يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن قلقه الشديد على استقلال القضاء في مصر خلال المرحلة الانتقالية، إزاء ما يلحظه من تعرض القضاة لضغوط متزايدة في الشهور الأخيرة، برغم أنه كان من المتوقع أن يؤدي نجاح ثورة 25 يناير إلى منح مبدأ استقلال القضاء ومعايير العدالة دفعة كبرى للأمام.
فمن ناحية يعاني النظام القضائي من ازدواجية لا يمكن تبريرها، وذلك بتقديم المدنيين في نفس الوقت لنوعين من المحاكم عسكرية ومدنية، تجري الأولى بشكل سريع قد لا يستغرق ساعات، وتنتهي بأحكام قاسية في غياب محاميي المتهمين في كثير من الحالات، بينما تجري الثانية ببطء، حيث تجري محاكمة عدد من أبرز رموز نظام مبارك وقيادات أجهزته الأمنية، في وجود محاميي المتهمين وتغييب أسر الشهداء. ويتوازى مع ذلك ما يتعرض له نقاد المحاكم العسكرية –بما في ذلك القضاة المدنيين- للعقاب.
ويخشى مركز القاهرة من أن اعتداء أهالي الشهداء على رجال الشرطة وسياراتهم أمس -أثناء جلسة محاكمة وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي وعدد من كبار معاونيه- لن يكون الأخير. فقد وصلت هذه الضغوط حد محاصرة ساحات المحاكم، والتعدي على قاعاتها ومحاولة الفتك بالمتهمين، مثلما حدث قبل بضعة أسابيع في محكمة جنايات جنوب القاهرة، احتجاجا على تأجيل نظر القضية –التي يحاكم فيها ضباط الشرطة المتهمين بارتكاب جرائم قتل للمتظاهرين- مع الاستمرار في إخلاء سبيل المتهمين. وقد سبق أن احتشد الأهالي في مارس الماضي بالإسكندرية أمام المحكمة، احتجاجا على قرار المحكمة بإخلاء سبيل المتهمين بقتل عشرات المتظاهرين بالإسكندرية.
ويدرك مركز القاهرة أن ثمة شكوك ينبغي الإقرار بمشروعيتها لدى أسر الضحايا من شهداء الثورة -بل وعموم المصريين- حول مسار هذا النمط من المحاكمات التي تجري لكبار المسئولين في وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية، ممن توجه لهم أصابع الاتهام في تلك الجرائم؛ أخذا في الاعتبار الازدواجية التي يعالج بها المجلس العسكري قضية تطبيق العدالة. فبينما تبدي السلطات حرصا ملحوظا ومحمودا على التمسك بالضمانات الإجرائية والقواعد والمعايير التي تكفل محاكمة عادلة أمام القاضي الطبيعي لكبار رجال الأمن، ولرموز نظام مبارك، فإنها تتبع معيارا آخر، تجاه المدنيين المتهمين بجرائم أخرى، وأيضا تجاه مدونين ونشطاء سياسيين أو بلطجية مشتبه بهم، جرى تقديمهم إلى محاكمات عسكرية، تفتقر إلى العديد من الضمانات التي يوفرها المثول أمام القاضي الطبيعي.
وفضلا عن ذلك فإن هذه الشكوك تظل وثيقة الصلة بميراث الحقبة المباركية، التي عرفت تحصينا واسع النطاق لجرائم الشرطة من المحاسبة والعقاب. ولم يتورع فيها النظام في تلك الحقبة حتى عن توظيف بعض القضاة وهيئات التحقيق في استهداف منتقدي النظام ومعارضيه، أو في تعزيز الإفلات من العقاب، وهو ما تشهد عليه مئات البلاغات، التي فاض بها مكتب النائب العام في العقود السابقة، ولم تعرف طريقها إلى التحقيق، وانتهى الأمر بعدد كبير منها إلى الحفظ.
ويؤكد مركز القاهرة أن ضمانات المحاكمة العادلة التي يتعين أن يستظل بها مختلف صنوف المتهمين في القضايا المختلفة، تكتسي أهمية خاصة في القضايا التي يفترض أن يمثل فيها الرئيس المخلوع إلى جانب رموز نظامه ورجالات أجهزته الأمنية. ويشكل إعمال هذه الضمانات، وعلى رأسها قرينة البراءة، ضمانة أساسية للوصول إلى الحقائق كاملة واستخلاص الدروس والعبر، مما شهدته حقبة مبارك من انتهاكات جسيمة كانت تمارس بصورة منهجية ومؤسسية طيلة ثلاثة عقود. كما أن استيفاء إجراءات ومقتضيات ومعايير المحاكمة العادلة، يشكل بدوره ضمانة أساسية لئلا تقف حدود هذه المحاكمات عند تقديم بعض المسئولين السابقين، وإفلات قتلة آخرين يتعين أن تطالهم يد العدالة أيضا.
كما يؤكد مركز القاهرة على أن وقف هذا النمط من الضغوط المتزايدة على الهيئات القضائية بغية التأثير على قراراتها في هذه القضايا، يقتضي:
1- التحلي بقدر أعلى من الشفافية من جانب سلطات التحقيق في إحاطة الرأي العام أولا بأول بنتائج التحقيقات في ملفات القضايا ذات الصلة بمحاسبة المسئولين السابقين في نظام مبارك، وتنحية القضاة الذين تحوم حولهم شبهات منذ عهد مبارك، بأنهم كانوا يتلقون مسبقا الأحكام ضد الخصوم السياسيين من الأجهزة الأمنية، طالما عجز هؤلاء القضاة عن أن يبددوا شكوك الرأي العام.
2- التزام القائمون على الحكم وإدارة شئون البلاد بتطبيق معايير واحدة للعدالة على كافة القضايا، بغض النظر عن هوية المتهمين فيها وطبيعة التهم الموجهة إليهم. ويندرج في هذا السياق التمسك بحق أي متهم في أن تنظر قضيته أمام قاضيه الطبيعي، والامتناع بصفة نهائية عن إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية.
كما يندرج في هذا السياق ضرورة إعمال قواعد المساواة في تأمين فرص متكافئة في حق الدفاع، سواء لصالح أسر الضحايا أو لصالح المتهمين وتذليل المشكلات العملية، التي تجد معها أسر الضحايا نفسها محرومة من حضور ومتابعة مسار محاكمة المتهمين بقتل ذويهم.
3- النقل الفوري لتبعية التفتيش القضائي من وزارة العدل إلى المجلس الأعلى للقضاء، بما يعزز من استقلالية القضاء، ويساعد على الحد من شكوك الرأي العام حول تدخل السلطة التنفيذية في عمل القضاة وتأثيرها على أحكامهم
4- أن تضطلع وزارة الداخلية بمسئولياتها في إجراء تحقيق مواز من جانبها، تعلن نتائجه للرأي العام بشأن الانحرافات المنسوبة للوزارة وأجهزتها الأمنية طيلة عدة عقود سابقة، وأن توقف عن العمل كل الضباط المسئولين المتهمين في التحقيقات والمحاكمات الجارية، وأن تعلن للرأي العام عن الإجراءات والمعايير التي تتبناها لتطهير أجهزتها وهيئاتها من العناصر والقيادات المسئولة عن تلك الانحرافات التي أصابت في الصميم مصداقية الأجهزة الشرطية لدى المصريين. كما يتعين عليها أن تقدم اعتذارا وافيا للمصريين من جراء الجرائم والأفعال المنسوبة للوزارة وأجهزتها الأمنية. وعدد كبير من كبار المسئولين فيها.
5- أن تلتزم وسائط الإعلام المختلفة بأعلى قدر من المهنية والحيادية تجاه التغطية الإعلامية لكل المحاكمات، بما في ذلك المحاكمات الجارية لرموز نظام مبارك وقيادات الشرطة، وان تأخذ بعين الاعتبار مسئولية وسائط الإعلام في أن تنأى بنفسها عن التأثير عبر النشر في قرارات الهيئات القضائية، أو في الإضرار بحقوق المتهمين في هذه القضايا، وأن تكف عن طابع التغطيات الإعلامية التي تميل إلى إرضاء ميول بعض قطاعات الرأي العام في التشفي في المتهمين، وتقديمهم إعلاميا باعتبارهم مجرمون قبل أن يقول القضاء كلمته النهائية في حقهم، بعد محاكمة تتوافر فيها كافة معايير العدالة، وتجري في مناخ يحصن قرارات الهيئات القضائية من تأثيرات وضغوط الرأي العام.
Share this Post