بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسانتتوالى المُؤشّرات أخيراً على أنّ النُخَب السياسية ورموز المجتمع المدني في تونس تتعلم من أخطائها، وتعيد جِدّياً تقييم الأخطاء الكارثية، التي جعلت تونس فريسةً سهلةً لديكتاتورٍ عديم الموهبة والإنجازات، حتّى من نوعية تلك الإنجازات التي ربّما برّرت حدّاً أدني من الثمن الباهظ الذي تكبّدته شعوبٌ أخرى حكمها ديكتاتوريون آخرون.
راهن الرئيس قيس سعيّد، في انقلابه على الدستور (25 يوليو/ تمّوز 2021)، رهاناً رئيساً على الضغينة المتأصّلة بين النُخَب السياسية العلمانية والإسلامية منذ ما قبل ثورة يناير (2011)، باعتبارها الجسر الذهبي لعبور انقلابه من دون مقاومة، عبر تفتيت جسور التفاهم بين الإسلاميين والعلمانيين التي شيّدت تدريجياً، بإنشاء هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات عام 2005. لذا استهدف سعيّد مُبكّراً حركة النهضة بخطابه السياسي التحريضي، الأمر الذي لاقى تجاوباً من أوساط سياسية علمانية، ومن الاتحاد التونسي للشغل، ومن بعض أبرز منظّمات المجتمع المدني.
لا يعني هذا أنّ حركة النهضة لم ترتكب أخطاءً جسيمةً بعد حصولها على الأغلبية في أوّل برلمان بعد الثورة، وتشكيلها، للمرّة الأولى في تاريخ تونس، حكومةً برئاسة أحد أبرز رموزها. لكنّ أخطاء الحكومات المتعاقبة ذات الأغلبية العلمانية، التي تولّت إدارة البلاد بعد انتخاب الرئيس العلماني الباجي قائد السبسي في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2014 لم تكن أقلّ جسامةً. الطرفَان الإسلامي والعلماني يتحمّلان مسؤوليةً مشتركةً أيضاً عن إهدار ثماني سنوات ثمينة من دون إيلاء الحدّ الأدنى من الاهتمام لجوهر المشكلة الاقتصادية في تونس، أي سبل تعزيز إنتاجية البلاد، التي من دونها كان من الطبيعي أن يتدهور مستوى معيشة التونسيين، وأن تزداد نقمتهم على الثورة وكفرهم بالديمقراطية. وهذا كان جسر سعيّد الذهبي الثاني للمزاج الشعبي.
ليس هناك مُؤشّرات جادّة بعد على مراجعة النُخَب السياسية (علمانية أو إسلامية) لنمط التنمية الاقتصادية الفاشل بعد الثورة، ولكن هناك مُؤشّرات واضحة على مراجعة جارية (غير مكتملة) لصدع العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين. يتجلّى ذلك في توقّف المُشاحنات السياسية العلنية بينهما، والعودة إلى إصدار بيانات تحمل توقيعات أسماء بارزة تنتمي للطرفَين. من المنطقي أن يُؤدّي هذا التطوّر إلى جعل سعيّد يستشيط غضباً في بيانه الانتخابي الأوّل للشعب التونسي (15 سبتمبر/ أيلول الجاري)، إذ قال: “إنّ من المفارقات أنّ الذين كانوا يتبادلون التهم اجتمعوا في المظاهرات نفسها ويلقون نفس الخطاب، ويلتقي الذين كان يدعون إلى تطبيق الشريعة مع الذين يدعون إلى المثلية الجنسية”.
هناك أيضاً مُؤشّرات على انفتاح مُحتمَلٍ للنُخَب الإسلامية والعلمانية على احتمال تولي أحد رجال الدولة المهنيين (من عهد الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي) لرئاسة الدولة، إذا فاز في الانتخابات الرئاسية. ونعني بذلك حالة رضوخ الهيئة العُليا المستقلّة للانتخابات لحكم المحكمة الإدارية بإعادة الوزير السابق المنذر الزنايدي لقائمة المُترشّحين. يستلفت الانتباه أيضاً أنّ المنابر والرموز السياسية والمدنية التونسية، التي سبق أن انزلقت (دفاعاً عمّا اعتبرته شأناً تونسياً داخلياً) إلى إدانة بيانات أوروبية وأميركية انتقدت الممارسات القمعية للرئيس سعيّد، قد توقّفت عن مثل هذه الإدانات، رغم عدم توقّف الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية عن انتقاد ممارسات سعيّد القمعية.
ربّما لولا هذه المراجعات، بين النُخَب العلمانية والإسلامية، لما كان ممكنا خروج مظاهرة 13 سبتمبر الجاري، التي طالبت للمرّة الأولى برحيل الديكتاتور، بعد ثلاث سنوات من انقلابه على الدستور، ويأتي ذلك مدعوماً من أجهزة الأمن والمؤسّسة العسكرية، التي أغلقت بدبّاباتها برلماناً لم يكن قد جرى حلّه، وفي مواجهة نواب الشعب المُنتخبين. غير أنّ مزيداً من التأمل قد يشير إلى احتمال أنّ تلك المراجعة لا تقتصر على نُخَب المعارضة والمجتمع المدني، بل قد تمتدّ لتشمل بعض الأطراف، التي لولا دعمها لانقلاب سعيّد لما كان له أن يستمرّ ويتوحّش على النحو الذي عرفناه خلال سنوات ثلاث. فللمرّة الأولى منذ سنوات لم تغلق قوات الأمن مداخل العاصمة تونس أمام القادمين من خارجها للمشاركة في مظاهرة 13 سبتمبر، ولم تغلق شارع بورقيبة، الذي يُشكّل قبلة المظاهرات السياسية في تونس. بل ولم تمنع (كما اعتادت منذ سنوات) المتظاهرين من التظاهر أمام مقرّ وزارة الداخلية، رغم أنّ الهتاف الرئيس للمتظاهرين (للمرّة الأولى منذ خمس سنوات) كان المطالبة برحيل الديكتاتور. بل وهتفوا أيضاً ضدّ وزارة الداخلية بوصفها إرهابية. فهل تجري عملية إعادة تقييم داخل المؤسّستَين الأمنية والعسكرية؟ وهل يمكن النظر للأحكام الجريئة المتوالية خلال آخر أسابيع من المحكمة الإدارية (لصالح أقوى المُرشّحين المنافسين لسعيّد، وتلويحها بالتهديد بالحكم بعدم مشروعية المسار الانتخابي إذا جرى استكماله من دون هؤلاء المُرشّحين) بمعزل عن عملية إعادة التقييم المُحتمَلة في إحدى المؤسّستَين أو كلتيهما؟
هذا لا يعني أنّ الكاتب يطعن في الجدارة القانونية للمُرشّحين المُستبعَدين، أو في استقلالية قضاة المحكمة الإدارية التونسية، لكنّ تاريخ المؤسّسات القضائية في أرقي ديمقراطيات العالم يعلّمنا أنّ استقلال القضاة له حدود في زمن التطوّرات السياسية العاصفة. قد تكفي مراجعة سريعة لحالة المحكمة العليا في الولايات المتّحدة في آخر أشهر لإدراك طبيعة العلاقة المُلتبَسة بين القضاة المُستقلِّين والسياسة.
بالتأكيد، تجرؤ النُخَب السياسية على المراجعة ليس مهمّة يسيرة. التحلّي بحدّ أدني من الشجاعة الأدبية شرط أولي مهمّ من أجل الشروع في انتهاج مسار المراجعة. مع ذلك، فإنّ توافر هذا الشرط، وحتّى الشروع بالفعل في المراجعة، لا يشكّلان في حدّ ذاتهما ضمانةً للنجاح. لكن هذه المراجعة، مهما كانت غير مكتملة بعد، هي الخطوة الأولى التي لا مناص منها في هذا الطريق الشاق.
لعبت الثورة التونسية (2011) دوراً حافزاً حيوياً بالنسبة للمصريين للانتفاض على الرئيس الأسبق حسني مبارك، بعد 11 يوماً فقط من رحيل بن علي، لكنّ تلك الانتفاضة كانت أيضاً حصادَ سنواتٍ حافلةٍ بالنشاط الجماهيري السياسي والنقابي والإعلامي والحقوقي أكثر من عشر سنوات، جرى خلالها حوارٌ علماني إسلامي، ولكن بمستوي أقلّ نضجاً ممّا كان عليه هذا الحوار في تونس.
لعب التطوّر الداخلي في حركة النهضة دوراً حاسماً في هذا السياق. هناك فضل كبير يرجع لوجود مُفكّر مُجدِّد ومُتوقِّد الذهن، وسياسي براغماتي مثل راشد الغنّوشي على رأس الحركة في السنوات السابقة على الثورة. هذا التميّز النوعي تفتقر إليه أحزاب الإسلام السياسي في العالم العربي، التي ولدت من عباءة جماعة الإخوان المسلمين المصرية. لم تكن الجماعة الأمّ راضيةً عن تجديدات الغنّوشي بعد الثورة التونسية، ولا عن تفاهماته ذات الطابع البراغماتي مع الرئيس العلماني السبسي، رغم أنّ الجماعة كانت قد دفعت بالفعل ثمناً تاريخياً باهظاً ودامياً لافتقارها لفضيلة التعلّم من أخطائها التاريخية المتوالية منذ الانقلاب العسكري الأول في 23 يوليو/ تموز 1952. لم يكن الانقلاب الثاني في الثالث من يوليو 2013 حتمياً لولا افتقار الجماعة الأمّ لهذه الفضيلة، ووقوعها في أخطاءَ كارثيةٍ متواليةٍ منذ تنحّي الرئيس الأسبق حسني مبارك عن الحكم في 11 فبراير/ شباط 2023. وقعت الجماعات السياسية العلمانية أيضاً في أخطاءَ كارثيةٍ متواليةٍ منذ تنحّي مبارك، لكن تواطؤها على انقلاب يوليو (2013) كان بمثابة جريمة سياسية وأخلاقية. صمت هذه الجماعات والرموز العلمانية عن القتل اليومي التدريجي لعشرات ألوف الإسلاميين في سجون مصر هو بمثابة مباركة لهذه الجريمة.
يبدو أن فضيلة التعلّم أكثر مشقّةً على أحفاد “الفراعنة”؛ إسلاميين وعلمانيين.
المصدر: العربي الجديد
Share this Post