بالتزامن مع الحديث عن مؤتمر للحوار الوطني يحدد ملامح الفترة الانتقالية في سوريا، خصص مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان ندوته هذا الشهر ضمن فعاليات صالون ابن رشد، لمناقشة «كيف يمكن تجنب الانتقال لنظام ديكتاتوري آخر في سوريا؟» مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجه سوريا في مرحلة التحول السياسي. وكيف يمكن أن يعكس مؤتمر الحوار الوطني تطلعات كافة الأطياف السورية المدنية الفاعلة، وتجنب تحوله لأداة تعزز مصالح السلطة الحالية وحلفائها فقط؟ والاعتبارات الأساسية المتعلقة بإعادة تشكيل الحكومة الانتقالية بعد انتهاء مدة حكومة «الصوت الواحد» في مطلع مارس القادم.
استضاف الصالون الدكتور حازم نهار رئيس تحرير مجلة رواق ميسلون للدراسات السياسية والثقافية، والأستاذ فضل عبد الغني مؤسس ورئيس الشبكة السورية لحقوق الإنسان. والدكتور مروان قبلان مدير وحدة دراسات السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وأدار النقاش الأكاديمي والحقوقي الدكتور معتز الفجيري.
بدأ نهار الندوة بالتأكيد على أن سوريا في لحظة استثنائية ومفصلية، بينما ما نعرفه حتى الآن عن مؤتمر الحوار الوطني لا يوحي بإدراك أهمية هذا الحوار أو حجم تحديات المرحلة الراهنة. إذ أن ترتيبات المؤتمر تفتقر للجدية والواقعية، فضلاً عن غياب المعلومات حول الموعد أو اللجنة التحضيرية وتشكيلها ومعايير اختيار أعضائها، وكذا موقع منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية من هذا الحوار وترتيباته. هذا بالإضافة إلى تردد الأنباء حول دعوة 1200 شخص للمشاركة فيه، الأمر الذي يهدد فعاليته بشكل جدي، فكيف يمكن لهذا العدد في 3 أيام أن يصلوا لأي قرارات أو يخطوا مسارات تناسب حجم التحديات الراهنة؟
وفي هذا السياق حذر قبلان من خطورة فشل هذا المؤتمر، وخطورة أن يفشل المجتمعين في التوافق حول مسار سياسي واضح (وهو أمر متوقع في ضوء هذا العدد المقترح) وما لذلك من كلفة سياسية باهظة لا تحتملها سوريا الآن، قد تدفع بها لدائرة عنف جديدة. كما حذر قبلان من أن الهدف الأساسي من هذا المؤتمر ما زال غير واضح، فهو حتى الآن مجرد محاولة من السلطة الجديدة للحصول على شرعية أمام المجتمع السوري المتعدد، وإثبات حسن النية بعدم الإقصاء أو التمييز أمام المجتمع الدولي. إلا أن أهداف هذا المؤتمر أبعد من ذلك بكثير. إذ أن سوريا بحاجة الآن لخارطة طريق واضحة، والبرهنة على عدم الإقصاء لا بد أن ينعكس في تشكيل الحكومة الجديدة، وفي مواد وبنود دستورية تضمن حقوق الجميع، وفي قوانين تضمن الحماية من بطش أي سلطة. وهذا المؤتمر هو الخطوة الأولى في الاتفاق على كل ذلك، ودوره أبعد من مجرد منح الشرعية لسلطة تفتقر لمصدر شرعيتها في ظل سقوط الدستور والبرلمان وصعوبة إجراء الانتخابات. مضيفا: «حتى الآن لا توجد لدى الإدارة الجديدة رؤية واضحة حول طبيعة المرحلة الانتقالية، مجرد أفكار وتصورات بلا رابط ولا خارطة طريق».
على الجانب الأخر انتقد عبد الغني خطوة الحوار الوطني الآن، قائلًا: «ربما الحوار الوطني ليس الخطوة الأولى، إذ نحتاج أولًا لهيئة حكم انتقالي تمثل الشعب كله، يصدر عنها إعلان دستوري مؤقت، وتتولى بدورها الدعوة لحوار وطني واسع حول الإصلاحات التشريعية الضرورية وآليات إعادة بناء مؤسسات الدولة». محذرًا من خطورة أن تدعي جهة واحدة أو تيار واحد للحوار، أو تتولى جهة واحدة تشكيل لجنة تحضيرية له، إذ يهدد ذلك بشكل كبير حجم التنوع والتمثيل لكل الأطراف المدنية في سوريا في هذا الحوار ومخرجاته.
كما انتقد عبد الغني أيضًا تقاعس الدول عن رفع العقوبات المقررة على سوريا، وربط ذلك بتطور المسار السياسي، معتبرًا أنه من الناحية القانونية هذه العقوبات كانت أداة لردع نظام بشار وردًا على جرائمه، ومن ثم تسقط تلقائيًا بسقوطه. فبينما نتفهم أن أي مساعدات جديدة أو استثمارات أو جهود دولية في الإعمار والبناء تبقى مرهونة بشكل وطبيعة السلطة الحاكمة الجديدة ومسارها السياسي، وهذا متبع مع كل دول العالم «إلا أن العقوبات موضع مختلف».
وبدوره أكد قبلان على تأثير رفع العقوبات على تحقيق السلم المجتمعي وتحسين الأحوال المعيشية للمواطنين، باعتباره الضمانة الأولى للحيلولة دون تجدد موجات العنف والفوضى طلبًا لأبسط الاحتياجات الإنسانية الغائبة الآن في سوريا. محذرًا من صعوبة التحديات الاقتصادية الحالية، والتي لا تقل أهمية عن تحديات إعادة بناء مؤسسات الدولة وتحديد المسار السياسي.
ولعل من أبرز التحديات الهائلة الراهنة أيضًا ملف العدالة الانتقالية، إذ أجمع المتحدثون على أن ثمة ضرورة لمحاسبة الجناة وتحقيق الإنصاف للضحايا حتى ولو لم تتمكن السلطة من تعويضهم ماديًا في اللحظة الراهنة. وبحسب نهار، هذا الملف يفترض ألا يكون في يد أي سلطة حالية أو لاحقة، بل يجب أن يتم تشكيل له هيئة مستقلة تباشر هذه المهمة بمعزل عن الضغوط والتسويات السياسية التي قد تضطر لها أي سلطة. وتشكيل هذه الهيئة حسب عبد الغني، ينبغي أن يتضمن خبراء قانونيين وطنيين وقضاة وتمثيل واسع لأسر الضحايا والناجين. على أن تتولى هذه الهيئة التنسيق مع السلطة الحاكمة لضمان جبر الضرر وتعويض الضحايا. إلا أن عبد الغني أنتقد غياب المحاسبة والعدالة للضحايا عن خطاب السلطة الحالية، على نحو يحمل رسالة مقلقة لملايين الضحايا بأنه لا مجال للحديث عن حقوقكم وتعويضكم أو جبر الضرر عنكم الآن، الأمر الذي قد يفتح الباب للانتقام وتوظيف العنف مرة أخرى لاستراد الحقوق بعيدًا عن الآليات القانونية. مطالبًا بضرورة العمل على كشف الحقيقية وكشف أماكن المختفيين قسرًا والمحاسبة الجنائية للقيادات من الصف الأول والثاني في نظام الأسد من خلال نظام قضائي وطني وخطاب سياسي يوعد الضحايا بالمحاسبة والعدالة ورد المظالم والأضرار. وأضاف عبد العني: «وحتى لو تساهلت السلطة الحاكمة في هذه الحقوق فهذا المسار لا بد أن تقوده منظمات المجتمع المدني التي لا تتخلى عن مطلب العدالة وتتصدى للإفلات من العقاب».
وفي ختام اللقاء شدد المتحدثون على أهمية أن يتخذ أحمد الشرع قرار بحل هيئة تحرير الشام، بعدما استنفذت مبررات وجودها، لطي هذه صفحة العنف المسلح وإعلان القطيعة مع الماضي. وربما تشكيل حزب سياسي أو الانضمام لهيئة سياسية جديدة تبتعد عن خطاب وممارسات بعض أعضاء هيئة التحرير الحالية، وتعكس ممارساتها خطاب الشرع الجديد الإيجابي نسبيًا، والذي يحمل الكثير من التطمينات لمختلف فئات وطوائف الشعب السوري، وكذلك للدول على المستوى الإقليمي والدولي. فهل سيستغل الشرع، ما وصفه المتحدثون، بالأجماع الإقليمي والدولي الحالي بعدم السماح بانزلاق سوريا مرة أخرى نحو الفوضى؟
شاهدوا التسجيل الكامل للندوة هنا
Share this Post