رهانـات المسـتقبل بعد عام على وعود «طوفان الأقصى»

In مقالات رأي by CIHRS

بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

تكبّد الشعب الفلسطيني خلال الاثني عشر شهرًا الماضية خسائرَ بشريةً وإنسانيةً وسياسيةً فادحةً، هي الأكثر قسوة منذ هزيمة حزيران 1967، التي أدت حينذاك إلى احتلال إسرائيل الضفّةَ الغربية وقطاع غزّة، فقد تجاوز عدد الشهداء 40 ألفًا، بينهم أكبر عدد لوفيات النساء والأطفال في صراع مسلّح في عام في العالم خلال العقدَين الماضيَين، وفقًا لأحدث تقرير من منظّمة أوكسفام. بينما يرصد تقرير للأمم المتّحدة في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي تدمير 60٪ من المباني في قطاع غزّة، بينها نحو ربع مليون منزل. فضلاً عن تدمير68٪ من الطرق في القطاع ونصف عدد المستشفيات، بينما يعمل النصف الباقي بشكل جزئي. تفيد التقديرات بأنّ قطاع غزّة يحتاج إلى نحو 15 عاماً لإعادة تعميره، وهذه عملية تحتاج إلى بلايين الدولارات.
من المحتمل أنّ إعلان حركة حماس أخيراً عودتها إلى لهجمات الانتحارية اليائسة مُؤشّر على تسليمها بعدم إمكانية استعادة قدراتها العسكرية في المدى المنظور. لقد صار مستقبل حكم غزّة مفتوحاً أمام احتمالات قاسية، بينها العودة إلى حكم الاحتلال الإسرائيلي بشكل صريح أو مموَّه. المُؤكّد في هذه الاحتمالات أنّ «حماس» لن تعود إلى حكم غزّة، على الأقلّ في المدى المنظور. هذا موضع توافق دولي عربي فلسطيني إسرائيلي. فضلًا عن أن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، يحيى السنوار، صار مطلوباً لمحكمة الجنايات الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية خلال «الطوفان»، جنباً إلى جنب مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو الذي أدار حرب الإبادة في غزّة.

تعزّزت خلال العام الذي انقضى، شعبية اليمين المُتطرّف في إسرائيل بمعدّلات متسارعة، وتلقّت حملات الاستيطان الاستعماري في الضفّة الغربية دعماً سياسيًا وميدانيًا غير مسبوق منذ سنوات، وتعالت النداءات بحملة تهجير بالقوّة وترحيل الفلسطينيين إلى الأردن. بالطبع؛ المقاومة المسلّحة للاحتلال حقّ مشروع وفقًا للقانون الدولي. يحتاج استخدامه في توقيت مُحدَّد إلى تبرير منطقي، ليس للحقّ بذاته، بل لعملية عسكرية ما أو معركة بعينها، فالحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى. وحركة حماس مدينة للشعب الفلسطيني بتوضيح ماذا كانت الأهداف السياسية التي كانت تتوخّاها من عملية طوفان الأقصى، بصرف النظر عن جرائم نُسب إليها ارتكابها في سياق هذه العملية ضدّ المدنيين الإسرائيليين. ماذا كانت الحسابات السياسية لحركة حماس لردّ فعل إسرائيل والعالم العربي والمجتمع الدولي؟
كشفت مأساة غزّة مدى اتساع التعاطف الإنساني العالمي مع مآسي الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، خاصّة في مجتمعات دول الغرب التي ساندت بعض حكوماتها بدرجات متفاوتة حرب الإبادة الإسرائيلية. اتخذت عدّة دول من أفريقيا وأميركا اللاتينية وأوروبا الغربية مواقف تضامنية صلبة، انعكست في قرارات للأمم المتّحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية. لكن ردَّات فعل الشعوب العربية والحكومات الإسلامية والعربية، بمن في ذلك السلطة الوطنية الفلسطينية، كانت دون أدنى التوقّعات. كانت مواقف الصين وروسيا ذات مغزىً رمزي، مجرّد تسجيل مواقف/ نقاط، لكنّها لم تسعَ في أيّ لحظة بشكل جادّ إلى لعب دور قيادي مؤثّر في هذه المسألة في الساحة الدولية. تكفي مقارنة سلوك هاتَين الدولتَين العظميتَين بسلوك دولة نامية مثل جنوب أفريقيا، لا تتمتّع بحقّ النقض (فيتو) أو حتّى بمقعد في مجلس الأمن. بينما لعبت الإدارة الأميركية دور الظهير العسكري ميدانيًا لحرب الإبادة الجارية في غزّة والدرع السياسي لها في المحافل الدولية. وواصلت الدور الإجرامي نفسه في مسرحية المفاوضات الفاشلة للتوصّل إلى وقف إطلاق النار في غزّة، بالتوازي مع جهود إسرائيل للإجهاز النهائي على حركة حماس. مع ذلك؛ لم يكن الانحياز الصارخ للإدارة الأميركية الحالية إلى العدوانية الإسرائيلية مفاجئاً لأيّ طرف متابع، فالرئيس الأميركي جو بايدن لم يُخفِ في مناسبات عدّة منذ عقود افتخاره بأنّه صهيوني.
لا يشكّل عجز المجتمع الدولي عن فرض وقف حرب الإبادة مفاجأةً كاملةً. لقد جرت حرب إبادة في سوريا منذ نحو عشر سنوات فشل المجتمع الدولي في وقفها، رغم أنّ إسرائيل لم تكن طرفًا فيها. كانت حرب الإبادة وما زالت مدعومةً من روسيا وإيران وحزب الله. والأخيرَان، إلى جانب نظام بشّار الأسد، أهم رؤوس محور الممانعة ضدّ إسرائيل. منذ نحو عشر سنوات ضمّت روسيا ذات صباح إقليمًا كاملًا من أوكرانيا وسط إدانات لفظية، واستسلام المجتمع الدولي لابتزازها المسلّح. الأمر الذي شجّع على إلهاب شهيتها التوسعية الامبراطورية لالتهام ما بقي من أوكرانيا بعد ثماني سنوات، من دون أن يستطيع مجلس الأمن المشلول بالفيتو الروسي أن يوقفها. منذ 18 عاماً أصدر مجلس الأمن القرار 1701 (تتضمّن بنودًا بهدف حفظ الأمن والسلام وإيقاف إطلاق النار، بعد 34 يوماً من الحرب بين إسرائيل وحزب الله)، ما حال دون تنفيذه ليس إسرائيل أو أميركا أو حتّى الحكومة اللبنانية الشرعية، بل طرف غير دولتي ومصنّف منظمةً إرهابية اسمه حزب الله.
لا تشكّل ردَّة الفعل الدولي المتهافت على الحرب الأهلية الجارية في السودان أو حرب الإبادة في غزّة مفاجأةً كاملةً، فالأمم المتّحدة تترنّح منذ نحو عقدين تحت لطمات متتالية وسط صراع ضار، تتوهّم الملائكة التي تراقبه أنّه يستهدف تحويلها مؤسسةً جديرة باسمها، بينما يتأمّل الواقعيون في عالمنا ألا تلحق الأمم المتّحدة بعصبة الأمم التي كان انهيارها التدريجي مدخلًا إلى الحرب العالمية الثانية، خاصّةً أنّ الأجواء السياسية والأيديولوجية التي أطلقت أبواق هذه الحرب في أوروبا تلوح في الأفق من جديد، وتكسب أرضًا سياسيةً مع الرأي العام مع كلّ صباح جديد، وتُشكّل حكومات وتحتل مقاعد في البرلمانات من أقصى شرق أوروبا، مروراً بأهم دول الاتحاد الأوروبي: ألمانيا والنمسا وإيطاليا وفرنسا، وصولًا إلى الولايات المتّحدة.
في اليوم التالي لـ«طوفان الأقصى»؛ أعلن حزب الله أنّه سيجسّد تضامنه مع غزّة بقصف مستوطنات شمال إسرائيل من أجل الضغط عليها لوقف حرب الإبادة. لم تنجح «مشاغلة» حزب الله لإسرائيل في وقف حرب الإبادة. ولكن بعد أن أوشكت على إنهاء مهمّتها في تقويض قدرات حماس، استدارت إسرائيل بعد 11 شهراً إلى حزب الله، فضربت خلال عشرة أيام شبكة اتصالاته، وقتلت كلّ رؤوس أركان قيادته، بمن في ذلك زعيمه التاريخي حسن نصر الله، وربّما خليفته أيضاً. جدير بالذكر أنّ نصر الله كان قد زفّ لأنصاره، في خطابه التبريري في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لإطلاق حرب المشاغلة، أنّ إسرائيل صارت أوهن من «بيت العنكبوت». لكن انتقام «العنكبوت» المسعور لم ينحصر بمقاتلي الحزب وطاقمه القيادي، فتجنب الإضرار بالمدنيين ليس اعتباراً توليه إسرائيل أيّ قدر من الاهتمام، وكذلك حزب الله الذي ينشئ مقارّ أجهزته العسكرية والمخابراتية في قلب مناطق سكنية، والذي يعقد اجتماعات قيادته العسكرية في زمن الحرب في قلب العاصمة بيروت، بل بمشاركة قادة عسكريين أجانب: إيرانيين. الحصاد المرير حتى وقت كتابة هذا المقال نحو مليون لبناني نازح (10٪ من تعداد لبنان) وآلاف الجرحى الذين لا يجدون مستشفيات كافية لاستقبالهم، ودولة بكاملها مهدّدة بأن تصير غزّة أخرى، وفقًا لتصريح وزير لبناني. وبينما أعلن رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، ورئيس البرلمان نبيه برّي، قبولهما المبادرة الدولية بوقف إطلاق النار مع إسرائيل، التي أكّد برّي أنّ حليفه نصر الله أبلغه موافقته عليها قبل مقتله، فإنّ وزير خارجية إيران، عباس عراقجي، تبلّغ به بمنطق الاستعلاء الاستعماري مزدرياً من بيروت أعلى السلطات في لبنان. فوقف إطلاق النار وفقاً لقناعات حكومته مستحيل قبل وقفه في غزّة، أي إنّ القرار في هذا الأمر السيادي ليس بيد اللبنانيين وحكومتهم وبرلمانهم وجيشهم، بل بيد إيران (!)
كان نصر الله قناة تمرير التوجيهات الإيرانية من دون حاجة إلى إعلانها من طهران، ووضعها موضع التنفيذ رغم أنف أغلبية الشعب اللبناني وحكومته وبرلمانه وجيشه، نظراً إلى القدرات التسليحية الهائلة التي زوّدته بها إيران، وجعلت منه أقوى منظّمة عسكرية غير دولتية في العالم. لكن إيران لم تسمح للحزب باستخدام الصواريخ دقيقة التصويب التي زوّدته بها، حتّى بعد قطع رؤوس طاقم قيادة الحزب، وتحدّي إسرائيل السافر له ولإيران بأن ينتقلا من المشاغلة إلى مواجهة كاملة، فالحسابات الدقيقة الخاصة بالمصالح الإيرانية هي الفيصل، وليس مصالح الشعب اللبناني أو حتّى متطلّبات وقف إبادة الفلسطينيين في غزّة.
من المفارقات اللافتة أنّ تمدّد حزب الله خارج لبنان هو ما أدّى (وفقًا لصحيفة الفاينانشال تايمز) إلى تحوّله كتاباً مفتوحاً أمام المخابرات الإسرائيلية، وذلك خلال مشاركته في حرب الإبادة ضد الشعب السوري، إلى جانب الحرس الثوري الإيراني وفرق مرتزقة من أفغانستان وباكستان والعراق. لم تعد مليشيات الحزب كلّها بعد إلى لبنان رغم انطلاق حرب المشاغلة مع إسرائيل منذ نحو عام، ولكن أبرز قياداته كانت قد عادت بعد أن تأكّدت من إنقاذ حكم بشّار الأسد، لتتلقفها إسرائيل في التوقيت المناسب لأهدافها. خلال ذلك كانت مليشيا حزب الله قد لعبت دورًا تاريخيًا آخر في تحويل ملايين السوريين إلى لاجئين مثل الفلسطينيين في شتّى الدول.
إلى ذلك، عانى كفاح الشعب الفلسطيني على مدار مسيرته من أجل التحرير تحدّياتٍ جسيمةً دفع خلالها ثمنًا باهظًا. قسط غير يسير من هذا الثمن الباهظ لم يكن حتميًا، فقد جرى دفعه في صراع ضارٍ مع أنظمة عربية تنافست في الهيمنة على القرار الوطني الفلسطيني من أجل توظيفه في مساوماتها مع إسرائيل وحلفائها، أو من أجل تبييض صفحاتها الدامية السوداء مع شعوبها. لم تكن هذه الصراعات سياسية وإعلامية فحسب، بل اشتملت على مواجهات مسلّحة دامية مع منظّمة التحرير الفلسطينية، واتخذت أحياناً مخيمات اللاجئين ميدانًا لتصفيات دموية، توسّعت في بعض المناسبات إلى مذابح مخيمات واسعة النطاق. كما اشتملت هذه المواجهات العربية الفلسطينية عمليات اغتيال اتّخذت من بعض العواصم الأوروبية ميداناً لها. كانت أنظمة صدّام حسين في العراق وحافظ الأسد في سوريا ومعمّر القذافي في ليبيا أبرز المُحرّكين لهذا الفصل الدامي من المسألة الفلسطينية، لكن هذه السياسات لم تنحصر فيهم.
ليس من المصادفة أنّ نُخَباً سياسية ومثقّفة في العالم العربي كانت تعتبر هؤلاء «الزعماء» وأمثالهم رموزًا لـ«التحرّر الوطني» و«مواجهة الإمبريالية» و«الصمود والتصدّي» لإسرائيل، برغم أنّ التحليل الملموس يقود إلى استنتاجات معاكسة، خاصّةً إذا اشتمل على دراسة كيف أهدرت النظم السياسية التي صعدت الحكم بعد انسحاب قوات الاحتلال الاستعماري من دول المنطقة مكاسب الاستقلال كلّها، ووظفت موارد البلاد في خطط ومشاريع اقتصادية غير مدروسة، وفي تأمين حكمها التسلّطي، بل شنّت بعض هذه النظم حروب إبادة على أقلّيات وأغلبيات عرقية وطائفية. في القرن الحادي والعشرين، بدأ يتضح للشعوب العربية الحصاد المرّ الذي خلفته نظم الحكم التي تعفّنت بعد الاستقلال الوطني. وكان الربيع العربي بموجتيه في أعوام 2011 و2018 أول محاولة لتصحيح انحراف بدأ منذ أكثر من نصف قرن.

من المفارقات التي سيقف أمامها التاريخ مذهولاً أنّ من يرث التستّر خلف راية تحرير فلسطين في السنوات الماضية محور يضمّ قامعي «الربيع العربي» في سوريا ولبنان والعراق واليمن، بقيادة إيران التي تحتل جزرًا عربيةً في الخليج العربي، ولها مطامع إمبراطورية تنافسية مع إسرائيل في العالم العربي. جدير بالذكر أنّ إيران، بلسان مرشدها الأعلى، حرصت أخيراً على التأكيد أنّ الصراع الجاري في المنطقة ما هو إلا امتداد للصراع الشيعي السني الذي انطلق بين الخليفة الأموي يزيد بن معاوية والحسين بن علي بن أبي طالب. سبق أن أكّد هذا المعنى حسن نصر الله في مناسبات مختلفة. تحت هذه الراية الطائفية أعلن القطب اليمني في محور الممانعة، أي جماعة الحوثيين المسيطرة بالقوة على العاصمة صنعاء ومدن أخرى، خطّة «التغيير الجذري»، التي تستهدف العودة باليمن إلي تقاليد (ونظام) القرون الوسطى الإمامي، الذي حكم اليمن قبل ثورة تحرّرها الوطني في ستينيّات القرن الماضي. في الوقت ذاته الذي يقود فيه القطب العراقي في المحور، أي التحالف الشيعي في العراق، معركةً فقهية وتشريعية في البرلمان من أجل تقنين زواج الأطفال.
الأكثر إثارة للدهشة أنْ يعقد بعض رموز «الربيع العربي» والتحرّر الفلسطيني، من سياسيين ومثقّفين وأكاديميين، آمالاً عريضة على أطراف ذلك المحور، الذين لهم أدوار موثّقة في اغتيال أقرانهم وسجنهم ونفيهم، في لبنان والعراق واليمن وسورية وإيران.
هذه أزمة لا تتعلّق بأشخاص لهم دوافعهم في تبنّي المواقف والانحيازات، التي قد يرونها لسببٍ ما مناسِبة، لكنّها وثيقة الصلة بأزمة انسداد عميقة وشاملة في العالم العربي. أزمة بدأت مع فقدان البوصلة والطريق منذ السنوات الأولى للتحرّر من الاحتلال الأجنبي. فقدان الطريق إلى فلسطين هو أحد أعراضها وليس هو جوهر الأزمة.
آمل أن تبادر إحدى المؤسّسات العربية التي تتسم بالرصانة والعمق والقبول بتبني إجراء حوار معمّق بين الفعاليات الفكرية والسياسية والثقافية في العالم العربي حول هذه القضايا.

المصدر: العربي الجديد

Share this Post