ماذا خسرت القومية العربية بسقوط رمزها الفاشي؟

In مقالات رأي by CIHRS

بهي الدين حسن
مدير مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان

هرب الرئيس السوري السابق بشّار الأسد بالطائرة بسيناريو مشابه لهروب الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي من تونس، بعد انتفاضة الشعب التونسي التي تواصلت على حكمه الاستبدادي لنحو أربعة أسابيع، وامتناع الجيش عن الدفاع عن حكمه. كانت لهذا الحدث التونسي آثار زلزالية في العالم العربي، وخاصة مصر، التي انتفضت بعد 11 يوما. خلال 18 يوما تالية كان الجيش الطامع في تعزيز تمترسه في حكم مصر قد أقنع حسني مبارك بالتنحّي وتسليم السلطة لمجلسه العسكري. لكن ما جرى في سوريا قد تكون له آثار هائلة، ربما تتجاوز في تأثيراتها ما جرى في موجتي الربيع العربي الأولى والثانية. ليس فقط بسبب الأهمية المركزية التاريخية لهذا البلد في منطقة المشرق العربي، ولكن أيضًا لأن العالم العربي كله يمرّ بأزمة كبرى أعمق مما كان عليه الحال في بداية انطلاق الموجة الأولى من الربيع العربي.

لم تبدأ هذه الأزمة عشية الربيع العربي عام 2011، لكنها أزمة فشل ممتدّة بدأت منذ عدّة عقود، بعدما ضلت دول المنطقة طريقها بعد أن تحرّرت من الاستعمار الأجنبي في منتصف القرن الماضي. بدلًا من استكمال استقلالها بإطلاق طاقات شعوبها، مجتمعات وأفراد، نحو البناء والنهوض الاقتصادي، مثلما نجحت في ذلك عدة دول في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، سقطت أغلبية الدول العربية المستقلة في قبضة حكّام مستبدّين واصلوا سياسات ذات طابع استعماري على النحو الذي برهن عليه أكاديميون عرب بارزون. بل اعتزم بعض هؤلاء الحكام توريث الحكم في نظم جمهورية لأبنائهم؛ في مصر حسني مبارك، ويمن علي عبد الله صالح، وليبيا معمّر القذافي، وعراق صدّام حسين. وقد أثمر ذلك المخطّط في سوريا بتوريث حافظ الأسد الحكم لنجله بشّار، بعد وفاة ابنه الأكبر في حادث طريق، وكان قد جرى إعداد الأخير بالفعل لوراثة المنصب.

رغم ذلك كله، ظلّت سوريا “الأسدية” دائمًا قبلة قيادات التيار القومي العروبي ورموزه، ورمزًا في بيانات صادرة عن منابرهم القُطرية والإقليمية والفلسطينية “للصمود والتصدّي” ضد الإمبريالية وإسرائيل، رغم أن الأسديْن كانا دائمًا حجر الزاوية في مخطّطات تحطيم منظّمة التحرير الفلسطينية، وشقها سياسيًا ودعم النزاعات المسلحة بداخلها، واغتيال بعض أبرز حلفائها، مثل قائد الحركة الوطنية اللبنانية كمال جنبلاط. بينما تمتّعت حدود سوريا مع إسرائيل بسلام استثنائي لنصف قرن (في غياب اتفاق سلام مشابه للاتفاقيات التي أبرمتها مصر والأردن)، رغم استمرار احتلال الجولان ثم ضمه من دون رصاصة واحدة. وعندما تمكّن النظام البعثي من الحصول على أسلحة الحرب الكيماوية ومعدّاتها المميتة، استخدمها للمرّة الأولى والأخيرة ضد الشعب السوري المطالب بالحرية.

بعد أكثر من نصف قرن من انفراد حزب البعث وعائلة الأسدين بحكم سوريا بأبشع الوسائل بمشاركة جيوش أجنبية ومليشيات مرتزقة متعدّدة الجنسيات، وقتل نحو نصف مليون سوري وتشريد ملايين آخرين في أرجاء العالم، وإبقاء 90% من السوريين تحت مستوى الفقر، وصعود الدولة إلى موقع أهم تاجر لمخدّر الكبتاغون في العالم، اكتفى حزب البعث ببيان قصير يعلن فيه وقف نشاطه، من دون أن يقدّم تفسيرًا للحدث القُطري والقومي الجلل. بينما توالت التقارير عن كيفية تبخّر جيش الصمود والتصدّي، وكيف تبارى الضباط، اقتداء بالرئيس الهارب، في بعض الوحدات العسكرية في نهب محتوياتها، قبل أن يعتزلوا في منازلهم. لم نقرأ أيضًا اعتذارًا جادًّا أو تحليلًا معمّقًا من منابر التيار القومي العروبي ورموزه لهذا الزلزال الذي تتجاوز آثاره ذلك البلد التعيس بحكّامه وقطاع كان مؤثّرًا من سياسييه.

سقوط الطبعة الفاشية الأخيرة من التيار القومي العربي هو نتيجة منطقية لمراهنة قيادات ذلك التيار على المؤامرات والانقلابات العسكرية منذ وقت مبكّر للصعود إلى الحكم باستلهام النمط الناصري المصري، وتغلغل عمق ازدراء الشعب وانعدام الأمل بقدراته رغم التغنّي الديماغوجي بعبقريته الفذّة في الخطاب السياسي المستمد من الخطاب النازي الألماني. والاحتفاء المظهري بملكية عامة زائفة للشعب، رغم أن الدولة كلها جرت خصخصتها لحساب الطاغية الملهم والأجهزة الأمنية الحارسة لحكمه المنفرد.

سقوط الرمز الفاشي الأخير للتيار القومي العروبي يجب أن يكون مناسبةً للتأمّل العميق من المفكرين في العالم العربي، وخاصة الذين يعتبرون أنفسهم منتمين لهذا التيار، ولو من دون وجود رابط تنظيمي مباشر. قد يكون أحد بواعث هذا التأمّل أيضًا البحث في سبل إحياء التيار وفقًا لفكرته المؤسّسة، بعد تطهيرها من أدرانه السرطانية المشتقة من الفاشية، وخاصة الأدران ذات الطابع العنصري المعادي للقوميات الأخرى في العالم العربي وخارجه. إن ميلاد تيار قومي عربي ديمقراطي إنساني منفتح على حقوق البشر وغير عنصري، بل منفتحٌ على العالم، يسعى إلى أوسع وأعمق تضامن عربي، يرتكز على مصالح شعوب المنطقة وإرادتها الحرّة سيكون مساهمة هائلة في طي صفحة مؤلمة، وفي حفز نخبٍ سياسيةٍ أخرى على مراجعات مماثلة، وربما حافز للتحرّك نحو سوق عربية مشتركة. بدون مثل هذه المراجعات يصعب تصوّر تقدم هذه المنطقة من العالم خطوات ملموسة إلى الأمام، برغم التأثيرات الإيجابية المحتملة في المشرق العربي لسقوط قلعة الفاشية في سوريا.

المصدر: العربي الجديد

Share this Post