نشرت بالفرنسية على موقع orientxxi.info في 27 يناير 2019
بهي الدين حسن
خلال الأسبوع المقبل، يزور الرئيس الفرنسي ماكرون مصر للمرة الأولى بصفة رسمية. وأنا واثق من درايته بموقف منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية التي تتهمه بدعم الحكومة المصرية وشراكته معها في قمعها الدموي للشعب المصري. في العام الماضي، حين التقى ماكرون بالرئيس السيسي، قال الأول أنه لن “يعطي محاضرة” بشأن حقوق الإنسان. ولست متأكدا إذا كان هذا من منطلق اعتقاد الرئيس الفرنسي أن المصريين لا يستحقوا الحقوق نفسها التي يحظى بها الشعب الفرنسي، أم أنه يشعر بالذنب لشراكته المشينة في جرائم حقوق الإنسان المرتكبة ضدهم.
قطعًا يدرك الرئيس ماكرون أهوال الدكتاتوريات العسكرية في أمريكا اللاتينية، ولكنه ربما يغفل درجة التشابه بينها وبين قرينتها في مصر. في كولومبيا شهدت العقود الثلاث الاخيرة ظاهرة يشار لها بـ “الإيجابيات الكاذبة”، فبعدما اختطفت قوات الأمن الضحايا لمناطق نائية، أعدمتهم، ثم ألبستهم ثياب مقاتلين، وأدعت مقتلهم في مداهمات لأوكار العصابات. وبهذه الطريقة قتلت قوات الأمن حوالي 5,000 مدني خارج نطاق القانون. الظاهرة نفسها تحدث في مصر، فقط تختلف في الطريقة وعدد الضحايا. ففي حالة كولومبيا، كان 40٪ من الـ2,000 المقتولين في عام 2007 من المدنيين. لكن في سيناء وفيما يقدر الخبراء عدد مقاتلي داعش بين 1,000 إلى 1,500 مقاتل، تفتخر قوات الأمن المصرية بقتل 6,000 إرهابي منذ منتصف عام 2013! وعلى عكس أمريكا اللاتينية، حيث تنفَذ عمليات قتل الضحايا في يوم الاختفاء نفسه، يتم قتل الضحايا في مصر بعد أيام وأحيانًا بعد شهور من اختفائهم، على الأرجح بعد تخزينهم كحيوانات بشرية.
آخر “إيجابية كاذبة” وقعت في مصر كانت الشهر الماضي. بعد يوم واحد من انفجار استهدف حافلة تقل سياح في منطقة الأهرامات، إذ أعلنت الحكومة مقتل 40 شخص زعمت أنهم إرهابين في أماكن مختلفة من البلاد دون الكشف عن أسماء من قُتلوا أو أسماء الجماعات الإرهابية التي ينتمون لها ولكن الشرطة المصرية اتصلت لاحقاً بعائلات اثنين من المقتولين لاستلام جثت ذويهما، في حين تؤكد العائلتان أن المتوفيان احتُجزا قبل عامين واختطفتهما الشرطة أثناء احتجازهما بعد أن أمر النائب العام بالإفراج عنهم! جدير بالذكر أن 167 شخصًا قتلوا في سياق مماثل بين سبتمبر وديسمبر العام الماضي، لكن المسؤولين الأمنيين كشفوا أسماء ثلاثة منهم فقط.
تزيد حالات “الإيجابيات الكاذبة” في مصر منذ الانقلاب العسكري للجنرال عبد الفتاح السيسي-وزير الدفاع وقتها- في 3 يوليو 2013. ولما كانت أول أولوياته سحق خصومه السياسيين السلميين بغض النظر عن انتماءاتهم، يصف السيسي حملته المستمرة ضدهم أنها مكافحة الإرهاب، كضمانة لصمت الرأي العام الداخلي والخارجي على قمعه الدموي، الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ مصر الحديث. لكن يحتاج السيسي من وقت لآخر عرض بعض النتائج “الإيجابية” حتى لو كانت “كاذبة”، إذ يساعده ذلك على تبرير صفقاته القذرة أمام القادة الأجانب- مثل الرئيس ماكرون- ممن يشارك بعضهم فيها.
في مايو 2015، استيقظ المصريون على أول نموذج ساطع لهذا النمط الرهيب، عندما أعلنت وزارة الداخلية مقتل طالب جامعي يبلغ من العمر 22 عامًا يدعى إسلام عطيتو، زعمت أنه أطلق النار على قوات الشرطة عندما داهمت مخبئه في مكان ما بالصحراء، في حين تؤكد الوثائق الرسمية والشهادات الصادرة عن أعضاء هيئة التدريس والموظفين في الجامعة، وكذا أشرطة الفيديو الأمنية، أن الضحية شارك في الامتحان النهائي قبل يوم واحد من إعلان مقتله، وتمت ملاحقته من قبل رجلين بعد مغادرة مقر الجامعة.
في يناير 2017، أعلنت وزارة الداخلية مقتل 10 من عناصر داعش في تبادل لإطلاق النار، في حين كشفت عائلاتهم أن 6 منهم على الأقل اختفوا قسراً من منازلهم أو من الشارع، واحتُجزوا بمعزل عن العالم الخارجي لمدة تصل لثلاث أشهر. وبحسب الخبراء الفنيون الذين اضطلعوا بتحليل مقاطع الفيديو الصادرة عن قوات الأمن لتلك المداهمة، خلصوا إلى أن المقاطع مزيفة، الأمر الذي يرجح مقتل الـ10 خارج نطاق القانون وبعيدًا عن موقع المداهمة. هذا بالإضافة إلى ما يكشفه شريط فيديو مسرب لتصفية رجال عُزّل وقُصَّر، أدعت الحكومة المصرية مقتلهم في عمليات مكافحة الإرهاب.
تمكن السيسي بعد الانقلاب من توطيد سلطته وترهيب مؤسسات الدولة بطريقة لا مثيل لها لأي ديكتاتور آخر في تاريخ مصر الحديث، وبعدما نجح في تأميم القضاء والبرلمان ووسائل الإعلام بشكل كامل أصبح من المستحيل على أي مواطن مصري أو أي مؤسسة وطنية أن تُحاسبه على جرائمه المتعلقة بحقوق الإنسان، وإلا سينتهي بها الأمر إلى دفع ثمن باهظ لا يطاق. هذا هو السبب في أن السيسي وعد بشكل علني ضباطه بأنه إذا قتل ضابط متظاهرا أو جرحه، فلن يُحاكَم الضابط.
فبعد ثلاث سنوات من حشد جهود الحكومة الإيطالية والبرلمان والملاحقة القضائية والإعلام والمجتمع المدني المدعوم من المجتمع الدولي، لم تحصل عائلة الأكاديمي جوليو ريجيني على أي شيء من مصر بشأن اختطافه وتعذيبه وقتله وإلقاء جثته في الصحراء. بل شملت محاولات التهرب من الحقيقة في قضية ريجيني مقتل خمس مصريين خارج نطاق القانون للإيهام بمسئوليتهم عن قتل ريجيني، لكن الحكومة المصرية سرعان ما تخلت عن هذه الرواية بعد أن شكك فيها المحققون الإيطاليون. ومع ذلك، قد تكون عائلة ريجيني أسعد حظا من أُسر أكثر من 1,200 مصريًا اختفوا منذ عام 2013، وترفض حكومة السيسي الكشف عن مصيرهم، هؤلاء قد يكون بعضهم في انتظار دورهم كي يصبحوا “إيجابيات كاذبة”، أو ربما تنتظر جثثهم شخصًا يكتشفها عن طريق الخطأ، كما جثة ريجيني.
لهذا السبب اعتمد الرئيس السيسي في وقت مبكر سياسة عدم التسامح مطلقًا مع منظمات حقوق الإنسان المستقلة والمدافعين عن هذه الحقوق، الذين يخضعون اليوم للملاحقة القضائية، والتوقيف، والاختفاء، والإغلاق، والتشهير بهم كعملاء أجانب، وتجميد الأصول، وحظر السفر، أو كما في حالتي، تلقى بعضهم تهديدات بالقتل أعلم يقينا أن الرئيس ماكرون على علم بها.
في غياب وسائل موثوق بها لبلوغ الحقيقة والمساءلة عن الأحداث المرعبة التي وقعت في مصر على مدى السنوات الخمس الماضية، تقع على عاتق الأمم المتحدة مسئولية أخلاقية، قبل القانونية، للتعامل مع هذه المأساة من خلال تحقيق دولي. لكن هذا لن يكون ممكنا بدون دعم دول مهمة مثل فرنسا.
يخطط الرئيس ماكرون للقاء المدافعين عن حقوق الإنسان أثناء زيارته لمصر؛ مفترضًا أن اجتماعاً لبضع دقائق قد يساعد في غسل يديه من دماء المصريين الذين اشترك مع الحكومة الحالية في قتلهم وقمعهم. ليس الأمر بهذه البساطة؛ فهذا وقت العمل بطريقة مختلفة.
Share this Post