محمد سيد سعيد
المصري اليوم، 7 يوليو 2008
الرئيسان السادات ومبارك لم ينقلا مصر لنظام رأسمالي تنافسي نزيه
الواقع أننا لا ننسب التراجع الذي ألم بثقافتنا بالمعني الواسع أو شخصيتنا القومية للرأسمالية كما جاءت في الكتب.. إننا ننسب هذا التراجع لنمط خاص جدا من الرأسمالية يسميه البنك الدولي نفسه برأسمالية المحاسيب أو رأسمالية النصابين.
الرأسمالية كما جاءت في الكتب نفضت عن المجتمعات التي أخذت بها رتابة أو كسل العصور ألوسطي وعلمت الناس فضائل العمل الشاق وأدخلت في أذهانهم ضرورة القبول بالجديد ودفعتهم للمخاطرة والتحرر من ثبات المكان والزمان. لقد أنتجت مفهوما جديدا للزمن امتلأ عن آخره بفحوى النشاطية الانسانية وإبداعات العقل البشري. وإن كان الربح هو المبدأ الأول المحرك للرأسمالية فلم يكن هو الدافع الوحيد للناس. فإن أخذنا بما قاله ماكس فيبر وهو مؤسس علم الاجتماع الحديث فالرأسمالية استدعت أو تطورت في ركاب نسق جديد من الأخلاق الذي نسبه للمسيحية وفيه التقشف والاهتمام بالاستثمار في مشروعات جديدة وتنمية الثروات أو ما نسميه في الإسلام بالإعمار والاهتمام بالتالي بالادخار وأهم من ذلك كله فكرة تطهرية عن العمل باعتباره قيمة عليا أو حتى مقدسة.
لقد كانت هذه الأخلاقية هي التي أفضت إلى تراكم سريع للغاية للثروة في أوروبا الغربية ثم في امريكا بعد ذلك. ولعلنا نقارن هنا بين اسلوبين مختلفين تماما للتطور. الأول حدث في انجلترا حيث تجسد بوضوح ما يقوله ماكس فيبر والعلماء الذين تلوه والثاني كان قائما بالفعل في البلد الذي أفاد إفادة ضخمة من الكشوف الجغرافية والموجة الأولي والأكثر توحشًا من الاستعمار وهي إسبانيا. الفارق أن الأولى قامت على الادخار والاستثمار وتطبيق نتائج المعارف والكشوف العلمية وكرست معيارًا لتقييم كل شيء بالنتائج وبمضمون ما تحققه اي ممارسة أو فكرة. وعلي العكس من ذلك كانت إسبانيا مازالت غارقة في قيم القرون الوسطي وكان المعيار الأساسي لتقييم كل شيء هو الطقوس الشكلية واستعراض الثروة أو حتى تدميرها علنا فيما لا طائل من ورائه سوي المتع الزائلة. وبكل بساطة تقدمت الأولي وعاشت الثانية ركودًا طويلًا جدًا لم ينته سوى من أقل من ثلاثة عقود فقط وعندما زجت بنفسها في عضوية الجماعة الأوروبية.
الاحتكار في مصر ليس عيبا ينشأ عن ظروف ولادة النموذج الرأسمالي، إنه القانون الأساسي لرأسمالية المحاسيب. وهذا هو ما لم تفهمه المؤسسات الاقتصادية الدولية ويمنع تطبيق إصلاحات ليبرالية حقيقية في الاقتصاد المصري.
بلدنا وجد نفسه مدفوعا من أعلي لهوة عجيبة وربما غير مسبوقة في تاريخه. فقد زج به الرئيسان السادات ومبارك في طريق خاص جدًا للتطور الرأسمالي يحمل كثيرًا من ملامح الإقطاع أو القرون الوسطي. أما الرئيس مبارك فينسب له بناء هذا النمط الأشد فسادًا من الرأسمالية وهو رأسمالية المحاسيب.
أهم ما يميز هذا النمط هو أنه لا يقوم على المنافسة الحرة مثلما تعظنا الكتب التي بشرت بالرأسمالية. بل تقوم تحديدا على المنافسة الاحتكارية أو على المنافسة المزورة. والأخيرة مثل الانتخابات المزورة بالضبط تنهض على اختيار نخبة الدولة –وتحديدًا الرئيس وأجهزته الأمنية– رأسماليين محددين دون رأسماليين آخرين. هناك عملية فرز دائمة تقوم بها نخبة الحكم وتستخدم فيها بيروقراطية الدولة لفرض منافسة غير نزيهة كما يحدث في الانتخابات العامة بالضبط. ووفقًا لعملية الفرز هذه ثمة تقريب وإبعاد مستمران لرجال الأعمال الكبار. بل إن فرص العناصر التي تدخل السوق بأي دوافع وإمكانيات للتحول إلى رجال أعمال مشهود لهم تتوقف قطعًا أو بصورة حاسمة على القرب ومن ثم التقارب مع الرئيس وحاشيته والأجهزة الأمنية. وتبعًا لدرجة القرب والبعد يتم تمكين مختلف رجال الأعمال من السيطرة على نصيب كبير في الأسواق.
وما نصفه بالاحتكار اليوم هو شيء مختلف للغاية عما اتسم به التطور الرأسمالي قبل 1952، فمن الطبيعي عندما تبدأ مشروعات جديدة في مجالات غير معروفة في بلد زراعي متخلف أن يسيطر رأسمالي واحد على السوق في سلعة أو خدمة ما. والمفروض أن تبدأ عملية كسر الاحتكار في مرحلة لاحقة. أما في الحقبة المباركية فالاحتكار ليس مرحلة مؤقتة بل هو سياسة قصدية أو وضعية تمنح لرجال أعمال معينين أو شركات بعينها في الأسواق الاستراتيجية. الدولة هي التي تمنح صفة الاحتكار وتحميه لفترة طويلة بما يكفي لتكوين ريوع خارقة. وهي ريوع وليست من الناحية الاقتصادية أرباحًا لأنها اشبه بالفوائض الإقطاعية. فرجال الأعمال المحظوظون أو الشركات المختارة “تُقطَع” سوقًا برغبة الرئيس أو الأجهزة الأمنية مثلما كان محمد على مثلًا “يُقطع” رجاله أي خدمه وحشمه وضباطه أراضي واسعة باسم “وسية” أو “أبعدية” أو “عزبة”.
تعميم الفساد والمحسوبية ونشر “ثقافتهما”
والحقيقة أن النخبة العليا للدولة حكمت بلادنا بهذه الطريقة ذاتها من القمة للقاعدة. فالمناصب الأساسية في كل أرجاء المجتمع والدولة بما فيها تلك التي تحتاج لقدرات فنية عالية تتحدد على أساس الولاء وليس الجدارة أو الاستحقاق. والمقياس الأساسي للولاء كان في أغلب الأحيان القبول بالخضوع للأجهزة الأمنية. غير أن الأهم هو أن الحصول على المناصب القيادية والعليا يضمن الهيمنة الشاملة على المؤسسات المعنية إلى حد يقرب من الملكية الخاصة. وفي اغلب الأحوال حلبت هذه المؤسسات أو نزفت عن آخرها. وفي كل الأحوال عممت القيادات الإقطاعية للمؤسسات العامة نفس قواعد السيطرة والخصخصة الفعلية على غيرها فخلقت جوًا مسمومًا بين الزملاء في كل المستويات. وما كان ذهنية فارغة شائعة في التقاليد البيروقراطية المصرية صار حالة متوحشة من الصراع بكل الوسائل على المناصب المحتملة أو على المزايا التي يمسك بها الرؤساء.
وأدي تعميم قاعدة المحسوبية إلى جعل الواسطة قانونًا عامًا للحصول على كل شيء بدءً من خدمات بسيطة إلى التعيين في الوظائف إلى منح الأرض القابلة للتسقيع والبيع.
لقد تم إفساد وتخريب مجتمع بكامله.
ولكن لماذا نتحدث بقدر من الاستفاضة عن رأسمالية المحاسيب في مصر ونحن نتحدث عن تراجع شخصيتنا القومية وثقافتنا؟
الإجابة هي أن التدهور الواسع الذي ألم بثقافتنا القومية وبالتالي بشخصيتنا يعود أساسًا إلى الطريقة التي وُلد وتطور بها الاقتصاد السياسي لرأسمالية المحاسيب أو للرأسمالية البيروقراطية أو للإقطاع المالي السائد في بلدنا.
إننا نتحدث في الحقيقة عن إقطاع.. وهو إقطاع ليس منبت الصلة بل على العكس وُلد تحديدًا على أرضية إقطاع آخر هو الإقطاع النفطي.
دعونا نسرع بشرح الارتباط بين هذا النمط الخاص من الاقتصاد السياسي من ناحية وتطور شخصيتنا القومية من ناحية أخري. وفي تقديري أن هذا الارتباط واضح في شرح بسيط وموجز للغاية. فرأسمالية المحاسيب في مصر نهضت في الجوهر كأحد النواتج المشوهة للفوائض النفطية في دول الخليج وعلي رأسها المملكة السعودية. ونتحدث هنا تحديدًا عن أهم هذه النواتج على الإطلاق: أي تحويلات المصريين العاملين في بلاد النفط العربية.
كل عمليات المضاربة والشركات العارضة والدائمة وأنشطة الاستثمار المالي والنقدي بل عمليات التسقيع النشطة للأرض وأنشطة البناء والمقاولات وشركات التوظيف ثم البورصة وغيرها نشأت بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن اشكال مختلفة من توظيف تحويلات المصريين العاملين بالخارج وبدرجة معينة أيضًا توظيف مدخرات واستثمارات جانبية لرجال وأسر وأجهزة خليجية وسعودية بصورة خاصة.
غير أنه لكي يكون من الممكن التنافس والسيطرة على التحويلات لابد ان يبدأ المصريون الزحف (علي ركبهم) للبحث عن فرص عمل والحصول عليها في بلاد النفط. وكل ما حدث في ثقافتنا مرتبط إلى حد كبير على الأقل حتى بداية هذا القرن ـ بهذه الواقعة: الهجرة – تحويل المدخرات – تعبئتها بأشكال مختلفة من أجل توظيفها في أنشطة مختلفة.
كان يتعين أن يعمل المصريون في الخارج حتى يدخروا المال ويمكنوا الطبقة الرأسمالية البازغة من بناء شبكة معقدة أو مصفوفة متكاملة للسيطرة على هذه المدخرات وامتصاصها.
انشطار الثقافة المصرية إلى نصفين متصارعين
ويمكننا أن ننسب شتي مظاهر الاقتصاد والمجتمع والسلوك الفردي وتحولات الثقافة في مصر إلى هذا العامل المزدوج: الهجرة الجماهيرية الضخمة للعمل خاصةً في بلاد النفط من ناحية والصراع للسيطرة على مدخرات المصريين في الخارج.
لقد تم تحويل الحياة في مصر إلى غابة حقيقية حتى يصبح العمل في الخارج الأمل الوحيد أو شبه الوحيد للبقاء والحصول على قدر من الاحترام الاجتماعي.
ومع الهجرة الجماهيرية وفتح الباب واسعًا للفساد في المؤسسات العامة واحتدام المنافسة على ما بقي من فرص الترقي والوظائف على المستويات كافة تم تفكيك كل مؤسسات الفعل الجماعي والتضامني لأن المواقع الطبقية والمكانات الاجتماعية لم تعد واحدة لأشخاص كانوا متساوين في كل شيء. وكان من المحتم أن ينشد الجميع ملاحقة بعضهم البعض إلى المواقع الطبقية الجديدة وأنماط الاستهلاك الجديدة بالتضحية بأي اعتبارات موروثة من الثقافة المصرية الأصيلة والتي قد تعوق محاولات الصعود الطبقي السريعة والضرورية لاستعادة التناسب مع أقارب أو زملاء أُثروا بسرعة بسبب الهجرة أو فرص الفساد.
لقد فقدت الدولة القدرة على مخاطبة وإلهام المصريين. وتفلتت الدولة من الخطاب الوطني الناصري المؤسس لها. وصارت بلا رأس أو فكر أو شرعية أخلاقية من أي نوع. ووقع فراغ أيديولوجي وفكري وثقافي رهيب كان من المحتم أن تسعي قوة ما لملئه. وهذا هو ما حاولته الأـيديولوجيا الوهابية المزودة بالمال والقوة الملكية السعودية. وساهمت عوامل كثيرة أخري في نشر التشدد الديني والتزمت الخارق في تفسير الإسلام وتراثه المديد. وفجأة تغير معني الايمان لدي المصريين. فتراجع التسامح والفهم الواسع وحل محلهما معني آخر تمامًا يتسم بالقسوة والانغلاق والتقولب والكراهية وعقيدة التفوق.
وبينما تفلتت من الالتزام بالخطاب الوطني بصورة متزايدة استمرت تحكم بصورة استبدادية وتغلق ما بقي من قنوات المشاركة الشعبية أو تجعلها غير ذات معني. ولم يعد من السهل الدفاع عن مؤسسات الفعل الجماعي أمام تجميدها فعليًا على يد تحالف الفساد والاستبداد. فطالما أن الدولة استبدت بكل شيء صارت كل مشكلات مصر “مشكلتهم” في القمة وليست “مشكلاتنا” كشركاء في وطن. وانصرف الجميع تقريبًا كل إلى حال سبيله حتى لا يعوقه شيء عن جري الوحوش وراء المال والمناصب وفرص الحياة.
والواقع أن انطلاق وإطلاق الأنانية والفردية اللاأخلاقية يرجع تحديدًا إلى هذه الحقيقة. فمع إغلاق قنوات المشاركة انزوت نزعة الانتماء ومن ثم الالتزام بثقافة وقيم مشتركة. ولأن ذلك تم في نفس اللحظة التي انتشر فيها الجمود والتزمت والعنف الديني انقسمت البلاد ثقافيًا على نفسها بين تيارين: الأول يحافظ على صلة ما بالتراث المدني والحضاري للدولة المصرية الحديثة ولثقافة المصريين المنفتحة والمتسامحة، والثاني أغرق نفسه في تفسيرات اكتئابية وانتقامية للدين الإسلامي الحنيف ونأي بنفسه عن التراث الديني الأصلي للمصريين. أضعف التيار الأول أن قاعدته الاجتماعية تهرأت بسبب ما قلناه عن نتائج الهجرة والاستبداد.
وافترست هذه النزعة المزدوجة ثقافة المصريين الأصلية والتي منحتهم القبول الحماسي من جانب بقية الشعوب العربية والعالم الخارجي بشكل عام.
Share this Post