أجمع مثقفون وأكاديميون مصريون على أن أسباب ضعف التظاهرات المناهضة للحرب الأمريكية على العراق في المنطقة العربية، وفي القلب منها مصر، لا ترجع فقط إلى القمع الحكومي ولكنها تتضمن أيضا تأثيرات وتراكمات الثقافة وبنيتها في هذه المجتمعات وانتشار ثقافة اللا مبالاة وضعف النخبة السياسية والثقافية عن إحداث التأثيرات المطلوبة في الجماهير إلى جانب سيطرة قوى الإسلام السياسي في حقبة التسعينيات ويلزم اعتمادها على الحركات الجماهيرية.
جاء ذلك في ندوة نظمها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في الرابع من مارس في إطار صالون ابن رشد تحت عنوان “لماذا لا يتظاهر العرب”؟
بدأت الندوة بمقارنة عقدها مجدي النعيم المدير التنفيذي للمركز بين المظاهرات الضعيفة والهزيلة التي شهدها الوطن العربي والذي يفترض أنه سيكتوي بالتطورات العالمية والإقليمية الجارية واحتمالات الحرب على العراق وبين المظاهرات التي شهدتها بلدان تقود الدعوة لهذه الحرب.. وذكر أن العواصم الأوروبية شهدت مظاهرات تعدت المليون في عدد كبير منها مثل لندن وباريس وروما ومدريد.
وتساءل عما إذا كانت حتى تلك المظاهرات الهزيلة في المنطقة العربية قد جرت تحت رعاية أبوية أم كانت تعبيراً عن وجهات نظر المواطنين. وقال إن مجرد خروج مظاهرة لا يكفي للتوقف عندها، ولكن لابد من البحث في محتواها وأهدافها والشعارات التي تبنتها وهل عبرت حقا عن آراء الناس أم كانت إعادة إنتاج لخطاب السلطات أو خطابات أكثر تطرفا وربما منافية لحرية التعبير ذاتها.
وقال الدكتور علي مبروك أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة إن السؤال المطروح للنقاش هو في حد ذاته سؤال مغلوط لأنه يفترض وجود إرادة لدى المواطنين العرب وأن هذه الإرادة اختارت ألا تتظاهر وأنهم قادرون على ذلك لكنهم اختاروا عدم التظاهر.
أضاف مبروك أن العرب يمرون بلحظات تاريخية نموذجية كشفت عن أنهم جميعا حكومات ومحكومون متساوون في العجز.
أشار إلى تبريرات يسوقها بعض المثقفين على أن الشعوب العربية ينقصها الوعي والعقل ولم تبلغ بعد سن الرشد ويمكن أن تندس فيما بينها فئة منحرفة تدفعها للإفساد والانحراف، وقال إن هذه المبررات هى نفسها التي تستند إليها الحكومات في رفض الديمقراطية في العالم العربي.
واعتبر أن بعض الحكومات تحاول زخرفة صورتها لدى الرأي العام الداخلي والخارجي لبعض “الإكسسوارات الديمقراطية” مشيرا إلى أن العقلية العربية أنتجت تحايلا على مسألة عدم التظاهر يدفع الناس إلى “تمثيل التظاهر” دون أن يكون هذا التظاهر حقيقة معبرة عن الناس وعن إرادتهم، واصفا ذلك الأمر بأنه يعتبر “تظاهر في الأقفاص” حتى صارت الشعوب مثل دجاج يصرخ داخل أقفاصه معتبرا أن المظاهرات داخل الإستاد والجامعة مثال ذلك. وانتقد مبروك ظاهرة رفع صور الزعماء والرؤساء في المظاهرات العربية وذهب إلى أن هناك إغفال لوجود أصول عميقة للعجز في الثقافة العربية تتجاوز مجرد وجود ضغوط خارجية تمنع الناس من التظاهر، وقال إن جذور ثقافة العجز ترجع إلى ثقافة لا تعترف إلا بالقدرة لمستبد واحد يتستر خلف إيمان الناس بأن القدرة والإرادة هى واحد أحد لا شريك له.
وأكد الدكتور مجدي عبد الحميد القيادي باللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة أن تاريخ الشعب المصري، وخاصة الحديث عنه ينفي تأصيل سمة اللا مبالاة في الشعب المصري مدللا على ذلك بانخراط المصريين في الشأن العام في فترة الأربعينيات بشكل حقيقي، سواء على مستوى القضية الوطنية المتمثلة في إجلاء المستعمرين وعلى مستوى النضال الديمقراطي والكفاح الطبقي، وحمّل عبد الحميد ثورة يوليو 1952 مسئولية ما وصفه بتغيير الشعب المصري وتنحيته جانبا والتعامل معه باعتباره مفعولا به وليس فاعلا وشريكا في صنع حياته ومستقبله، على اعتبار أن هناك سلطة وطنية تنوب عنه في حل المشكلات وتسيير الأمور.
وقال إنه منذ ثورة يوليو 1952 وحتى الآن فإن التطور السياسي مسئول بشكل كبير عما وصل إليه الشعب المصري حاليا مشيراً إلى وجود فترات شهدت بعض الاستثناءات والخروج من السياق مثل فترة ما بعد هزيمة يونيو وإحساس الشعب بالكارثة وانخراطه في العمل العام وهو ما تجلى فيما بعد في حقبة السبعينيات معتبرا أن اليسار لعب دورا كبيرا في هذه الحقبة حيث كان لليسار وجود وحضور سياسي واستطاع أن يصبغ الحياة السياسية بصبغته التي تقوم على الرهان الدائم على الجماهير فشهدت هذه الفترة الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات والمؤتمرات في الجامعات وتجمعات العمال.
واستطرد مشيرا إلى أن أواخر الثمانينيات وحقبة التسعينيات شهدت هزيمة ساحقة للمشروع الاشتراكي وتجربته التي كانت متمثلة في الاتحاد السوفيتي وحدث انحسار للمد الثوري في العالم كله وللحركة التقدمية بمفهومها الواسع وجوانبها المختلفة وتواكب ذلك مع صعود قوى اليمين في جميع أرجاء العالم، وكان من نصيب المنطقة العربية منها صعود قوى الإسلام السياسي التي اتسمت بسمات خاصة بها أهمها أنها لا تراهن كثيرا على دور الجماهير والحركة الجماهيرية في الشارع وتعتمد على العقيدة كسلاح أساسي في علاقتها بجماهيرها.
وقال إن قوى الإسلام السياسي استطاعت صبغ الحياة السياسية بصبغتها تلك وكان في القلب منها جماعة الإخوان المسلمين التي تستطيع في إطار فكرة ما أن تحشد ما يقرب من مائة ألف مواطن في استاد القاهرة لحظة أن يكون ذلك مطلوبا لأسباب محددة وتستطيع عمل نوع من استعراض القوى وإبراز وجودها سواء للعالم الداخلي أو الخارجي. وقال إن هذه القوة مجهزة لخمة النخب الخاصة بها، لذلك لم يكن لها أثر واضح في المشاركة في الحياة السياسية العامة واليومية.
وذهب إلى وجود ما اعتبره عقلية انقلابية في أوساط النخب السياسية تقوم على إمكانية إحداث تغييرات مفاجئة بضربة قاضية فنية مؤكداً أن الإيمان الحقيقي بالجماهير غير موجود ويتم التعامل معه من كافة النخب بطريقة استخدامية دون وجود عمل “طويل النفس” يستهدف رفع وعي الجماهير وحفزها على المشاركة والإيمان بقدرة الجماهير واستطاعتها تغيير أنظمة حكم من خلال صناديق الانتخابات.
حذر عبد الحميد من اعتماد بعض المثقفين على آلية الندوات والمؤتمرات على أنها هى العمل السياسي، مشيرا إلى أن هذه الآلية لعبت أدوارا كثيرة في بلورة بعض الرؤى والمفاهيم حول بعض القضايا، لكن تصور أنها هى العمل السياسي هو تصور خاطئ يصل لحد الجريمة –من وجهة نظره- مؤكدا أنه لا يقلل من أهمية هذه الندوات والحوارات، لكنه استبعد أن تكون بدلا عن العمل السياسي اليومي والانخراط مع الجماهير.
ولفت عبد الحميد النظر إلى أن العامين الأخيرين وتحديدا منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية قد شهدا نوعا من التطور بتشكيل اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة.
ورغم عملها في إطار النخب في الغالب إلا أنها استطاعت كسر حاجز الصمت وتقديم نموذج جديد لعمل شعبي حقيقي،مشيرا إلى أن قوى اليسار التي تقود هذه الإشكال تحاول أن ترسم طريقا ليسار ديمقراطي من نوع جديد يؤمن بنقد نفسه ولديه إيمان عميق وحقيقي بالديمقراطية والجماهير.
وقال نحن نجد اليسار ولأول مرة ينظم وفودا شعبية تضم مثقفين وفنانين ويذهب إلى وزارة الخارجية ومقر الأمم المتحدة والبرلمان لتقديم احتجاجاته ومطالبه.
أما نبيل عب الفتاح الخبير بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، فقد بدأ حديثه بسؤال استنكاري قال فيه: ولماذا يتظاهر العرب أصلاً؟! مبديا تحفظه على المقارنة مع المظاهرات المليونية التي جرت في أوروبا ومناطق متعددة بالعالم مع الوضع في المنطقة العربية مرجعاً تحفظه ذلك إلى اختلاف طبيعة النظم السياسية والقانونية بين الحالين.
وقال إن الأمر تحكمه هناك ثقافة سياسية راسخة وثقافة تتظاهر وتؤصل لتظاهرها وتديره حسب ذلك إلى جانب علاقات بين نظم سياسية وحول حديثه مع مواطنيها بشكل يتجاوز فكرة الروابط الأولية التي تحكم علاقات الشعوب العربية بالأنظمة السياسية الحاكمة لديها.
وأضاف أن إيجاد وظيفة للتظاهر وهدف هو من أدوات القطاعات الحزبية والسياسية هناك، وهو ما يضفي مشروعية وقانونية على المظاهرات هناك، مشيرا إلى أن التظاهر يمثل أيضا جزءا من الثقافة السياسية لليبرالية الحديثة والتي لا تعتبر ذلك مجرد هبات، ولكنه نمط من أنماط السلوك السياسي الجماعي، سواء لجماعة أو جمعيات أو روابط مهنية أو عرقية أو حزبية.
وذكر عبد الفتاح أن هناك ثلاثة أنماط للتظاهر أولها هو التظاهر المطلبي والذي يقوم ضد ارتفاع الأسعار على سبيل المثال كما حدث في مصر 1977 وتونس والأرجنتين وهذا النوع ينطبق على المجتمعات المتقدمة والمتخلفة معا.
أما النمط الثاني فهو التظاهرات القومية أو العرقية والجندرية والتي تطالب ببعض الحقوق الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية وذكر أمثلة لذلك في مظاهرات البربر والأمازيغ بالجزائر وكذلك مظاهرات السكان الأصليين في استراليا وكندا.
أما النمط الأخير –حسب عبد الفتاح- فهو الخاص بالمظاهرات المتعلقة بالسلام ورفض الحرب وحقوق الإنسان، معتبرا أن هذا النمط هو الأرقى وأنه يمثل تعبيرا سياسياً وثقافيا ويعبر عن مجموع القيم الثقافية والسياسية.
اعتبر عبد الفتاح أن المظاهرات الحكومية والمعدة مسبقا تخر عن نطاق هذا النمط مدللا على ذلك بمظاهرات حزب البعث في سوريا واللجان الشعبية في ليبيا لدعم الانتفاضة ومظاهرة الحزب الوطني في مصر لدعم العراق.
وقال إن تحقيق هذا النمط الثالث من المظاهرات يتطلب عدة شروط موضوعية منها رسوخ ثقافة سياسية ديمقراطية في ظل نظام ليبرالي.
وتبلور وعي سياسي لدى المواطن وحيوية المجتمع المدني وقواه الفاعلة من جمعيات وروابط مهنية وحزبية إلى جانب احترام جهاز الدولة الأمني لهذه المظاهرة وتبلور ثقافة وشكل التظاهر من بدايته إلى نهايته دون انتهاك حقوق المشاركين فيه.
وقال إن الطلب على النمط الأخير من المظاهرات في العالم العربي لا يزال في إطار وطابع نخبوي وأنه ربما تكون هناك بعض الملامح الشعبية له، لكنها لا تزال محدودة حتى هذه اللحظة.
استطرد عبد الفتاح معتبرا أن نمط الدولة التسلطية في العالم العربي أنتج مجموعة من السياسات القائمة على القمع والترويض للفئات الشعبية فكان من حصاد ذلك تكريس ثقافة كراهية المواطن للسياسة لارتباطها لديه بالأذى والعقاب له ولذويه.
أضاف أن هذا الأمر أى أيضا إلى خلق نوع من الاتكالية السياسية وإسناد كل الأمور للدولة التي استبعدت الناس وأنتجت ثقافة اللا مسئولية لديهم.
واعتبر أن سياسات الركود السياسي في مصر على وجه التحديد أدت إلى خلق حالة من اليأس يمكن أن تلعب السياسة ,,, التغيير، مما أدى إلى خلق نوع من السلبية لدى المواطن في علاقته بالشأن العام.
وأشار إلى وجود أشكال اقرب للتظاهر مثل النكت السياسية والتعليقات النابية من الجمهور على السياسيين إلى جانب استخدام الأجيال الجديدة لشبكة الإنترنت في التعبير عن آرائها السياسية وهو ما فتح المجال أمام أشكال جديدة من التعبير السياسي
Share this Post