أولاً – مقدمة
يقدم هذا التقرير شهادة جماعية لـ”ملتقى منظمات حقوق الإنسان المستقلة” حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر اليوم. وبينما يلتزم التقرير بالتركيز على الأعوام الأربعة السابقة، فإنه يعتمد في الواقع على حصيلة ما يقرب من ربع قرن من العمل الحقوقي ميدانياً وقانونياً. وعلى حين لا يسمح حيز هذا التقرير برصد كل التطورات والانتهاكات خلال الفترة الزمنية المحددة، فإنه يركز على أبرز الوقائع والانتهاكات التي تدلل على طبيعة الإشكاليات والعقبات الرئيسية التي تحول دون تمتع المصريين بالحقوق التي أرستها الاتفاقيات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان، والتي صادقت عليها الحكومة المصرية.
ثانياً- نظرة عامة على حالة حقوق الإنسان في مصر
لا يمكن النظر إلى أوضاع حقوق الإنسان في مصر بشكل منفصل عن حزمة القوانين والسياسات والممارسات. بل إن الملمح الأساسي لوضع حقوق الإنسان في مصر اليوم هو سيادة نمط متكامل من الاستثناء والانتهاكات في ظل مناخ من الحصانة تم إنشاؤه وتعميمه بشكل عمدي على مدار عدة عقود. وقد لعبت حالة الطوارئ المفروضة دون انقطاع منذ عام 1981 دوراً أساسياً في ترسيخ هذا النمط ونشر ذلك المناخ، على نحو جرى من خلاله تعميم الاستثناء، وإهدار حكم القانون، وتعطيل مختلف الضمانات الدستورية للحقوق والحريات العامة، وإهدار ضمانات سيادة القانون وخضوع الدولة لأحكامه، وتآكل مقومات الدولة القانونية، وتحطيم ثقة المواطنين في الدولة وشعورهم بقيمتهم الذاتية. ولا يخفف من وطأة هذا الاستنتاج ما عرفته السنوات الأخيرة خصيصاً من انخراط أقسام متزايدة من السكان في مقاومة هذه الانتهاكات والسياسات التي أفرزتها، ونجاح بعض منابر الإعلام المستقل والمجتمع المدني والحركات الاجتماعية الجديدة في انتزاع مساحات للحرية، رغماً عن السياسات والممارسات والبيئة التشريعية التي تحاصرهم.
وفي ظل شيوع سياسة الاستثناء هذه توسعت سلطات الأجهزة الأمنية حتى تحولت مصر إلى دولة بوليسية. فإلى جانب الانتهاكات المباشرة التي ترتكبها أجهزة الأمن ضد المواطنين والتي يفلت مرتكبوها في الأغلب الأعم من العقاب، أصبحت الأجهزة الأمنية تلعب دورا محوريا في كافة مناحي الحياة العامة، ولم يقتصر الامر على التدخل في شئون المؤسسات السياسية أو الأهلية أو التعليمية أو الدينية أو الإعلامية بل وامتد أيضا الى تعطيل تنفيذ أحكام القضاء في الكثير من الحالات. 4. استمرت مؤشرات العدالة الاجتماعية في الاختلال، وارتفعت نسبة الفقر بدلاً من أن تنخفض، واتسع نطاق التفاوت في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بين الريف والحضر، وبين الأغنياء والفقراء، حتى أصبحت انتهاكات أغلب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية على نفس الدرجة من المنهجية والانتشار التي تتميز بها انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية في مصر.
و تلجأ الحكومة إلى عدة وسائل لصرف الانتباه عن سجلها الحقوقي المشين. وتضمنت تلك الوسائل: التذرع بالخطر الذي تشكله جماعات الإسلام السياسي، والتوظيف السياسي للدين أو لدعاوى ثقافية لإضفاء قدر من المشروعية على انتهاكات حقوق الإنسان، وإقامة هياكل ديكورية توحي باهتمام الدولة بحقوق الإنسان، وإدخال تعديلات على بعض القوانين لا تغير من جوهر البناء التشريعي الاستبدادي، وفي أحسن الأحوال اتخاذ بعض الخطوات الايجابية محدودة الأثر في مجالي حقوق النساء والأطفال، ومحاولة تسويقها لدى المجتمع الدولي على وجه الخصوص لتفادي المزيد من الانتقادات وصرف الأنظار عن حزمة واسعة من التدابير التشريعية والسياسات التي يتعين انتهاجها من أجل وضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
لعبت الحكومة المصرية دوراً قيادياً واضحاً في إضعاف الآليات الدولية والإقليمية لحماية حقوق الإنسان. وداخل المجلس الأممي لحقوق الإنسان على وجه الخصوص سعت الحكومة المصرية مراراً إلى حماية الحكومات التي ترتكب انتهاكات حقوقية جسيمة، و تقيد حرية التعبير بزعم حماية الأديان من الازدراء وإضعاف استقلالية الخبراء المستقلين الذين يعينهم المجلس، وإسكات أصوات المنظمات غير الحكومية في الجلسات المخصصة للاستعراض الدوري الشامل لعدد من البلدان العربية.
إن الاستنتاجات السابقة، وما يتضمنه هذا التقرير من تقييم لمجمل وضعية حقوق الإنسان في مصر، تقود جميعاً الى التأكيد على أن هذا التردي المستمر في أوضاع حقوق الإنسان ليس نتاج الثقافة المجتمعية أو نقص الموارد المادية، أو الحاجة إلى التدريب و بناء القدرات، وهي الحجج التي تستخدمها الحكومة ومؤسساتها، وإنما هو نتاج للافتقار للإرادة السياسية اللازمة من جانب مؤسسات الدولة للتخلي عن سياسات معينة واحترام وتعزيز حقوق الإنسان.
ثالثاً: تقييم وفاء الحكومة المصرية بالتزاماتها في مجال حقوق الإنسان
أ ـ الحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي
ليست هناك حماية للمصريين من التعذيب، والذي يمارس بشكل منهجي وروتيني. فلا تزال جرائم التعذيب تُرتكب يومياً في أقسام الشرطة ومقار مباحث أمن الدولة وغيرها من أماكن الاحتجاز وأحياناً داخل السجون بل وفي الطريق العام؛ وتؤدي هذه الجرائم في حالات عديدة وموثقة إلى الوفاة من جراء الإصابات أو شدة التعذيب. ومهما أصرت الحكومة المصرية على أن الأمر لا يعدو كونه حفنة من الحوادث الفردية التي يرتكبها بضعة ضباط فاسدين، فإن مئات الشهادات الموثقة تفيد بأن التعذيب سياسة منهجية يمارسها ضباط الشرطة على نطاق واسع وفي كل أنحاء البلاد ضد المحتجزين سواء كانوا من السياسيين أو الجنائيين، متهمين أو مشتبهاً بهم، رجالاً أو نساء، بالغين أو قاصرين. كل من يقع تحت يدي الشرطة اليوم ـ خاصة من الفقراء ـ أصبح معرضاً لألوان من التعذيب والإيذاء من الضرب والسحل والركل إلى الجلد والحرق بالسجائر المشتعلة، ومن التهديد بالإيذاء الجنسي أو القيام به، إلى تغمية العيون والتعرية الكاملة طوال أيام التعذيب، ومن الصعق بالكهرباء بتوصيلها في أطراف أصابع القدمين والرأس والأعضاء التناسلية وحلمتي الصدر، إلى التعليق من الذراعين على ماسورة حديدية او باب حجرة. وفي حالة النساء لا يخلو التعذيب وسوء المعاملة من العنصر الجنسي الذي يتراوح ما بين التهديد بالاغتصاب أو الإيذاء الجنسي ونزع الملابس والحجز بين الرجال المحتجزين وحلق الشعر واستخدام الكهرباء في صعق المناطق الحساسة من الجسد. وبدأت الشرطة مؤخراً في استخدام العنف الجنسي ضد الذكور أيضاً في حالات متزايدة وموثقة. وفي السنوات الأخيرة توسعت الحكومة المصرية في أنشطة التعذيب حتى أصبحت تقوم به بالوكالة عن دول أخرى كالولايات المتحدة.
و قد قاومت الحكومة دائماً كل محاولات تعديل التعريف القاصر لجريمة التعذيب في القانون المصري (لكي يتسق مع تعريف الأمم المتحدة)، والذي لا يشمل سوى التعذيب الواقع ضد متهم بغرض حمله على الاعتراف بالتهمة. وتتجاهل الحكومة كافة التقارير والحالات الموثقة التي تشير إلى أن التعذيب أصبح يمارس أيضاً لقائمة طويلة من الأسباب تشمل ترهيب المواطنين، أو تجنيدهم للعمل كمرشدين للشرطة، أو من باب التأديب ترضية ومجاملة لطرف ثالث، أو لإجبار المواطن على التخلي عن شقة سكن أو قطعة أرض، أو ضمن سياسة أخذ الرهائن، الذين عادة ما يكونون من نساء أو أطفال أسرة المشتبه به، أو لمعاقبة من يجرؤ على تحدي السلطة المطلقة لرجال الشرطة أو مطالبتهم بتقديم أوامر قضائية أو أذون بالتفتيش أو القبض. كما يمنع القانون ضحايا التعذيب من اختصام مرتكبيه مباشرة أمام القضاء، ويحصر هذه السلطة في يد النيابة العامة، التي تقوم بحفظ الغالبية العظمي من الشكاوى. وفي جميع الأحوال فإن ضباط جهاز مباحث أمن الدولة يتمتعون بحصانة إضافية ضد المحاكمة أو حتى التحقيق في البلاغات التي تتهمهم بالتعذيب. وحتى في الحالات النادرة التي تقوم فيها النيابة بإحالة أحد الضباط للمحاكمة، فإن وزارة الداخلية لا تقوم بوقف الضباط عن العمل أو حتى نقلهم أثناء التحقيق معهم أو محاكمتهم، بل تترك لهم المجال لمزيد من الضغط على الضحايا والتنكيل بهم وأحياناً إعادة القبض عليهم وتعذيبهم لسحب شكاواهم أو التنازل عنها.
وبموجب التشريعات المصرية فان عقوبة الاعدام تسري على عدد كبير من الجرائم في كل من قانون العقوبات وقانون الأحكام العسكرية وقانون الأسلحة والذخائر وقانون مكافحة المخدرات والاتجار فيها. ومن ناحية أخرى، فإن محاكم الجنايات في مصرـ والتي تصدر عنها كافة أحكام الإعدام في القضايا غير المتصلة بـ”الإرهاب” ـ لا توفر مجالاً لاستئناف أحكامها أمام هيئة قضائية أعلى، وإنما يقتصر حق المحكوم عليه على الطعن في أحكامها أمام محكمة النقض التي يقتصر اختصاصها بدورها على التأكد من سلامة تطبيق وتفسير القانون دون إعادة النظر في موضوع الدعوى أو أدلة الاتهام. أما الجانب الأكثر خطورة فيما يتعلق بتطبيق عقوبة الإعدام، فهو صدور العديد من أحكام الإعدام عن محاكم الطوارئ أو المحاكم العسكرية ضد مدنيين، وهي محاكمات لا توفر الحد الأدنى من ضمانات المحاكمة المنصفة كما سيرد أدناه. ومنذ عام 1992 أصدرت المحاكم العسكرية ومحاكم الطوارئ ما لا يقل عن 137 حكماً بالإعدام في قضايا تتعلق بـ”الإرهاب”، تم تنفيذ ما لا يقل عن 67 منها.
و فيما يتصل بجرائم القتل خارج نطاق القانون فقد سقط العديد من الضحايا على يد الشرطة بين قتلي ومصابين في الأعوام الأخيرة، سواء أثناء مطاردات الشرطة أو خلال عمليات مداهمة المنازل، أو نتيجة الاستخدام المفرط للقوة المميتة أثناء فض المظاهرات والتجمعات السلمية. وقد لقي ما لا يقل عن 27 مهاجراً ولاجئاً سودانياً مصرعهم في واحدة من تلك الوقائع أثناء استخدام الشرطة للعنف في فض اعتصام سلمي للسودانيين أمام مقر مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين في ديسمبر 2005. وأصدرت النيابة العامة قراراً بحفظ التحقيقات في الحادث دون إحالة شخص واحد للمحاكمة، ورفضت الحكومة السماح بأي تحقيق دولي. كما بدأت قوات الشرطة على الحدود المصرية ـ الإسرائيلية عام 2007 في إطلاق النار مباشرة على المهاجرين الأفارقة أثناء محاولتهم التسلل عبر الحدود إلى إسرائيل بدوافع اقتصادية. وقد أدت هذه السياسة إلى مقتل 33 مهاجراً خلال عام 2008 وحده. ولم تقم الحكومة المصرية بالإعلان عن إجراء أي تحقيقات أو محاكمات بشأن أي من تلك الحالات.
أما فيما يخص الاختفاء القسري، فإن أجهزة الأمن المصرية مازالت مسئولة عن عدم إجلاء مصير العديد من المعتقلين الذين فشل ذووهم ومحاموهم حتى اليوم في معرفة مصيرهم بعد اعتقالهم. وقد أحصت المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 2007 ما لا يقل عن 53 حالة من المختفين قسرياً منذ عام 1992اشهرها الصحفي رضا هلال.
و فيما يخص القبض العشوائي و الاحتجاز التعسفيفقد توسعت أجهزة الشرطة في الأعوام الأخيرة في حملات المداهمة الجماعية والعشوائية، لا سيما في أعقاب وقوع تفجيرات أو اعتداءات جنائية أو طائفية، وهي حملات يتلوها عادة احتجاز أعداد متفاوتة من المواطنين بشكل غير قانوني ودون عرضهم على أي جهة قضائية، مع عدم السماح لهم بالاتصال بأسرهم أو محاميهم. كما اعتادت أجهزة الأمن على احتجاز عائلات كاملة كرهائن لإجبار مطلوبين على تسليم أنفسهم. وقد أسهمت حالة الطوارئ في ترسيخ هذه الانتهاكات ومنهجتها، خاصة وأن قانون الطوارئ يسمح بالاعتقال الإداري لكل من يمثل “خطراً على الأمن العام”، ولا يسمح للمعتقلين بالطعن في مشروعية اعتقالهم أمام هيئة قضائية إلا بعد مرور شهر كامل على اعتقالهم. وحتى في الحالات التي يحصل فيها المعتقلون على أحكام بإطلاق سراحهم فإن وزارة الداخلية عادة ما تقوم بإصدار قرار اعتقال جديد دون الإفراج عن المعتقل، في انتهاك حتى لقانون الطوارئ نفسه. ونتيجة لهذه السياسة فقد وصل عدد المعتقلين في السنوات الأخيرة إلى ما بين 12-14 ألف معتقل، يرجع تاريخ اعتقال بعضهم إلى 15 عاماً دون اتهام أو محاكمة وبالرغم من حصولهم على عدد من قرارات الإفراج التي لم تنفذ.
وأخيراً فإن السجون المصرية تعاني من الاكتظاظ الشديد للسجناء والمعتقلين داخل الزنازين، مع تدني مستوى النظافة وتلوث المياه وقلة الطعام مع انخفاض قيمته الغذائية ومنع التريض. ومع انتشار أمراض كالدرن والجرب بين السجناء والمعتقلين، فإن الرعاية الصحية داخل السجون تعاني من قصور شديد في الموارد البشرية والمادية وفي حالة المعتقلين السياسيين، فإن وزارة الداخلية دأبت على التوسع في منع الزيارة والاتصال بالعالم الخارجي عنهم عبر إصدار قرارات بإغلاق بعض السجون ومنع الزيارات عنها لدواعي أمنية، أو تقصير مدة الزيارات، والرقابة التعسفية على المراسلات، وعدم إخطار أسرة السجين أو المعتقل أو السماح له بإخطار أسرته بنقله من سجن لآخر
ب ـ إدارة العدالة وحكم القانون
يحفل النظام القضائي المصري بأشكال مختلفة من انتهاك معايير المحاكمات المنصفة وضمانات استقلال القضاء. وقد أدى الاستمرار المتواصل للعمل بقانون الطوارئ منذ 6 أكتوبر 1981 إلى الإهدار الفعلي لقيم دولة القانون والمساواة أمام القضاء، فضلاً عن تقويض مؤسسات العدالة عبر إنشاء نظم قانونية استثنائية موازية لها. وقد سمح قانون الطوارئ للأجهزة الأمنية بتعطيل أحكام الدستور على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، حيث أجاز لها وضع قيود على حرية الأشخاص في الاجتماع والانتقال والإقامة والمرور في أماكن أو أوقات معينة، وذلك على الرغم من كفالة الدستور لهذه الحريات ومنع تدخل رجال الأمن في ممارستها. كما انتشرت عمليات القبض والتفتيش دون أذون قضائية حتى أصبح هذا الاستثناء هو الأصل العام في ممارسات أجهزة الأمن، ولم يعد في قدرة المواطنين الاعتراض أو حتى الاستعلام عن سبب تعرضهم للتوقيف والتفتيش بل والاحتجاز أحياناً في ظل شيوع سياسة الاستثناء التي تضع ضابط الشرطة فوق الدستور والقانون.
وبموجب قانون الطوارئ أيضاً تم إنشاء محاكم استثنائية هي محاكم أمن الدولة “طوارئ” التي تختص بالنظر في طائفة واسعة من الجرائم التي يعاقب عليها القانون العام. ولا تتوافر في هذه المحاكم ضمانات المحاكمة المنصفة ولا يمكن الطعن على أحكامها. ويجوز لرئيس الجمهورية التدخل في تشكيل هذه المحاكم وضم عسكريين في هذا التشكيل، كما يكفل له قانون الطوارئ الحق في التدخل في أحكامها بعد صدورها عبر التصديق أو تعديل العقوبة أو إيقاف تنفيذها، كما يجوز له إلغاء الحكم مع حفظ الدعوى أو الأمر بإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى.
وبالإضافة إلى ذلك فإن حالة الطوارئ تجيز لرئيس الجمهورية إحالة المدنيين للمحاكم العسكرية، للمحاكمة في القضايا التي يختار عدم إحالتها للقضاء العادي. وفضلاً عن مخالفة ذلك الإجراء لمبدأ المساواة أمام القانون، فإن المحاكم العسكرية بدورها تنتهك معايير المحاكمة المنصفة، ومنها حق المتهم في محاكمة علنية أمام محكمة محايدة ومستقلة (وليس أمام ضباط عسكريين يتبعون السلطة التنفيذية) ولم تقتصر المحاكمات العسكرية على المشتبه في تورطهم في جرائم إرهابية، بل استهدفت في مناسبات عدة صحفيين وكتاب ومعارضين سياسيين وأعضاء بالبرلمان.
وتكفلت التعديلات الدستورية التي دفعت بها الحكومة في عام 2007 بإضفاء حماية دستورية على هذا الوضع الشاذ الذي يقضي بالالتفاف على القضاء الطبيعي وإنشاء نظام دائم موازٍ له لإجراء محاكمات لا ترغب الدولة في اجرائها امام القضاء الطبيعي. حيث جرت إضافة المادة 179 إلى نصوص الدستور، والتي أصبحت تكفل لرئيس الجمهورية إحالة المتهمين في قضايا الإرهاب إلى “أية جهة قضاء منصوص عليها في الدستور أو القانون”، في تكريس لمبدأ القضاء الاستثنائي. كما منحت المادة 179 للدولة الحق في إصدار قانون لمكافحة الإرهاب يجيز لها تعليق العمل بمواد الدستور المتعلقة بالحق في الحرية الشخصية وحرمة الحياة الخاصة وحرمة المنازل وعدم جواز القبض على الأشخاص وتفتيشهم وتفتيش منازلهم ومراقبة اتصالاتهم وبريدهم إلا بإذن من السلطة القضائية، وهو ما يهدد بإدماج كافة السلطات التي تتمتع بها أجهزة الأمن في ظل حالة الطوارئ في نصوص القانون العادي حتى في حالة إنهاء العمل بقانون الطوارئ. علماً بأن الحكومة سبق وأن أصدرت بالفعل قانوناً لمكافحة الإرهاب عام 1992 لا يزال سارياً حتى الآن إلى جانب قانون الطوارئ.
من ناحية أخرى فقد استمرت الحكومة المصرية في انتهاك استقلال القضاء، بأشكال مختلفة تشمل تحكم السلطة التنفيذية في إجراءات تعيين وتأديب وندب وإعارة وتدريب وإجازات القضاة، و كذلك تبعية إدارات الإشراف القضائي لوزارة العدل وما يمثله ذلك من نفوذ للسلطة التنفيذية على القضاة ووكلاء النيابة، فضلا عن النصوص القانونية التي تمنح وزير العدل سلطة ندب رؤساء المحاكم الابتدائية والإشراف على إدارات المحاكم والتدخل في نظمها الداخلية كترتيب وتشكيل الدوائر وتوزيع القضايا على الدوائر المختلفة.
ج – حريات الدين والمعتقد والرأي والتعبير والتنظيم والتجمع والمشاركة العامة:
استمرت أوضاع حرية الدين والمعتقد في التراجع خلال العقود الماضية، حيث تصر الحكومة على الإبقاء على قوانين وسياسات تكرس التمييز على أساس الدين أو المعتقد، خاصة التمييز ضد الأقباط الذين يشكلون نسبة تترواح بين 8-10% من سكان البلاد. وتعد أبرز أشكال التمييز في ذلك الصدد تلك المتعلقة بحرية ممارسة الشعائر الدينية والحق في إنشاء وترميم الكنائس، والقيود المفروضة على الحق في اختيار أو تغيير الدين أو المعتقد، وبعض أوجه التمييز ضد غير المسلمين في مجال الأحوال الشخصية، فضلاً عن التمثيل المتدني للأقباط في الوظائف العامة والمجالس النيابية والمحلية، والتمييز ضد أصحاب المعتقدات التي لا تعترف بها الدولة وعلى رأسهم البهائيون المصريون. كما استمرت أجهزة الأمن في ملاحقة أو اعتقال أشخاص على أساس معتقداتهم الدينية، استناداً إلى تهمة “ازدراء الأديان السماوية” في قانون العقوبات، والتي سمحت لأجهزة الأمن بملاحقة كل من يعتنق أو يروج معتقداً دينياً لا ترضى عنه تلك الأجهزة، بما في ذلك المسلمين من الشيعة أو الأفراد الذين يعتنقون معتقدات تخالف التفسير الرسمي للإسلام كـ”القرآنيين” و غيرهم. أما الوجه الأخطر فيما يتعلق بالشأن الديني، فهو الفشل الكامل لأجهزة الدولة في نبذ التعصب الديني، وهو ما يظهر على وجه الخصوص في التحرش المتزايد بالأقباط و مؤخرا البهائيين، كما يظهر أيضا في لامبالاة أجهزة الدولة بتزايد التوتر و العنف الطائفي في المجتمع بين المسلمين والمسيحيين، وارتفاع وتيرة الاعتداءات الطائفية واتساع نطاقها الجغرافي ليشمل أغلب أنحاء البلاد
وفيما يخص حرية الرأي والتعبير، فقد استمرت الانتهاكات والقيود رغم نجاح الصحافة المكتوبة والمرئية في انتزاع هامش أوسع من حرية الصحافة في السنوات الأخيرة. فقد واصلت الحكومة رفضها لتعديل العديد من النصوص القانونية التي تجيز الحبس في قضايا النشر، رغم وعد رئيس الجمهورية بإلغاء هذه العقوبة منذ عام 2004. وتزايدت حالات الملاحقة القضائية للصحفيين ـ سواء على يد الدولة أو على يد عناصر مرتبطة بها ـ بما أدى إلى صدور أحكام بالحبس أو الغرامات الباهظة ضدهم في الأعوام الأخيرة. كما تزايدت حالات الاعتداء الجسدي على الصحفيين أثناء تأدية عملهم دون معاقبة، فضلاً عن التضييق على القنوات الفضائية الخاصة والتدخل في عملها وإغلاق عدد من مكاتبها وملاحقة بعض العاملين فيها قضائياً في تهم تتعلق بعملهم الصحفي. واستمرت ممارسات مصادرة المطبوعات وحجب بعض المواقع الإلكترونية. وقامت أجهزة الأمن باعتقال بعض المدونين على خلفية آرائهم السياسية أو ما يقومون بنشره على مدوناتهم وإحالة بعضهم إلى محاكمات أفضت إلى سجنهم. ورغم السماح بصدور بعض الصحف المستقلة في الأعوام الماضية فإن الدولة ما زالت ترفض تخفيف القيود التشريعية على حرية إصدار الصحف وملكيتها أو إنشاء المحطات الإذاعية والتلفزيونية الخاصة، وتستخدم هذه القيود في التفاوض مع الراغبين في الحصول على التراخيص بشأن محتوى المادة الإعلامية التي يعتزمون تقديمها. كما تزايدت ضغوط المؤسسات الدينية الرسمية ضد حرية الإبداع الأدبي والفني، سواء عبر تحريك الدعاوى القضائية، أو شن حملات التشويه ضد بعض رموز الفكر والرأي والإبداع ووصمهم بالكفر.
لا يتمتع أساتذة الجامعة أو طلابها بالحريات الأكاديمية والطلابية، والتي تشهد نفس الدرجة من التضييق والانتهاكات. فبالرغم من النص الدستوري على أهمية استقلال الجامعات فإن قانون تنظيم الجامعات يخضعها تماماً لسلطة المجلس الأعلى للجامعات، الذي يرأسه وزير التعليم العالي ويضم في عضويته رؤساء الجامعات المعينين بقرارات جمهورية، إلى جانب خمسة أعضاء يعينهم الوزير. ويتحكم هذا المجلس الحكومي في تحديد أعداد المقبولين بالجامعات، وتقرير إنشاء الدرجات العلمية والأقسام والكليات الجديدة، كما يتدخل أيضاً في صميم العمل الجامعي عبر القيام بتوزيع ميزانيات الجامعات على البنود المختلفة. وقد كان اختيار رؤسات الجامعات يتم بالانتخاب حتى عام 1994 وبعدها أصبح يتم بالتعيين بقرار من رئيس الجمهورية. كما أصبحت الموافقة الأمنية شرطاً من شروط التعيين أو الترقي أو السفر لأعضاء المجتمع الأكاديمي إلى مهمات علمية خارج البلاد، أو ترشيحهم لبعثات دراسية. وفي العديد من الحالات الموثقة منع ضباط الأمن المتواجدين داخل كل كليات الجامعة أساتذة زائرين من دخول الحرم الجامعي. و إن أساتذة الجامعات ملزمون بالحصول على موافقة أمنية مسبقة قبل إجراء أبحاث مشتركة مع شريك أجنبي، أو دعوة أساتذة أجانب للمشاركة في ندوات أو مؤتمرات أو إلقاء محاضرات داخل الجامعة. ويتحكم الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بموجب قانونه الصادر عام 1964 في إصدار كافة التصاريح الخاصة بإجراء أي أبحاث ميدانية. وأخيراً فإن اللائحة المنظمة للأنشطة الطلابية التي أصدرتها الدولة عام 1979 تفرض الكثير من القيود على حق الطلاب في حرية الرأي والتعبير التنظيم. فقد وضعت شروطاً معقدة ومانعة للترشيح في الانتخابات الطلابية تمنح مبررات قانونية للإدارة والأجهزة الأمنية لشطب الطلاب من قوائم المرشحين على أساس خلفياتهم السياسية والفكرية، بالإضافة إلي إعطاء الإدارة سلطة التحكم في كافة الأنشطة الطلابية. ومما لا يخلو من مغزى أن الطلاب المصريين لا يتمتعون بحرية انتخاب ممثليهم في الاتحادات الطلابية، إلا الملتحقون منهم ببعض الجامعات الأجنبية في مصر، والتي لا تخضع انتخابات اتحاداتها الطلابية للتدخلات الأمنية.
لا يتمتع المصريون بالحق في حرية تكوين المنظمات غير الحكومية المستقلة، حيث تفرض الدولة في التشريع والممارسة قيوداً مفرطة على حرية تكوين الجمعيات الأهلية وتمارس انتهاكات سافرة لهذا الحق. و يفرض قانون الجمعيات الصادر عام 2002 قيوداُ كبيرة وعلى مستوى الممارسات فإن الدولة واصلت انتهاكاتها حتى لنصوص قانون الجمعيات الأهلية المعيب، حيث استمرت الأجهزة الأمنية في التدخل في أعمال الجمعيات، وإلغاء عدد من فعالياتها ومؤتمراتها بالمخالفة للقانون، واستغلال النصوص القانونية المتعلقة بوجوب الموافقة الحكومية المسبقة للحصول على تمويل خارجي في التفاوض مع القائمين على الجمعيات أو الضغط عليهم للحصول على معلومات أو تعديل أنشطتهم أو إلغاء بعضها، على نحو تحولت معه وزارة التضامن الاجتماعي إلى مجرد نقطة اتصال بين الجمعيات الأهلية من جانب والأجهزة الأمنية من جانب آخر.
لا يتمتع المصريون بالحق في حرية تكوين الأحزاب السياسية، فهي تخضع للقيود المشددة التي يفرضها قانون الأحزاب السياسية الصادر عام 1977، والذي يكفل صلاحيات هائلة للجنة شئون الأحزاب ـ التي يسيطر عليها الحزب الحاكم ـ تتيح لها الموافقة على إنشاء الأحزاب أو وقف نشاطها وتعليق صحفها، بما يمنح الحزب الحاكم الكلمة العليا في تحديد منافسيه السياسيين أو استئصالهم. وقد قامت هذه اللجنة بالفعل برفض تأسيس ما لا يقل على 75 من الأحزاب السياسية. وأفضت بعض قراراتها إلى تجميد أنشطة بعض الأحزاب وتعميق الصراعات داخلها، من خلال دعمها لهذا الطرف أو ذاك بالمخالفة لأحكام القانون.
لا يتمتع المصريون بحقهم في حرية تشكيل التنظيمات النقابية المستقلة، فالقانون رقم 35 لسنة 76 بشأن النقابات العمالية يخضع كافة التشكيلات النقابية العمالية لإشراف ورقابة وزارة القوى العاملة، ويمنح الوزارة حق الاعتراض على إجراءات تكوين المنظمات النقابية. كما يمنح القانون سلطات واسعة للوزارة تتيح لها التدخل بشكل هائل في تنظيم وإدارة انتخابات النقابات العمالية. وتفضي هذه التدخلات الإدارية ـ فضلا عن التدخلات الأمنية ـ إلى استبعاد آلاف العمال من حقهم في الترشيح، علاوة على التزوير واسع النطاق للعملية الانتخابية، بما يكفل تكريس سيطرة العناصر الموالية للحكومة وحزبها على مستويات التنظيم النقابي الرسمي المعروف باسم اتحاد نقابات عمال مصر. وفي ظل التوسع في سياسات التوظيف بعقود مؤقتة، فإن العمالة المؤقتة التي باتت تشكل نسبة لا يستهان بها من مجمل القوى العاملة تظل محرومة من الحق في الترشيح للمستويات المختلفة من التنظيم النقابي الرسمي. وعلى صعيد النقابات المهنية تكفي الإشارة إلى أن القيود بالغة التعسف التي يتضمنها القانون 100 لسنة 1993 بشأن تنظيم انتخابات النقابات المهنية، ، والتي استهدفت منع انخراط هذه النقابات في العمل السياسي، قد آلت عمليا إلى تجميد إجراء الانتخابات لنحو 14 عاما في 12 من النقابات المهنية.
لا يتمتع المصريون بالحق في حرية التجمع السلمي، وتستخدم الدولة القيود التشريعية والعنف المفرط في حرمانهم من ممارسة هذا الحق. ورغم تزايد وتيرة الاحتجاجات السلمية في الأعوام الأخيرة، إلا أن أغلبها تم تنظيمه بالمخالفة لأحكام هذه القوانين المعيبة، وكثيراً منها تعرض للاعتداء على المشاركين فيها بما أدى إلى سقوط عدة قتلى (كما حدث في احتجاجات المحلة الكبرى في إبريل 2008) والمئات من المصابين.
يواجه المصريون انتهاكات جسيمة لحقهم في المشاركة في الحياة العامة عبر الانتخابات، حيث يتعرض من يسعون لممارسة هذا الحق لطائفة واسعة من القيود والانتهاكات التنفيذية والأمنية. فقد فرضت التعديلات الدستورية الأخيرة قيوداً مستحيلة حرمت المرشحين المستقلين فعلياً من التنافس في الانتخابات الرئاسية. أما الانتخابات التشريعية التي جرت في 2005، والتي أشرفت عليها لجنة عليا يرأسها وزير العدل فقد شهدت عنفاً غير مسبوق أدى إلى مصرع 13 مواطناً نتيجة للطوق الأمني المشدد الذي فرضته قوات الأمن المركزي على مقرات الاقتراع لمنع المرشحين من الوصول إليها. وشهدت عمليات الفرز وإعلان النتائج تدخلاً أمنياً وإدارياً قوياً وتجاهلاً للعديد من الأحكام القضائية. خلال انتخابات مجلس الشورى في عام 2007، حيث منعت قوات الأمن المرشحين من الوصول إلى مقرات الترشيح، واعتدت على مراقبي منظمات المجتمع المدني، بل وقامت بإلقاء القبض على عدد من المرشحيين المعارضين أثناء تقديم أوراق ترشحهم، واعتقال عدد من المحامين ووكلاء المرشحين. وجاءت النتائج لتظهر نتيجة هذا التدخل: فمن أصل 88 مقعداً حصل الحزب الحاكم على 84، وفاز ثلاثة مرشحين اخرين محسوبين على الحزب الحاكم بمقاعد، بينما لم تحصل المعارضة سوى على مقعد وحيد بعد عامين فقط من حصولها على أكثر من خمس مقاعد مجلس الشعب. وأخيراًَ جاءت انتخابات المجالس المحلية في 2008 كأسوأ انتخابات شهدتها البلاد. وأفضت الانتهاكات الواسعة التي رافقتها الى تمكين الحزب الوطني من الفوز بنسبة 99.13% من المقاعد.
د – الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
يعاني واحد من كل خمسة مصريين من الفقر، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة والبنك الدولي. ويشير تقرير التنمية البشرية لمصر لعام 2008، والصادر عن الدولة، إلى أن نسبة من يعيشون تحت خط الفقر الرسمي ارتفعت من 16.7% عام 2000 إلى 19.6% من السكان. وتزيد هذه النسبة في الريف لتصل إلى 52% في صعيد مصر. ويظهر التفاوت واضحاً بين الريف والحضر نتيجة السياسات التمييزية في مجال الخدمات وكفالة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فرغم أن الريف المصري يشكل نسبة 56% من سكان البلاد، إلا أن سكان الريف يمثلون 78% من الفقراء، و80% من السكان الأشد فقراً. وتزداد الصورة قاتمة كلما اتجهنا جنوباً، فبينما لا تشكل محافظات الصعيد أكثر من ربع سكان مصر فإن نسبة هؤلاء إلى إجمالي السكان الأشد فقراً تصل إلى 66%. كما تستأثر محافظات الصعيد بنسبة 95% من القرى الألف الأشد فقراً في مصر. بل إن الوضع في الصعيد ازداد تدهوراً في الأعوام الأخيرة وتدفع النساء والأطفال كالعادة الثمن الأكبر للفقر.
وفيما يتعلق بالحق في الصحة، فإنه في الوقت الذي لا يتمتع فيه قرابة نصف سكان البلاد بأي تغطية تأمينية علاجية، فإن مستوى الإنفاق العام على الصحة ظل متدنياً للغاية، حيث لم يتجاوز 3.6% من الإنفاق العام في موازنة الدولة لعام 2008-2009. ووفقاً لإحصائيات وزارة الصحة عام 2008 فإنه من بين حوالي 87 ألف وحدة ومنشأة صحية في أنحاء البلاد، فإن نصيب الريف منها لم يتجاوز حوالي ثلاثة آلاف وحدة. كما لا تحصل الشريحة الدنيا من الدخل إلا علي 16% من الإنفاق على الصحة بينما الشريحة الأعلى من مستوى الدخل في مصر تحصل على 24% من الإنفاق العام على الصحة.
وتشير أوضاع الحق في السكن الملائم إلى تدهور مماثل. فقد شهدت الأعوام الأخيرة اتساعاً في حزام العشوائيات العريض المحيط بالعاصمة، واتساعاً موازياً في انتهاكات حقوق السكن في مصر وعلى رأسها الإخلاءات القسرية التي أسفرت عن تشريد كثير من سكان العشوائيات بدلا من إيجاد سكن بديل ولائق لهم.
وتعاني الجماعات السكانية الواقعة على أطراف الدولة من أنماط إضافية من التهميش والانتهاكات. حيث يعيش بدو سيناء على حدود مصر الشرقية في شبه انفصال كامل عن الحكومة المركزية في القاهرة. وإلى جانب نصيب البدو المنخفض من خدمات البنية التحتية والصحة والتعليم، فإن الدولة تمنعهم من تملك الأراضي التي يعيشون عليها أو الاستفادة من أهم الأنشطة الاقتصادية في منطقتهم وهي السياحة. كما أدى حصر الاتصال بين البدو والدولة في يد الأجهزة الأمنية وحدها إلى التعامل مع المجتمع البدوي على أساس صور نمطية سلبية قائمة علي الاشتباه المسبق في انخراطهم في أعمال التهريب أو تجارة المخدرات والسلاح أو التعاون مع السلطات الإسرائيلية. وفي الأعوام الأخيرة وفي أعقاب التفجيرات التي شاهدتها سيناء منذ عام 2004 تعرض بدو سيناء لانتهاكات أمنية سافرة تمثلت في اقتحام مناطقهم واعتقال الآلاف من الرجال وتعذيبهم.
وبالمثل، فإن أهالي النوبة في أقصى جنوب مصر ما زالوا يدفعون ثمن التهجير الجماعي الذي تعرضوا له على عدة مراحل على مدى القرن العشرين في سبيل تنفيذ مشروعات مائية. وترفض سلطات الدولة الاستجابة لمطالب النوبيون بحقوقهم، والتي تشمل إعادة تأسيس قراهم حول بحيرة النوبة بعد أن استقر منسوب المياه فيها، وتنفيذ خطة وبرنامج زمني لتسهيل عودة المهجرين إلى هذه القرى وتوفير فرص العيش والبنية التحتية والتنمية المستدامة في المنطقة، وكفالة حق النوبيين في المشاركة في عملية اتخاذ القرار ومتابعة تنفيذه فيما يتعلق بأي مشروعات تخص منطقتهم.
هـ – حقوق النساء
شهدت الفترة الأخيرة بعض التقدم في عدد من ملفات حقوق النساء في مصر، من قبيل صدور قانون محاكم الأسرة وإزالة التمييز ضد النساء في مجال منح الجنسية المصرية لأبنائهن، وفتح مجال لتعيين النساء في النيابة الإدارية والقضاء، وصدور قانون لتخصيص مقاعد للنساء بمجلس الشعب كتدبير مؤقت.(برغم أنه يتوقع أن يكون وسيلة إضافية لتعزيز الأغلبية البرلمانية الساحقة للحزب الحاكم) ومع ذلك لازالت النساء المصريات يعانين من جملة من مظاهر التمييز على المستوى التشريعي، إضافة إلى التمييز والعنف اللذين تتعرض لهما النساء المصريات في الواقع المعاش. فعلى مستوى التمييز ضد النساء في التشريعات، لايزال الطلاق حقاً مطلقاً للرجل ولا يجوز للمرأة سوى في الحالات التي ينص فيها عقد الزواج على توكيل الزوج لزوجته في تطليق نفسها (العصمة). أما في غير تلك الحالات النادرة فإن على النساء أن يمضين سنوات طويلة في محاكم الأسرة أو أن يلجأن إلى نظام الخلع الذي يعني في الواقع تنازل المرأة عن كافة حقوقها المادية مقابل الحصول على طلاق سريع نسبياً. كما لا يكتفي قانون العقوبات بعقوبة الحبس على الخيانة الزوجية، وإنما ينص على عقوبة أشد في حالة النساء . كما لا زالت مصر تتحفظ على ثلاث مواد من اتفاقية إزالة التمييز ضد المرأة (السيداو) وقد يكون أخطر تلك التحفظات هو التحفظ علي المادة 2 التي تنص على أنه على الدول المصدقة اتخاذ التدابير اللازمة لتعديل التشريعات الوطنية التي لا تتفق مع أهداف الاتفاقية، ذلك أنه بدون تلك التدابير تبقى الاتفاقية نصاً غير مفعل. أما على مستوى التمييز في الواقع فإن جميع الإحصاءات المحلية والدولية تجمع على أن النساء يشكلن نسبة أكبر من الرجال في معدل الأمية (خاصة في الريف)، ويتمتعن بنصيب أقل من خدمات الرعاية الصحية (بما في ذلك خدمات الصحة الإنجابية، وهو ما يفسر المعدل المرتفع من وفيات الحوامل في مصر)، ولا يمثلن أكثر من ربع قوة العمل في القطاعات الرسمية، وحتى النساء العاملات لا يحصلن على أجر عادل بل يشكل دخلهن خُمس دخل الرجال، كما أن نسبة البطالة بين النساء أعلى بكثير من نظيرتها بين الرجال.
وفيما يتعلق بالعنف ضد النساء، فإنه ورغم غياب مصطلح “جرائم الشرف” من التشريعات المصرية، إلا أن قتل النساء على خلفية الشرف يلقى تعاطفاً من المحاكم ويشهد تخفيفاً للحكم على جريمة هي في واقع الأمر جريمة قتل عمد، يتيح قانون العقوبات للقاضي النزول بالعقوبة درجتين إذا رأي أن ملابسات الجريمة تستدعي ذلك. وتستند المحاكم إلى المادة ذاتها لإصدار عقوبات مخففة أحياناً في جرائم الاغتصاب والعنف الجنسي. ولا يحتوي القانون المصري على نص يجرم العنف الأسري، وعلى المرأة التي تسعى إلى الحصول على الطلاق بسبب العنف الممارس ضدها أن تثبت بالتقارير الطبية والشهود مدى الضرر الذي تعرضت له، مما يستثني كافة أشكال العنف النفسي. ولا يعترف القانون المصري بالاغتصاب الزوجي. كما لا يوجد نص تشريعي واضح يجرم التحرش الجنسي في أماكن العمل. ويضاف إلى كل ذلك، الصعوبات التي تواجهها النساء اللاتي يقررن أو يحاولن تقديم شكاوى بشأن الانتهاكات أو العنف الواقع ضدهن، بدءاً من غياب آليات حماية الضحايا، ووصولاً إلى عدم اهتمام الشرطة أو اشتراك أفرادها في العنف ضد النساء.
أما عن النساء العاملات فقد تضمن قانون العمل الموحد الصادر عام 2003 بعض البنود التي تكرس عدم المساواة بين الرجال و النساء في بعض الأحكام الخاصة بعمل المرأة ليلاً أو الأعمال الخطرة أو الضارة، وبعض الأحكام المتعلقة بالأمومة. فعلى الرغم من زيادة الدور الاقتصادي للنساء (33% من الأسر المصرية تعولها نساء) في ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي وتسارع وتيرة الخصخصة وتراجع الدولة عن تقديم الخدمات الأساسية وارتفاع معدلات البطالة، إلا أن ذلك الدور جاء بالأساس كرد فعل لانتشار الفقر وبطالة الزوج أو العائل ولم يصاحبه أي امتياز أو زيادة في التمتع بالحقوق القانونية داخل الأسرة. ورغم الحاجة الماسة للحماية القانونية في مثل هذا السياق الا ان قانون العمل الموحد انتقص العديد من المكتسبات التي حصلت عليها النساء مسبقاً: فلم يعد يحق للمرأة الحصول إجازة وضع قبل مرور عشرة أشهر من بدء العمل بينما كانت في القانون السابق ستة أشهر فحسب. بل يتم التعامل معهن على أساس أنهن عمالة مؤقتة يمكن أن تترك العمل في أي وقت بسبب دورهن الإنجابي داخل الأسرة، وبالتالي تحرم العاملات من حق الترقي وأيضاً من الحصول على الزيادة في الأجر والحوافز التي تمنح لمن يشغل المناصب الإشرافية. وفضلاً عن أن قانون العمل ينتقص من حقوق المرأة العاملة بشكل عام، فإن القانون يحرم العاملات فى الزراعة من التمتع بأي من تلك الحقوق من الأساس؛ حيث نص القانون على استثناء يسمح بعدم تطبيق النصوص المتعلقة بتشغيل النساء، وهى النصوص التى تتناول تحديد الأعمال الخطرة أو ساعات العمل الليلي و إجازات الوضع والرعاية وساعات الرضاعة. كما استثنى القانون عمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم من تطبيق أحكام القانون عليهم، لتظل هذه العمالة التي تزيد فيها نسبة النساء دون أي غطاء قانوني يضمن حتى تحديد ساعات العمل أو الأجر أو الإجازات أو تأمين الإصابات، فضلاً عن الحماية من العنف الجسدي أو الجنسي.
و – حقوق اللاجئين وطالبي اللجوء
تأتي مصر في المركز الخامس على مستوى العالم من حيث عدد اللاجئين الذين يعيشون على أرضها. ولا تحتجز الحكومة المصرية اللاجئين في مخيمات أو أماكن خاصة، وإنما يعيش هؤلاء وسط المصريين في القاهرة والإسكندرية على الأغلب. وبينما صدقت مصر على اتفاقية حقوق اللاجئين لعام 1951 والبروتوكول الملحق بها، إلا أنها أضافت عند التصديق تحفظات ذات أثر بالغ على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للاجئين خاصة فيما يتعلق بالتعليم الابتدائي وتشريعات العمل والضمان الاجتماعي. أما في الواقع المعاش، فإن اللاجئين يعانون من الحرمان من عدد أكبر من الحقوق. فرغم أن مصر لم تتحفظ على حق اللاجئين في اكتساب الأجر عن طريق العمل، إلا أن الحكومة المصرية لا تصدر تصاريح عمل للاجئين على الإطلاق، مما يدفعهم جميعاً إلى سوق العمل غير الرسمي المزدحم أصلاً بالمواطنين المصريين، ويجبرهم على قبول ظروف عمل غير إنسانية في مقابل أجر يعينهم على العيش. كما يعاني اللاجئون في مصر من نفس القيود المفروضة على حرية التنظيم والتي تم عرضها أعلاه، بما لا يمكنهم من تنظيم أنفسهم أو إنشاء روابط لمساعدة بعضهم البعض. ويتعرض اللاجئون وطالبو اللجوء أيضاً للتحرش وإساءة المعاملة والقبض العشوائي والاحتجاز غير القانوني على يد الشرطة، التي لا تسمح في كثير من الأحوال لممثلي مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين بالوصول إلى المحتجزين لتحديد نوع الحماية القانونية المستحقة لهم. كما ارتكبت الحكومة في عام 2008 انتهاكاً خطيراً للقانون الدولي حين قامت بترحيل ما يقرب من 1400 من اللاجئين وطالبي اللجوء من الإريتريين والسودانيين إلى بلادهم رغم ان حياتهم معرضة للخطر في بلادهم
رابعاً – خاتمة
على الرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها هذا التقرير، فإن المجتمع ما يزال يحفل بالعديد من أشكال المقاومة اليومية التي يخوضها أفراد ومجموعات في مواجهة هذه الانتهاكات والسياسات. وفي الأعوام الأخيرة انضمت إلى قوى المواجهة تلك قطاعات إضافية من السكان، ورغم بعض الإنجازات والانتصارات التي حققتها مقاومة التسلطية، فإن الصورة العامة لا زالت تشير إلى تواصل الانتهاكات المنهجية لحقوق الإنسان والإفلات من العقاب، واستمرار غياب الإرادة السياسية للتصدي لهذه الأوضاع.
Share this Post