في 11 فبراير سقط الديكتاتور، ولكنه لم يأخذ معه النظام الديكتاتوري التسلطي الذي طور مع الزمن نموذجًا كلاسيكيًا للدولة البوليسية، لا يختلف كثيرا عن تونس.
صحيح أنه ذهب، وأن عددًا من أبرز رءوس النظام قيد المحاسبة على جرائم محتملة، فسادًا أو اعتداءً جسيمًا على حقوق الإنسان، أو سوء إدارة، ولكن كل هذا لا يعني أن آليات وركائز النظام التسلطي البوليسي قد تهاوت أو أخذها الديكتاتور معه في حقائبه. سقط مبارك.. ولكن المباركية لم تسقط بعد.
المهمة الرئيسية الآن هي تفكيك أواصر هذا النظام التسلطي البوليسي وهدم ركائزه، واستبدالها بركائز نظام مدني ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان. هذا يتطلب تقويض الأسس الدستورية والتشريعية التي لولاها ما كان ممكنا أن ينشأ هذا النظام، ويشتد عوده مع الأيام ويتمتع بـ«المشروعية». هذه المهمة تتطلب أيضا حل الأجهزة والمؤسسات التي لولاها ما استطاع هذا النظام الاستمرار لعدة عقود، وأن يهزم أو يهمش كل مقاوميه.
إن أسس النظام التسلطي تجد جذورها وسندها في كل الدساتير التي اعتمدها نظام الحكم منذ ثورة يوليو 1952، والتي منحت كلها هيمنة مطلقة للسلطة التنفيذية على السلطتين القضائية والتشريعية. ومنحت رئيس الجمهورية ــ أيا كان اسمه ــ سلطات مطلقة لا تخضع لأي محاسبة، المطلوب هو إنهاء العمل بهذا الدستور، وليس تعديله، مهما اتسع نطاق التعديل، لأن فلسفة وروح هذا الدستور، هي مناقضة بشكل كلى لقيم ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحاضنة للتسلطية.
لقد أصاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين قرر حل مجلسي الشعب والشورى، فهما بلا شك أحد ركائز هذا النظام، ولكن إجراء انتخابات للمجلسين على ذات الأسس الدستورية التي تجعل منهما ديكورًا لا قيمة له، سوى إضفاء مشروعية زائفة على ما تعده السلطة التنفيذية من تشريعات وميزانيات لن يقدم الأوضاع خطوة واحدة للأمام. وهذا يضيف سببًا إضافيًا لأهمية وضع دستور جديد.
غير أن المؤسسة الأهم والركيزة الرئيسة لنظام الدولة البوليسية فى مصر، هو بلا شك جهاز مباحث أمن الدولة، الذى كان يدير كل أمور البلاد فعليا على مدى الساعة. إن التراخي في حل هذا الجهاز يعنى أن الثورة لم تنجح سوى فى استبدال رأس بآخر، بينما أبقت على أذرع الأخطبوط التي خنقت كل مسام التنفس السياسي والمدني للمصريين، وجرعتهم سموم التعذيب والاختفاء والقتل خارج القانون.
إن مصر لا تحتاج انتخابات رئاسية أو برلمانية غدا، بل تحتاج قبل كل شيء إلى إعادة حرث البيئة السياسية والتشريعية وتغييرها تماما، وبغير ذلك فإن ذات البيئة الفاسدة التي أنتجت أحد أسوأ المجالس التشريعية فى مصر، لن تنتج لنا مؤسسات مختلفة، أقرب لروح ثورة 25 يناير .
في ظل التشريعات الفاسدة السائدة، فإن الجماعات السياسية الشبابية التي أطلقت شرارة ثورة 25 يناير رغم أنف نظام الحكم وأيضًا أحزاب المعارضة التقليدية، هي جماعات غير مشروعة قانونًا، بينما الأحزاب التي رفضت مقاطعة الانتخابات المزورة، ورفضت المشاركة في يوم الغضب، تتمتع بكامل المشروعية، رغم أن أغلبية أحزاب المعارضة الحالية تنتمي سياسيًا وهيكليًا إلى «المباركية»، وأبعد ما تكون عن قيم ومبادئ ومطالب ثورة 25 يناير .
المطلوب هو عملية إصلاح دستوري وتشريعي واسعة النطاق خلال الفترة الانتقالية، بما يفتح الباب أمام القوى والتيارات التي أطلقت ثورة 25 يناير، للإسهام في تأطير وتعبيد الطريق نحو دولة مدنية ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان، دون ذلك سيجرى تسليم البلاد إما إلى نسخة منقحة من «المباركية»، أو الإسلاميين.
Share this Post