عندما منح المجلس الأعلى للقوات المسلحة الضوء الأخضر للمشير عبد الفتاح السيسي، للترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، فإنه هيأ المسرح بذلك لصعود “الفرعون” الجديد، لزعيم سينتخب بأغلبية ساحقة، ويحكم بسلطات غير خاضعة للمراقبة أو المحاسبة، على نهج حسني مبارك وأنور السادات وجمال عبد الناصر.
بعض المحللين اعتبروا قرار “المجلس” تدخلا غير مقبول من الجيش في السياسة، ولكنهم نسوا أنهم -جنبًا إلى جنب ملايين المصريين- رحبوا في يوليو الماضي بإزاحة الجيش للرئيس محمد مرسي. في كلتا المناسبتين، برر الجيش تدخله في السياسة، بأنه يستجيب لطلب المصريين.
عاد الجيش للسياسة على أكتاف ملايين المصريين، وبينهم سياسيون ونشطاء شباب، سبق أن هتفوا من قبل “بسقوط حكم العسكر”، وخاطروا بحياتهم على مدار 16 شهرا من المواجهات مع المجلس العسكري في أعقاب ثورة 25 يناير. هذا التحول الدراماتيكي ما كان ممكنا بدون المعاناة لعام كامل مع فشل واستبداد نظام الإخوان المسلمين.
في أعقاب انتخابات 2012 البرلمانية والرئاسية، توقع عديد من المحللين المصريين والغربيين أن الإخوان سيحكمون مصر لعدة عقود، لأن توجههم “الإسلامي” يتسق مع المنطلقات الدينية لأغلبية المصريين. ولكن عامة المصريين سرعان ما أدركوا أن الإخوان المسلمين يسعون لفرض رؤية إسلامية مختلفة. وأنهم لا يوفون بوعودهم، وأن قياداتهم ترشي وتكذب، مثلهم مثل السياسيين غير الإسلاميين. ربما كان مرسي أول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر، ولكنه في واقع الأمر مارس الحكم “كخليفة”، يتمتع أيضا بسلطات مطلقة. إذ بعد أربعة شهور فقط من انتخابه بنسبة 51%، أصدر مرسي إعلانا دستوريا يحصن فيه نفسه من رقابة السلطات الأخرى للدولة على قراراته.
في هذا السياق بدأ صعود دور الجيش “كمنقذ”، وخاصة من خلال التلاعب بمشاعر الخوف من فقدان “الهوية المصرية” الدينية وغير الدينية، وإشاعة نظريات المؤامرة، التي تستهدف جعل المصريين يشعرون بخوف وتهديد دائمين لوجود دولتهم ذاتها. في كل يوم تقريبا تقوم وسائل الإعلام المصرية بنشر قصص خرافية لا أساس لها ولا تصدق، حول خطط دولية متعددة الأطراف تستهدف تقويض الدولة المصرية! وإعادة الإخوان المسلمين لحكم البلاد! واغتيال المشير السيسي، وتفكيك الجيش المصري، مثلما حدث في العراق وسوريا وليبيا!
أدت هذه الاستراتيجية إلى إفقاد كثير من المصريين صوابهم، بحيث لم يصدر عنهم رد فعل مناسب على أعمال القتل الجماعي المتواصلة، وكذلك الانتهاكات الأخرى التي ترتكبها أجهزة الأمن ضد الإسلاميين وغير الإسلاميين تحت لافتة “محاربة الإرهاب”!
في يوم 25 يناير أحيت الشرطة الذكرى الثالثة للثورة بقتل 103 مواطنا مصريا! للأسف إن نظام الدولة البوليسية ما زال مسيطرا. هذا ما يؤكده رئيس الوزراء حازم الببلاوي، الذي قال مؤخرا: “إن الدولة العميقة هى التي تدير البلاد، وليس هو أو وزير الدفاع”. هذه الأجهزة تدير الرئاسة ومجلس الوزراء ووسائل الإعلام والمؤسسة القضائية. تجرى الآن تحقيقات النيابة وجلسات المحاكم في السجون ومديريات ومعسكرات الأمن! لم يعد من الضروري مواجهة المتهمين بالشهود، للتحقق من أن الشهود يمكنهم التعرف عليهم فعلا! لم تعد الشرطة في حاجة لاستئذان النيابة قبل القبض على الأشخاص، فتصريح النيابة يمكن أن يصدر في وقت ما لاحق. أعضاء جماعة الإخوان المسلمين يجري القبض عليهم وفقا لموقعهم في التسلسل القيادي أكثر من صلتهم بالجرائم المنسوبة لهم. عندما يسأل المطلوب القبض عليهم عن إذن النيابة بالقبض، فربما يتعرضون للضرب بقبضة مسدس على الرأس، مثلما حدث مع المدون المعروف علاء عبد الفتاح وزوجته منال. عندما اطلع قاضي دولي مشهور على تقرير منال عن كيفية القبض على علاء وضربه وضربها، قال إن ذلك يذكره بممارسات شرطة النظام العنصري في جنوب أفريقيا!
خلال عملية انقضاض أجهزة الأمن على الإخوان المسلمين المتواصلة منذ عدة شهور، حولت هذه الأجهزة تركيزها منذ نوفمبر الماضي تجاه استهداف النشطاء الشباب من غير الإسلاميين، أيضا تحت لافتة “محاربة الإرهاب”. في أواخر يناير أنشأت وزارة العدل غرف خاصة في محكمة الاستئناف لتسريع محاكمة المشتبه فيهم بممارسة الإرهاب. يتبين من القرار أن المتظاهرين السلميين سيحالون إلى هذه المحاكم أيضا!
في العام الماضي أدين طارق حسين (20 عاما) بتهمة مهاجمة مقر مكتب إرشاد الإخوان المسلمين. وفي الشهر الماضي جرى القبض عليه ضمن المتظاهرين في الذكرى الثالثة للثورة، ولكن جرى اتهامه هذه المرة بأنه وأصدقائه أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين!
خلال ذات المظاهرات قتلت الشرطة سيد وزه (18 عاما) عضو جماعة “6 أبريل”. سيد كان فيما يبدو يعرف أنه سيقتل، ولذلك كان آخر ما كتبه في صفحته على الفيسبوك قبل نزوله للمظاهرة: “قولوا للجيل القادم أننا كنا نحب بلدنا”. نلاحظ أن سيد وزه لا يخاطب جيله بهذه العبارة/الوصية، بل الجيل القادم. إنه فيما يبدو يدرك أن عملية سحق آمال جيله ستتواصل. وبالتالي فإن الراية تنتقل للجيل القادم.
إن مقاطعة الشباب الجماعية للاستفتاء على دستور 2014 تقول إن مستقبل مصر لن يتحقق على يد “خليفة أو فرعون”، وأن إعادة تدشين الدولة البوليسية سيؤدي إلى استمرار الفوضى وعدم الاستقرار، وأن الأجيال الجديدة ستواصل مقاومة القمع.
* النص الإنجليزي نشر في 7 فبراير 2014 في الملحق الأسبوعي الدولي لصحيفة النيويورك تايمز (يوزع مع 35 صحيفة أخرى في 27 دولة) http://nytweekly.com/columns/intelarchives/02-07-14/، ثم أعيد نشره في 13 فبراير 2014 في الطبعة الدولية للنيويورك تايمزhttp://www.nytimes.com/2014/02/13/opinion/pharaohs-caliphs-and-field-marshals.html?_r=0.
حقوق النشر باللغتين محفوظة للنيويورك تايمز
** مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.
Share this Post