يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن قلقه الشديد إزاء مشروع دستور 2013، الذي قدمته لجنة الخمسين كنسخة معدّلة من دستور 2012، بالرغم من تضمين مواد باب الحقوق والحريات صياغات وتوجهات أفضل من مثيلاتها في دستور 2012، فضلًا عن النص على التزام الدولة بالحقوق والحريات الواردة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية التي صادقت عليها مصر. إلا أن الدستور لا يوفر نظامًا سياسيًا يضمن ويحمي الحريات والحقوق النسبية التي ينص عليها، والتي جرى ويجري الاعتداء عليها تشريعيًا وأمنيًا أثناء وبعد كتابة الدستور وبالمخالفة الصريحة لنصوصه التي لم يجف حبرها بعد! فضلًا عن أن الدستور نفسه يفسح المجال أمام تقييد حقوق الإنسان التي نص عليها، والانتقاص منها بالقانون، إذ ترك الدستور أمر تفسير عدد من مواده للقانون. كما أبقى الدستور على العديد من المواد الإشكالية في دستور 2012 المعطل، مثل دسترة المحاكمات العسكرية للمدنيين.
في هذا الإطار يُبدي المركز رفضه القاطع لنص المادة 204 المستنبطة من دستور 2012، والتي تهدر نضال طويل ومرير ضد هذه المحاكمات الجائرة التي راح ضحيتها آلاف المصريين. إن التعديلات التي لحقت هذه المادة في الدستور لا تعدو أن تكون مجرد تعديلات شكلية، تضمن استمرار محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية تفتقر لأدنى معايير الاستقلالية والنزاهة. كما يبدي المركز انزعاجه من نص المادة 201 التي أوصدت الباب أمام تعيين وزير دفاع مدني ونصت على تعيينه من بين ضباط القوات المسلحة، وكذلك المادة 234التي جعلت تعيين وزير الدفاع مرهونًا بموافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة وذلك لدورتين رئاسيتين كاملتين. أن هذا النص يصيب العلاقات المدنية العسكرية بخلل بالغ ويجعل المؤسسة العسكرية بمثابة سلطة موازية للسلطة المدنية المنتخبة.
لقد عملت لجنة الخمسين على تلبية مطالب مؤسسات الدولة في الدستور بمعزل عن المؤسسات الأخرى؛ الأمر الذي أسفر عن دستور قد يؤدي إلى استقلال المؤسسات الكبرى عن الدولة؛ وهو ما يهدد سيادة الدولة واستقرارها في نهاية المطاف، والدور التكاملي الذي من المفترض أن تلعبه مؤسسات الدولة. ويتضح ذلك بصورة جلية في النصوص المتعلقة بالمؤسسة العسكرية والقضائية.
تحظى المحكمة الدستورية العليا في دستور لجنة الخمسين بسلطة مطلقة في اختيار أعضائها دون أي رقابة بدلا من أن تترك اللجنة طريقة تشكيل المحكمة واختيار أعضائها لتنظيم القانون، وفي المقابل غاب عن لجنة الخمسين تحديد معايير اختيار وتعيين القضاة، وقيدت اللجنة أية محاولة لتعديل قوانين الهيئات القضائية بالحصول على أغلبية الثلثين بالبرلمان، فضلًا عن إغفال النص على قواعد محاسبة القضاة في حال ارتكبوا أخطاء تضر بالعدالة وحقوق المواطنين.
وفيما عُرف في دستور 2012 بمواد الهوية في الدستور –التي كان للأحزاب الإسلامية وفي مقدمتها حزب النور السلفي الجهد الأكبر في إقحامها– فإن باب مقومات الدولة لم يتم تنقيحه من هذه المواد، مما يؤثر سلبًا على باب الحقوق والحريات، ويتيح للسلطة التغوّل على الحريات والديمقراطية باسم تفسير معيّن للدين الإسلامي. ولا يخلو من مغزى أن الإعلان الدستوري الصادر في أعقاب عزل الرئيس محمد مرسي جعل نقطة الانطلاق لعمل لجنة الخمسين هو دستور 2012؛ الأمر الذي ساهم في الحفاظ على مكتسبات بعض القوى السياسية الدينية غير الديمقراطية المعادية لأسس منظومة حقوق الإنسان.
فالنص المعدل للمادة 7 بأن الأزهر هو “المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشئون الإسلامية” يحفظ للأزهر نفوذه التشريعي الذي منحه إياه دستور جماعة الإخوان المسلمين في 2012، الذي نص على أن “يؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية”. فالنص الجديد ما زال يفتح الباب أمام إمكانية تدخُّل الأزهر في العملية التشريعية، لتكون له اليد العليا على مجلس النواب المنتخب وفي الحياة السياسية، باعتبار أنه المرجع الأساسي في “الشئون الإسلامية”.
كما أن المادة الثالثة التي نصت على أن مبادئ شرائع المسيحيين واليهود هي المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية والشئون الدينية واختيار قياداتهم الروحية، تتجاهل من ناحية وجود أقليات وطوائف دينية أخرى، ومن ناحية أخرى تُنشئ المادة نظمًا قانونية متعددة وموازية بخلاف المتعارف عليه في الدولة الحديثة. كما تضع هذه المادة قيودًا على حقوق المواطنين المسيحيين في الطلاق والزواج، وتجعلهم رهائن للقرارات الكنسية؛ وهو ما كان مفهومًا في دستور صاغته قوى سياسية دينية لا تؤمن بالدولة الديمقراطية الحديثة أو بحقوق الإنسان؛ لكنه يصبح عسيرًا على الاستيعاب حين تتبناه قوى ديمقراطية رفعت راية الدفاع عن حقوق الإنسان في مواجهة دستور 2012، ورغم ذلك تستلهم الفلسفة ذاتها؛ إرضاءً للكنيسة الأرثوذكسية.
نصت المادة 74 على حظر إنشاء أحزاب سياسية على أساس ديني أو ممارسة نشاط معاد لمبادئ الديمقراطية، لكن اللجنة لم تحل التناقض الماثل في كيفية حظر إنشاء الأحزاب على أساس ديني في ظل وجود المادة الثانية، فإذا تقدمت مجموعة من المواطنين لتأسيس حزب يهدف إلى تفعيل المادة الثانية وتطبيق فهم معيّن للشريعة الإسلامية، بأى منطق يمكن رفض تأسيسه؟! وهل سيتم هنا استدعاء الأزهر كـ”مؤسسة دينية” لإبداء الرأي؟ أيضًا كيف سيتم تحديد الممارسات التي يمكن تصنيفها معادية لـ”مبادئ الديمقراطية” التي تستوجب حظر الحزب؟
قامت لجنة الخمسين بحذف النص الإشكالي الذي اقترحه السلفيون في 2012 حول دور الدولة والمجتمع في الحفاظ على تقاليد الأسرة المصرية وترسيخ قيمها على النحو الذي ينظمه القانون. لكن مازال النص الحالي إنشائي وغامض. فكيف تحرص الدولة على تماسك واستقرار وترسيخ قيم الأسرة، دون تحديد طبيعة هذه القيم؟ فضلًا عن أن دسترة هذا الحرص يُمكِّن استخدامه من قِبَل المشرّع لتقييد الحقوق والحريات.
وفيما قدمت المادة 53 نصًا جيدًا يؤكد على المساواة الكاملة بين المواطنين ويجرم التمييز والحض على الكراهية ويُنشئ مفوضية مستقلة للقضاء على كافة أشكال التمييز، إلا أن المادة 64 قامت بالتمييز بين المواطنين حين نصت على أن القانون ينظم حق إقامة دور العبادة لما أصبح معروفًا بالأديان السماوية فقط. وهو إخفاق آخر في حماية الحقوق الأساسية للمواطنين، ودسترة للتمييز.
استحدثت لجنة الخمسين المادة 67 التي تنص على أنه “لا يجوز تحريك الدعاوى لوقف أو مصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية أو ضد مبدعيها إلا عن طريق النيابة العامة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب بسبب علانية المنتج الفني أو الأدبي أو الفكري أما الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو التمييز بين المواطنين أو الطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها”. يمكن قراءة هذا النص كمبادرة حسنة النيّة لحماية الكتاب والمبدعين وأصحاب الرأي مما يُعرف بقضايا الحسبة، لكن المادة من ناحية أخرى ترسخ رقابة السلطات على الفكر والرأي وتفتح الباب بنص دستوري أمام حل الخلافات الفكرية في ساحات القضاء. فضلًا عن أن الصياغة الملتبسة للمادة تسمح بتقنين فرض عقوبات سالبة للحرية، على أصحاب الرأي بدعوى التمييز بين المواطنين أو التحريض على العنف. و يتكرر الشق الأخير من المادة 67 في المادة 71، التي تسمح بفرض رقابة على الصحف في زمن الحرب والتعبئة العامة، وهو ما يشير إلى أن اللجنة لم تستطع تجاوز فهم عتيق للرقابة على النشر في زمن له طبيعة مغايرة.
وفيما لم تسمح المادة 76 بإنشاء النقابات بالإخطار مثل الجمعيات والمؤسسات الأهلية وجعلت ذلك حقًا يكفله القانون؛ فقد مضت المادة 77 على نهج دستور 2012 في الوقوف ضد مبدأ التعددية النقابية ونصت على ألا ينشأ لتنظيم المهنة سوى نقابة واحدة.
كما نصت المادة 86 على أن “الحفاظ على الأمن القومي واجب والتزام علي الكافة مراعاته ومسئولية وطنية”. يتم هنا استخدام مصطلح الأمن القومي الذي يتسم بكونه فضفاضًا غير محدد المعالم لإلزام جميع المواطنين بالحفاظ على قدسية مصطلح غامض، خاصةً أن حماية الأمن القومي هو مهمة الأجهزة الأمنية. كما يتكرر استخدام مصطلح الأمن القومي في مواضع أخرى في الدستور. فتنص المادة 31 على أن “أمن الفضاء المعلوماتي جزء من منظومة الاقتصاد والأمن القومي، وتلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ عليه، على النحو الذي ينظمه القانون”. وهو ما يسمح للمُشرِّع وللأجهزة الأمنية بملاحقة المدونين والمواطنين الذي يعبرون عن آراء مزعجة للسلطات على مواقع التواصل الاجتماعي. أيضًا نص الدستور على إنشاء المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (مادة 211) مهمته العمل على وضع معايير تُلزم المؤسسات الصحافية والإعلامية بـــــــ “مقتضيات الأمن القومي”. أي أن المجلس قد يكون بوابة لقمع حرية الصحافة والإعلام باسم الحفاظ على الأمن القومي.
وضع مشروع الدستور في المادة 237 في باب الأحكام الانتقالية الأساس الدستوري لصياغة قانون جديد لمكافحة الإرهاب، وفيما نصت على أن القانون سينظم التعويض العادل عن الأضرار الناجمة عن الإرهاب،إلا أنها لم تلزم الدولة بتعويض الأضرار الناجمة عن ممارسات الأجهزة الأمنية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان والحريات الأساسية أثناء أو بدعوى مكافحة الإرهاب.
حقوق الإنسان لم تكن أبدًا ضمن أولويات الحكومات المتعاقبة منذ 25 يناير 2011. بعد أيام قليلة ستحتفل مصر بمرور 3 أعوام على ثورة 25يناير، شهدت خلالها أكثر من تحالف سياسي مختلف يحكم البلاد، ولكن يبدو واضحًا أن مواقف معظم الأحزاب والقوى السياسية، سواء كانت ليبرالية أو إسلامية أو يسارية أو قومية، من دعم حقوق الإنسان والمواطنة، بل والحق في الحياة، لا تعتمد فحسب على التوجهات السياسية والأيدلوجية أو القيم التي تزعم هذه الأحزاب الإيمان بها، فمواقفها تتغير بتغير الموقع من السلطة. والمسافة من السلطة أو الوجود فيها هي أقوى محددات سياسات ومواقف الأحزاب من دعم حقوق الإنسان والمواطنة. الأمر الذي يكشف عن أن كثير من الأطراف السياسية في مصر تنظر لحقوق الإنسان باعتبارها أداة سياسية للضغط على السلطة التي تعارضها، لكنها تبدي استعدادًا للتخلي عن دعم حقوق الإنسان بمجرد نجاحها في تجريد خصمها السياسي من نفوذه أو وصولها لمقاعد الحكم. وهو المنهج الذي إن ترسخ في الحياة السياسية المصرية فإنه سيجعل حقوق المواطنة والانتقال الديمقراطي أبرز الخاسرين في نهاية المطاف.
إن مركز القاهرة يشعر ببالغ القلق من فشل تجربتين متتاليتين خلال عام واحد، لصياغة دستور دولة مدنية ديمقراطية يوفّر الضمانات اللازمة لحماية الحقوق والحريات بما يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويليق بالتضحيات المبذولة من أبناء الشعب المصري قبل وبعد ثورة 25 يناير.
كان مركز القاهرة قد بعث بمقترحات لتعديلات دستور 2012 إلى لجنة الخبراء المختصة باقتراح التعديلات الدستورية، للاطلاع على المقترحات إضغط هنا
Share this Post