكتور سمير مرقص مساعد رئيس الجمهورية المسئول عن ملف التحول الديمقراطي.
للاطلاع علي التقرير، من هنا
للاطلاع على مشاريع القوانين المقدمة من وزارة الداخلية
مشروع قانون حماية المجتمع من الخطرين.
مشروع قانون بشأن تنظيم المظاهرات في الطرق العمومية.
مشروع قانون بتجريم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت.
مشروع قانون بتعديل بعض مواد قانون العقوبات.
مشروع قانون الحفاظ على حرمة أماكن العبادة.
Share this Post