في ظل التبعات السياسية والحقوقية التي خلفها الحكم الصادر في قضية قتل المتظاهرين، والذي اعتبره الكثيرون ترسيخًا لمبدأ الإفلات من العقاب، أقام مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان لقاء بعنوان “الحكم على مبارك ورموز نظامه.. بين ترسيخ الافلات من العقاب وضبابية المشهد السياسي”، وذلك مساء الخميس 7 يونيه 2012 بمقر المركز. أدار اللقاء زياد عبد التواب نائب مدير مركز القاهرة، في حضور المستشار أيمن الورداني رئيس محكمة استئناف المنصورة، وهدى نصر الله المحامية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وأحمد راغب المحامي وعضو حملة حاكموهم، والباحثة هبة موريف من منظمة هيومن رايتس ووتش.
افتتح زياد عبد التواب اللقاء بالإشارة إلي أن محاكمة مبارك هي محاكمة القرن، فهي أول محاكمة منذ أمد طويل يخضع لها رئيس دولة عربية، وقد تمت بعد صراع طويل بين الشارع المصري والسلطة الحاكمة للبلاد، مؤكدًا أن الحكم الصادر في تلك المحاكمة لم يكن مفاجأة، إذ أن طريقة تعامل النيابة ولجان تقصي الحقائق مع القضية كان سببًا رئيسيًا في صدور مثل هذا الحكم.
واعتبر عبد التواب أن مسار العدالة الانتقالية صار أكثر تعقيدًا، ويحتاج إلى إرادة سياسية للتخلص من براثن النظام السابق، مشيرًا إلي أن غياب الإرادة السياسية في تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية ساهم في عدم تفعيل مشاريع قوانين كثيرة كان يمكن لها أن تقلل من تخبط مسار المرحلة الانتقالية كقانون الغدر الذي صُدِقَ عليه ولم يفُعَّل.
اختارت المحامية هدى نصر الله عنوانًا جديدًا لتك المحاكمة قائلة “عنوان الحكم: إدانة للرموز التي سقطت وتبرئة المؤسسة الامنية التي مازالت قائمة” محملة النيابة الجزء الأكبر من المسئولية، قائلة “النيابة العامة تكاد تكون غائبة عن هذه القضية، رغم البلاغات التي وجهت لها، وسماعها لأقوال المئات من الشهود خلال 65 يوم، وحصولها علي أدلة كثيرة من فيديوهات، وعيارات من الرصاص المطاطي أو الخرطوش والرصاص الحي من أجساد المتظاهرين”.
وأضافت نصر الله “النيابة أيضًا لم تلق تعاون من أجهزة الدولة في سبيل جمعها للأدلة الجنائية، بل على العكس فقد أسهمت هذه الأجهزة بشكل مباشر في إخفاء بعض الأدلة، فعندما حصلت النيابة على شرائط مسجلة من جهاز المخابرات العامة لم تكن مسلسلة تاريخيًا، ومشاهدها غير مكتملة مما يفسر أن هذه الشرائط تم العبث بها، لتضليل النيابة، ورغم ذلك سجلت النيابة هذه الأدلة، ولم تأخذ موقفًا منها في حين كان بإمكانها الحصول على معلومات وأدلة أدق”.
ومن مسئولية النيابة إلى مسئولية المحكمة، حيث اعتبرت نصر الله المحكمة شريكًا في المسئولية، مؤكدة أنها لم تبذل جهدًا في الحصول على أدلة، بالرغم من وجود أعداد كبيرة من الشهود إلا أن المحكمة لم تطمئن لشهادتهم نظرًا في كيدية شهادتهم على خلفية مصادمات مع أجهزة الشرطة كانت تتم في نفس وقت الإدلاء بهذه الشهادات، مضيفةً أنه لو أن المحكمة قد وجدت أن الأدلة غير كافية كان يتوجب عليها أن ترجع القضية إلى النيابة العامة لتحقق فيها من جديد، وإذا عادت تتسلمها دائرة جديدة غير التي كانت تنظر فيها، وهذا ما لم يحدث.
من جانبها أوضحت هبة موريف الباحثة بمنظمة هيومان رايتس ووتش أهمية الحراك الشعبي الذي يمارس أثناء مراحل التحول الديمقراطي في تفعيل المطالب بإحالة رموز النظام السابق للمحاكمات، وهو الحراك الذي كان ضروري للقطيعة مع عهد كان يتمتع فيه ضباط وعناصر الأمن بحصانة تمكنهم من الإفلات المستمر من العقاب، وهي فلسفة سياسات وتوجهات أجهزة الأمن قبل وبعد الثورة مما يؤكد على محدودية التغيير الذي حدث في عقيدة وتوجهات تلك الأجهزة.
واعتبرت موريف أن النيابة العامة لعبت دورًا مهمًا في المساهمة في ترسيخ مبدأ الإفلات من العقاب بحفظها للتحقيقات في معظم البلاغات التي أحيلت إليها؛ وهو ما ساهم في عرقلة عملية التحول نحو دولة القانون ونحو تطبيق مبادئ العدالة الانتقالية ومنها مبدأ العدالة الجنائية والذي كان يقضي بأن يتم إحالة المتسببين في قتل المتظاهرين وفي اعتقال وتعذيب النشطاء لمحاكمات جدية بدلاً من إحالة المتظاهرين أنفسهم لمحاكمات استثنائية الغرض منها التنكيل بهم، وأضافت هناك 293 متظاهر و 379 آخرين يتم التحقيق معهم ومقاضاتهم، في حين أن ضباط الشرطة المسئولون عن قتل وتعذيب المتظاهرين لم يتم التحقيق معهم وتتم تبرئتهم، مؤكدةً أن ضابط الشرطة اليوم أكثر ثقة من ذي قبل، لما رآه من تبرئة في هذه المحاكمة.
“لاشك أن هناك ارتباك وضبابية في المشهد السياسي والرؤى” المستشار أيمن الورداني رئيس محكمة استئناف المنصورة في تعليقه على المحاكمة، مؤكدًا أن القضاء مؤسسة من مؤسسات الدولة، ولكنها لو انهارت، انهارت كافة مؤسسات الدولة، وأن هناك وبلا شك تماس بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، مطالبًا بضرورة تفعيل الشرطة القضائية، وتنحي الشرطة عن قضايا بعينها يشتبه في شراكتها كجاني فيها.
وفي تحليل المستشار الورداني للوضع قال “إن الشعب تم تأهيله وحفز هممه بأن احكام ما يجب أن تصدر وتقضى بها هيئة المحكمة على هؤلاء المتهمين، ولكن القضاء يريد العدالة الناجزة، كما أن إدانة مؤسسة تختلف كثيرًا عن إدانة أشخاص، مؤكدًا أن هيئة المحكمة طبقت صحيح القانون أثناء نظر الدعوى، وهو ما ساهم في تطبيق مبدأ العدالة الناجزة القائمة على توجيه الاتهامات بناءً على أدلة مادية وهو ما يدفعنا –بحسب المستشار- إلى الثقة في أحكام القضاء داعيًا إلى الكف عن الحرب الإعلامية التي تمارس بحق القضاة ومؤسسة القضاء في مصر.
كما رفض المستشار الورداني الاتهامات التي تقول أن القضية كانت تسير في اتجاه معين، مؤكدًا أن المحكمة تتحرك بناءً على ما تحصلت عليه النيابة من أدلة. وغير مطلوب أن يفصح القاضي عن وجهته قبل أن ينطق بحكمه، وإذا تم التشكيك في الحكم يوجد ما يسمى بمحكمة النقض والتي تقرر ما إذا كانت المحكمة طبقت صحيح القانون من عدمه، وإذا قيل أن القاضي له هوى وله اتجاه ما، فلنا أن نرد هذا القاضي وتتم تنحيته عن النظر في القضية. واختتم الورداني كلمته بأن النظام قد انتهى، وأن الرموز سقطت، ويجب أن ننظر إلى الأمام كي نبني هذه الأمة وهذا المجتمع، مؤكدًا أن المتهمين إذا ما أفلتوا من المحاكمة في الدنيا فإنهم لن يهربوا من المحاكمة في الآخرة، وأن القضاء لن يكون رهنًا لسيف المعز او لذهبه.
اعتبر أحمد راغب المحامي وعضو حملة “حاكموهم” أن الثورة لن تنجح إلا بإحداث القطيعة مع النظام السابق، وأن القضاء عليه مهمة ثقيلة أكبر من خلع مبارك، لان مؤسسة القضاء ليست مستقلة. وأضاف راغب “المحاسبة ليست انتقام، وإنما هي البداية الحقيقة لبناء الدولة التي يكون فيها القضاء مؤسسة مستقلة وعادلة، مشيرًا إلى أنه تم قصر القضية والاتهامات على 18 يوم فقط، وهذا في الواقع خطأ، لأن مبارك يجب أن يعاقب على جرائم كثيرة جدا؛ جرائم كانت ترتكب باسم القانون، مشيرًا إلى أن المتهمين هم من كتبوا القانون لأنهم من كانوا يحكمون؛ فكيف يحاكمون بقانونهم، وكيف تستخدم آليات مبارك في محاكمة مبارك؟
وحول مشروع قانون “العدالة الثورية” قال راغب: هذا ليس قانون استثنائي، موضحًا أنه يقوم على فكرة توثيق الانتهاكات التي تمت في عهد مبارك وإلى الآن من خلال طرح 3 هيئات مؤسسية يمكن الاستناد إليها في تحقيق مبدأ العدالة الجنائية، وهي هيئة “المحاسبة والعدالة” وتكون مهمتها هي تلقي البلاغات من المواطنين على مستوى الجمهورية وهي بذلك تلعب دور النيابة العامة في تجميع الأدلة الخاصة باتهام الجناة، وهيئة تسمي “محكمة جنايات الثورة” وهي محكمة أيضًا غير استثنائية نص القانون على ضمان مجموعة من الحقوق بالنسبة للمعروضين أمامها تفوق الحقوق الممنوحة للمتقاضين أمام المحاكم الجنائية، على أن تكون الهيئة الثالثة هي هيئة “التعويضات” التي تقدم الدعم المادي والمعنوي لضحايا الانتهاكات.
Share this Post