أجمع مثقفون ومفكرون على رفض الممارسات التي من شأنها حجب الأفكار والإبداعات أو مصادرتها، مطالبين في اللقاء الفكري الذي عقده مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان بتاريخ الأحد الموافق 13 يوليو 2008 في إطار صالون ابن رشد تحت عنوان “الحجب والمصادرة… أزمة حرية الفكر والإبداع في مصر” بإنهاء وصاية المؤسسات المختلفة – خاصة الدينية منها – على حرية الفكر والإبداع في البلاد.
وقال الأستاذ/ عصام الدين حسن مدير وحدة البحوث بالمركز أن هناك خطر على حرية الرأي والتعبير يستوجب العمل على مواجهته مشيراً في ذلك إلى الدور المتزايد لمجمع البحوث الإسلامية، ولافتاً إلى أنه في الوقت الذي يتخوف فيه البعض من أن تأتي الجماعات الدينية – كجماعة الإخوان المسلمين – بالدولة الدينية إذا ما وصلت للحكم فإنه من الواضح أن الدولة الدينية قائمة بفضل ممارسات الحزب الوطني الحاكم.
وأشار إلى ضغوط مؤسسات الدولة والمؤسسات الدينية والمجتمعية المختلفة على وسائل الإعلام والمثقفين، لافتاً إلى استهداف وثيقة البث الفضائي التضييق على الإعلام العربي في ظل ما أحدثته الفضائيات المستقلة من حراك في المجتمعات العربية، مضيفاً أن الدولة تتعامل مع مؤسسات المجتمع المدني بعقلية السعي والعمل على إلحاق هذه المؤسسات بأجهزة الدولة مثلما يحدث مع الجمعيات الأهلية والنقابات المختلفة.
من جانبه أكد المفكر الإسلامي جمال البنا أن حرية الفكر والتعبير مقدسة ولا يمكن لهيئة دينية أو دستور المساس بها، مشيراً إلى أن الحق في التفكير هو حق أساسي للإنسان، وهاجم البنا الرد على أفكار المثقفين وإبداعاتهم بإقامة الدعاوى لسجنهم أو العمل على مصادرة كتاباتهم، مشيراً إلى أنه من الواجب أن يكون الرد على الكلمة بمثلها وعلى البرهان بالبرهان والدليل بالدليل، مؤكداً أن هؤلاء يتركون القضية الرئيسية التي يطرحها المبدع ليسعوا إلى تقييده هو شخصياً بالسجن أو المصادرة أو الحجر على أفكاره.
وأوضح البنا أن الإسلام واضح تماماً في موقفه تجاه حرية الفكر والاعتقاد، مستشهداً على ذلك بالآيات القرآنية: “من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، و”أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”؛ مؤكداً أن الهدى والضلال قضية شخصية لا يجوز لأحد التدخل فيها، كما لا يجوز لقانون أو مؤسسة دينية أو جهاز حكومي التدخل في حرية الفكر، وقال البنا أن كرامة الإنسان هي في حرية الفكر، مطالباً بلجنة مستقلة تسلك كل الطرق ومناهضة ممارسات المصادرة والحجب.
كما أكد البنا أن الهيئات المجتمعية كالنقابات والأحزاب والجمعيات وغيرها تمثل جزءاً لا يتجزأ من مظاهر حرية الفكر، وقال أن الفكر إذا لم يجد سبيله للتعبير عنه فإنه سيكون “سجين صاحبه” ولن تكون هناك فائدة منه مشيراً إلى أن الحرية تبني سقفها بنفسها، وعندما يشتد الميل والانحراف يظهر هناك من يعرض وجهة النظر المناهضة لهذا الانحراف فيما يمثل واحدة من ميزات الحرية كونها تسمح بإبداء كل الآراء وتكشف الأخطاء وقت وقوعها حتى يمكن استدراكها أولاً بأول.
وقد أضاف البنا أن الحرية شرط أساسي وباب للتقدم وغيابها يمثل باباً للتخلف والتراجع، مجدداً التأكيد على أن حرية الفكر والتعبير مقدسة ولا يجب لأي شخص أو هيئة المساس بها.
ازدواجية المعايير
وبدأ الشاعر والناقد/ حلمي سالم رئيس تحرير مجلة أدب ونقد حديثه بالتأكيد على أن مجمع البحوث الإسلامية هو الذي يحكم مصر، حيث تتم استشارته في كل أمر سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي أو أخلاقي وتعطيه الدولة يوماً بعد يوم صلاحيات متناهية، لافتاً إلى أن مجلس الدولة برئاسة المستشار/ طارق البشري أعطى المجمع منذ سنوات فتوى تتيح له حرية الضبطية القضائية، ودعا سالم إلى إعادة النظر بشكل جذري في وجود هذا المجمع ومهامه مؤكداً أن الدين وحده هو المقدس أما رجال الدين فغير مقدسين.
وأشار سالم إلى أ، البلاد تواجه منذ بدء النهضة ازدواجاً في المرجعية التي يستند إليها المجتمع بين المرجعية الدينية والأخرى المدنية، مشيراً إلى أنه كان ينبغي أن تكون المرجعية مع بدء الدولة الحديثة هي المرجعية المدنية فقط، بينما ظل المجتمع يعيش بالساقين معاً، إحداهما – الدينية – تشده للخلف، والأخرى – المدنية – تحاول شده للأمام، وقال سالم أن ازدواج المرجعية كان سمة من سمات مفكري النهضة الكبار أنفسهم كرفاعة الطهطاوي وسعد زغلول، كما كان هناك انفصام وازدواجية أيضاً في التعليم وفي النضال الوطني، معتبراً أن هذا الأمر يمثل سبباً رئيسياً لتعثر المجتمع في السنوات الماضية والقادمة أيضاً.
وأضاف سالم أن ثمة مساران في الإسلام أحدهما يريد الاستنارة والحرية والتسامح واحترام المرأة، والآخر يريد الاستبداد وإنكار الآخر أو حتى قتله والوصاية على المرأة وكبت الحريات، لافتاً إلى أن كلا من المسارين يجد له سند من القرآن وأحاديث النبي واجتهادات الفقهاء.
ولفت أيضاً إلى أن المخطئ في النظريات البشرية يكون مخطئاً، أما المخطئ في النظريات الإلهية فيرى البعض أنه كافر ينبغي قتله، مطالباً بأن يعود المجتمع لرفع شعار “الدين لله والوطن للجميع” بشقيه مشيراً إلى أن الدين صار لرجال الدين ولم يعد الوطن للجميع بفعل أمرين، هما: الفكرة الدينية المتطرفة القائمة على أنه لا وطنية في الدين، والسلطة السياسية التي جعلت الوطن للأغنياء فقط.
وقد حذر سالم أن غياب هذا الشعار يفتح الباب واسعاً أمام دعاة التمييز والفتنة والخيانة الوطنية، مؤكداً أن مصر تعيش في دولة دينية وليست مدنية، وأن هذه الدولة – الدينية – تختفي وراء أشكال مدنية مدللاً على ذلك بأن مؤسسات الدولة المختلفة لا تسلك أي سلوك قبل أن تستقي رأي المؤسسة الدينية، كما أن الدولة تسعى دوماً لأن تستمد شرعيتها من خلال توظيف الدين ومسايرة المؤسسات الدينية، وتخضع لابتزاز وضغوط الجماعات والتيارات الدينية ولا تواجهها إلا إذا تعرضت لخطر مباشر منها على وجودها.
وانتقد سالم ما وصفه بالبرجماتية الظاهرة لدى المؤسسات الدينية كونها تهتم بمطاردة المبدعين، ولا تبدي رأياً في قضايا مجتمعية هامة كالاحتكارات والفساد السياسي، ودعا إلى قيام مؤسسات المجتمع المدني بالضغط من أجل إنقاذ الدولة المدنية وإنهاء الأوضاع الملتبسة الحالية، مؤكداً أن المجتمع ليس في حاجة لتجديد الفكر الديني كون ذلك يجري بالفعل منذ أكثر من 1500 عام، ولكنه في حاجة إلى أن يضع التجديد موضع التنفيذ على أرض الواقع وأن يستعيد المجتمع شعار “الدين لله والوطن للجميع” وأن يؤمن الجميع أنه حيثما كانت مصلحة الناس فثمة شرع الله.
قتل معنوي
وبدأ الكاتب والمحلل السياسي الدكتور/ عمار علي حسن بالتأكيد على أن المصادرة تمثل قتلاً معنوياً وأن مصادرة كتاب لا تقل جرماً عن إزهاق روح بشرية، لافتاً إلى وجود فجوة بين حرية الفكر والتعبير وأخرى بين الاثنين معاً وحرية التدبير أو الحركة، وأن هناك قيود تعوق حرية التفكير كالرقابة الحكومية أو الرقابة الذاتية أو نقص المعلومات إضافة إلى تعدد التعريفات الموجودة للحرية ذاتها حتى وصلت هذه التعريفات إلى نحو مائتي تعريف.
وذهب الدكتور عمار علي حسن إلى أنه لا توجد حرية مطلقة في أي زمان أو مكان، وأن المطلقات موضوع يحتاج لإعادة نظر مشيراً إلى أن الكثيرين انتهكوا مفهوم الحرية لخدمة أهداف خاصة بهم، واتفق عمار مع الدعوة إلى مواجهة الفكر بالفكر مؤكداً أن المصادرة لا يمكن لها أن تكبت فكراً مهما طال الأمد، وأن كل كتاب نال حظ المصادرة أصبح أكثر توزيعاً وأعمق تأثيراً.
ووصف عمار سلوك المصادرة بأنه سلوك غبي لا يستهدف صاحبه من وراءه غير المصلحة الذاتية، وقال أن القائمين بالمصادرة لا يأخذون في الاعتبار حرية الكاتب في التفكير والتعبير وأن مواجهة المصادرة يمكن أن تكون بمزيد من العناد مشيراً إلى أن كل مسار بشري خلا من الحرية كان مصيره الفشل الذريع كون الحرية هي عصب وأساس كل مشروع إنساني، وقال عمار أن قضية الحرية تتعرض لأشكال من التشويه والابتزاز، وأن هناك جملة من الاتهامات يتم توجيهها ضد البعض بما يؤدي لانفضاض الناس عن كاتب أو مثقف أو حتى رجل دين مستنير.
لكن الدكتور حسن عاد وانتقد ما وصفه بتحالف بعض المثقفين مع السلطة المستبدة حين دخلت الأخيرة في مواجهة مع الجماعات المتشددة، حيث تخلى هؤلاء المثقفون عن لحظة تاريخية كان يمكن لهم فيها أن يفرضوا شروطهم وأن يثيروا قضايا الاستبداد والفقر والفساد السياسي، لكنهم وقعوا صكاً على بياض للدولة التي انتهت من الجماعات وطوعتها لخدمتها ثم استدارت للتنكيل بكل من يطالب بالحرية والإصلاح، وقال د. عمار أن بعض المدافعين عن الحرية يخونونها أحياناً، لافتاً إلى وجود مؤسسات غير إسلامية كالكنيسة تمارس قيوداً على حرية الفكر والإبداع شأنها في ذلك شأن مجمع البحوث الإسلامية.
ورأى د. عمار أن هناك مشكلات تواجه اللجوء إلى أمور كضمير الكاتب أو اللجان النقابية أو القضاء أو مواثيق الشرف الأدبي والفكري، حيث لا توجد ضمانات لعدم تحول أي من هذه الاختيارات عن مسارها، مؤكداً أن الحل الوحيد أمام ذلك هو إتاحة حرية التعبير والفكر الكاملة ورفض أي مصادرة أو حجب للإبداعات والكتابات.
Share this Post