على أوروبا ألا تكرر الاستراتيجية الخاطئة التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ ١٤ عامًا في أعقاب هجمات 11 سبتمبر. لقد ساهمت تلك الاستراتيجية في النمو المتسارع للإرهاب وقوى التطرف العنيف. ليس فقط بسبب تماسها الجغرافي مع أكثر مناطق العالم خصوبة للإرهاب، وإنما بسبب تواطؤها –المتواصل– مع الأسباب الرئيسية التي أدت إلى نشأة وتوطن وتمدد الارهاب بجوار حدودها البرية والبحرية.
إن بشاعة الهجوم الإرهابي الذي وقع يوم الجمعة 13 نوفمبر الجاري واستهدف باريس –أبرز منارات العقل والثقافة والتنوير في العالم على مدار التاريخ– ونتج عنه سقوط نحو ٥٠٠ قتيل وجريح، هو أدعى لألا تفقد “باريس” “عقلها”، وتعود لتتبنى ما رفضته علنًا من الولايات المتحدة الأمريكية قبل ١٤ عامًا، أي الرد بـ “الحرب” من أجل إشباع غليل الانتقام لدماء الضحايا الأبرياء. لقد أثبت التاريخ أن “باريس” كانت على صواب و”واشنطن” كانت على خطأ. إن ميلاد “داعش” هو أحد أخطر النتائج التي ترتبت على قرار الرئيس الأمريكي السابق “بشن الحرب” وغزو العراق. إن أقل تكريم لدماء الضحايا الفرنسيين وغيرهم، الذين سقطوا ويسقطون كل يوم في أماكن شتى من العالم، هو بذل المزيد من الجهد لوضع استراتيجية تدرك أسباب الفشل المتواصل، وتؤمن الظروف المناسبة لوضع نهاية للإرهاب، لا المساهمة في المزيد من تمدده، وربما توطنه في أوروبا.
في هذا السياق، فإن فرنسا تحتاج إلى مراجعة السياسات والممارسات التي تؤدى بشكل متزايد إلى تنمية تربة خصبة مواتية للتطرف ولتجنيد المقاتلين والأنصار للتنظيمات الإرهابية بين مواطنيها المسلمين، حتى صارت فرنسا أكبر مورد –من خارج العالم العربي– للمقاتلين الأجانب في سوريا. كذا فإن فرنسا عليها أن تطور سياسات وممارسات تساعد على إدماج مواطنيها المسلمين وتتصدى لتهميشهم، دون أن تضحي في سبيل ذلك بقيمها العلمانية، أو مواجهتها للتطرف الديني. وهو ما قد يساعد على قطع الطريق على إنشاء أول فرع “لداعش” في أوروبا، إلا أنه لن يكفي بالطبع للقضاء على التنظيم الأم.
إن عنف وتوحش “داعش” –الذي قد يبدو خارقًا للبديهة الإنسانية– هو ثمرة طبيعية لتفاعل متواصل على مدار عدة عقود، بين معاناة ملايين الضحايا من المنتمين لأغلبيات وأقليات دينية وعرقية فى العالم العربى، ووحشية نظم صدام حسين والأسدين، الأب والأبن، ثم نورى المالكي وحكومات عربية أخرى. ثمرة تفاعل أيضًا بين خطاب علماني فاشي استئصالي تبنته أحزاب البعث الحاكمة، وخطاب آخر وهابي تكفيري لا تزال تبثه مؤسسات دينية حكومية –يوميًا– في دول عربية أخرى تزعم مكافحة الإرهاب. هو ثمرة عقود متواصلة من القهر المنهجي، لم يتورع خلالها عدد كبير من الدول العربية عن اللجوء لوسائل العقاب والقتل الفردية والجماعية، بما في ذلك استخدام الغازات الكيماوية القاتلة وإلقاء البراميل المتفجرة من الجو على المدنيين، فضلًا عن التعذيب الوحشي حتى الموت، واغتصاب النساء والرجال، فضلًا عن تنفيذ عمليات تحقيق تحت التعذيب بالوكالة عن الحكومة الأمريكية. جرى ذلك وسط تواطؤ دولي انتهازي قصير النظر، رجح المكاسب الآنية قصيرة العمر مع نظم صدام حسين والأسدين والقذافي وزين العابدين ومبارك وغيرهم –مثل خوض حروب بالوكالة، وشراء صفقات سلاح باهظة الثمن دون حاجة لها، لأنظمة تستخدمها في قمع شعوبها– على حساب استراتيجية بعيدة المدى والنظر، تساعد هذه المنطقة المنكوبة الملاصقة لأوروبا على التحول إلى منطقة بناء ورخاء واستقرار مستدام بسواعد شعوبها. إن الموجات المتلاحقة لملايين اللاجئين التي تدق أبواب أوروبا، والقوافل البحرية للمهاجرين غير الشرعيين التي تغزو سواحلها، والهجمات الارهابية التي تضرب عواصمها، هي ثمرة منطقية أيضًا لسياسة أوروبية بائسة وقصيرة النظر.
لقد تعرضت أغلبية دول إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية لاستعمار أوروبي لا يقل قسوة عما تعرضت له الدول العربية. ومع أن الحقبة الاستعمارية قد انتهت في العالم كله، إلا أنها لا تزال باقية في فلسطين. ولد القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان في أوروبا، ولكنهما دُفنا تحت أنظارها في فلسطين ودول عربية أخرى. على جثتي القانونين ازدهر القانون “اللاإنساني”. قانون الغابة هو القانون السائد الآن في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على أيدي حكومات عربية سابقة وحالية وإسرائيل والقاعدة وأخيرًا وليس أخرًا “داعش”. قانون الغاب هو الدرس الذي يتلقنه كل طفل في العالم العربي مع كل صباح جديد. إما أن يكون العالم قادرًا على تطبيق قانونه الدولي بالمعايير ذاتها على كل الأطراف، أو أنه سيواصل دفع الثمن لصالح توسع نطاق سريان قانون الغاب، حتى لو تضاعفت الاحتياطيات الأمنية والترسانات العسكرية عشرات المرات.
إن أمن الأفراد والجماعات والشعوب له أهمية قصوى في كل الأوقات في كل دول العالم. ولكن اختزال الوسائل في الأمني والعسكري منها فقط، لن يؤدى سوى إلى النتائج نفسها التي ترتبت على استراتيجية ما بعد ١١ سبتمبر، من تمدد للإرهاب وتوحشه بصورة أفظع. إن الأثار المترتبة على خيانة القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان لحساب سيادة قانون الغاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتواصل الفشل السياسي والاقتصادي في عدد كبير من دولها، وتفشي الفساد والجهل والكراهية وهيمنة التطرف الديني العنيف، لم ولن تنحصر آثاره بالحدود الجغرافية للمنطقة.
لقد تبنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل موقفًا إيجابيًا جريئًا إزاء أزمة اللاجئين السوريين في أوروبا، ولكنه جاء كخطوة منعزلة بلا أفق. ليس مطلوبًا من أوروبا “استضافة” شعوب المنطقة، بل أن تطور استراتيجية شاملة تجمع بين معالجة الجذور الأساسية المشتركة لأزمة اللاجئين الحالية والارهاب والفشل الاقتصادي والسياسي، وبين التمسك بالقيم الأوروبية. بما يؤدي إلى وقف تحول العالم العربي إلى منطقة طاردة لشعوبها أفرادًا وجماعات، ومُصدرة للتطرف السياسي والديني والإرهاب.
على الأمم المتحدة أن تقوم بمراجعة جذرية لآليات عملها، بما يكفل إنفاذ قراراتها وتوصيات هيئاتها المعنية بحقوق الإنسان على جميع الدول دون استثناء، بما يعيد الاعتبار لمكانتها الأخلاقية في العالم. إن ازدهار الإرهاب والقوانين القمعية في العالم العربي هو مرادف لانهيار المكانة الأخلاقية للأمم المتحدة والقانون الدولي في هذه المنطقة والعالم.
Share this Post