أنتجت مادة هذا الكتاب في خضم صراع ممتد مع أفكار شائعة وقوية لكتاب ومفكرين وشيوخ نساء ورجالا قاوموا – وما يزالون – العملية التاريخية الموضوعية لتحرير المرأة، التي بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وما تزال جارية، مستهدفة الوصول بالمرأة إلى وضع المواطن الكامل وتحريرها من الاستغلال.
ولم يكن هؤلاء تعبيرا عن أنفسهم فقط، بل غالبا عن قوى اجتماعية وسياسية فعالة لها مشروعاتها وبرامجها. وتكتسب هذه القوى شرعية متزايدة وإضافية، لكونها تكسب إلى صف أفكارها ملايين النساء اللاتي يندفعن بوعي أو بدون وعي إلى ارتداء الحجاب، الذي يتجاوز في هذه الحالة كونه زيا بين أزياء، وليصبح (شاءت النساء أم أبين) رمزا سياسيا متحركا لهذه القوى. بل إن انجذاب النساء إلى هذا المشروع السياسي مجرد ارتداء الحجاب إلى تبني المرأة ذاتها لصورة عن ذاتها تستجيب للأسس العامة لهذا المشروع الذي تنهض تصوراته للمجتمع الفاضل والمنشود على تراتبية طبقية ونوعية صارمة، تضع المرأة في مكانة أدنى منسوبة دائما إلى رجل، أب أو زوج أو شقيق أو ابن، محرومة من المواطنة مسجونة في صورة الأنثى التي لا ترقي إلى مستوى الإنسان بحكم ما لجسدها من وظائف مختلفة.
وبينما تسجن قوى الإسلام السياسي المرأة في صورة جسدها الذي تراه رمزا للشرف القومي والشخصي وتعتبرها لذلك عورة، فإن سياسات الليبرالية الجديدة والتكيف الهيكلي وما سمى بالانتفاح الاقتصادي التي كثفت الاستغلال عامة، تعتبر المرأة سلعة على أكثر من مستوى، سواء حين تستخدمها في الإعلان والترويج للبضائع في العالم التجاري الاستهلاكي الرأسمالي القائم على المنفعة العارية، أو حين تدفع بها إلى سوق العمل، كأيد عاملة رخيصة قليلة التعليم والتدريب لا ضمانات لها. وحين تتفاقم البطالة يجري سحبها من هذا السوق بحكم ضعفها، ويكون ذلك مصحوبا بتمجيد للأمومة وللبيت كمملكة للمرأة. وتلتقي الليبرالية الجديدة بذلك مع نقيضها الظاهري أي الإسلام السياسي الذي يمدها بدوره بكل التفسيرات الفقهية اللازمة لإعادة المرأة إلى البيت الذي تخرج منه المرأة لتعمل رغم أنف الجميع، وبعملها تحفظ الأسرة من التفكك والضياع في ظل بطالة الرجال وهجرتهم.
وهكذا تلتقي القوتان السائدتان، الإسلام السياسي والليبرالية الجديدة، رغم ما بينهما من تناقض ظاهري، في استغلالهما للمرأة والحط من شأنها ومكانتها بالرغم من خطاب المديح العالي للنساء الذي تنتجه كل منهما بطريقتها، حيث تكمن فضائل المرأة في الخضوع والطواعية وروح التضحية وقهر الذات.
وينتج هذا الواقع مقاومة تشتد حينا وتخفت حينا آخر في ارتباط وثيق بقضية الحقوق الديمقراطية والحريات العامة والكفاح من أجلها. ولعل أهم ثمار هذه المقاومة هي تلك الحركة النسائية الجديدة التي تطمح لبناء عالم قائم على العدل والمساواة والحرية، وهي تطرح قضية المرأة في كليتها وشمولها باعتبارها مواطنا وإنسانا أهدرت حقوقه وكرامته.
وهذه الحركة ليست استجابة كما يقول خصومها غير المنصفين لموضة نشأت في الغرب، أو صدرها لنا الغرب، كما يدعي أصحاب الخصوصية، وإنما هي احتياج أصيل واقعي وضروري ناتج عن حقيقة أن ملايين النساء تعلمن وانخرطن في العمل وحصلن على حق المشاركة السياسية واصطدمن بأوضاعهن المتدنية في المجتمع بحكم الثقافة السائدة، وفي الأسرة بحكم قانون بال للأحوال الشخصية قائم على التمييز ضد المرأة وفرض الوصاية عليها، وحيث يفوض النظام السياسي الطبقي الأبوي الأسرة لقهر وضبط نصف المجتمع نيابة عنه.
وتتقوى هذه الحركة النسائية الجديدة في بلادنا بما يجري في العالم من نمو هائل للاتجاهات النسائية التقدمية بتياراتها المختلفة وبنقدها لبعضها البعض، واشتداد عود حركة مناهضة العولمة على نحو خاص التي دخلت إليها منظمات النساء بكل قوة ضد سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، التي تنتهك حقوق الشعوب وتستغل الكادحين على امتداد المعمورة وفي القلب منهم النساء والأطفال.
وبات واضحا كالشمس أن التحرير الشامل للنساء من كل صنوف الخوف والاستغلال على الصعيد العالمي مرتبط بتجاوز العولمة الرأسمالية إلى عولمة جديدة تقوم على التضامن والمساواة والعدالة وإعادة توزيع الثروات على صعيد الكوكب، وفي كل بلد على حدة، والنقد الجذري لثقافة التمييز وإحلال ثقافة بديلة.
لكن الثقافة السائدة تعيش طوي لا حتى بعد أن يتقوَّض الأساس الاقتصادي الذي كانت تنهض عليه، وتنضج الثقافة الجديدة ببطء وتواجه عقبات بلا حصر، ولهذا فإن الحركة النسائية الجديدة التي توسعت آفاقها وجددت آليات عملها لتضمن عشرات الرجال المستنيرين ترى أن وجودها سوف يبقى ضروريا لمدى طويل شرط أن تكون جزءا فعالا ومعترفا به من حركة ديمقراطية شاملة، حيث التحرير لا يتجزأ.
وبعد، فإن نقد الأصولية لا يكتمل من وجهة نظري إلا بالعمل الجدي من أجل فصل الدين كلية عن السياسة، وإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تعيَّـن الإسلام دينا للدولة، وتقول أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع.
إن هذه المادة في الدستور هي التي تجعل كل أشكال التمييز ضد المرأة شرعية، فضلا عن أن تحديد دين للدولة يجعلها دولة دينية رغم نفي ذلك، ويمنح شرعية للقوى التي تكفِّر كلا من المجتمع والدولة، وتضطهد النساء.
وبديهي أن إلغاء هذه المادة لا يتناقض مع كامل الاحترام للدين ولدوره في الحياة والمجتمع والثقافة، ولحرية العبادة كما هو حادث في كل البلدان الديمقراطية العلمانية في العالم.
وكل ما أتمناه أن يثير هذا الكتاب جدلا في الحياة الفكرية والسياسية وضمن الحركة النسائية وحركة حقوق الإنسان ليغتني بأفكار جديدة وبالنقد على نحوٍ خاصٍ.
وإنني إذ أعتز بالمجيء إلى الحركة النسائية – وإن متأخرة – فقد فعلت ذلك حين أيقنت أن النضال من أجل الاشتراكية يزداد ثراء بالعمل النوعي في الميادين كافة، وبعد تجربة – لم تكن سارة دائما – مع ازدواجية بعض المناضلين الاشتراكيين الذين أخذوا يعيدون في سلوكهم إنتاج الأفكار والتحيزات المتخلفة ضد المرأة، وهم يكافحون من أجل الاشتراكية، وكأن القضيتين يمكن فصلهما.
فريــدة النقــاش
Share this Post