مسعود الرمضاني
عضو سابق باللجنة التنفيذية الأورومتوسطية للحقوق، والرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.«نحن نتاج هذا الواقع وهذا الزمن الذي تختلط فيه الانهيارات الواضحة بالولادات الغامضة، ولا نتوب عن أحلامنا مهما تكررت انكساراتها».
(محمود درويش، ذاكرة النسيان)
من طرائف الشاعر العباسي أبي نواس، انه لما ألقى الخليفة المأمون قصيدة في مجلسه، وسأله عن رأيه، قال بصراحة ودون مواربة: «أنا لا أشم بها أية رائحة للبلاغة» فغضب المأمون، الذي تعوّد على سماع التملق ورياء الشعراء والحاشية والمقربين، وأمر أن يُحبس شهرًا في حظيرة حمير… وبعد خروجه ناداه المأمون وبدأ في إلقاء قصيدة ثانية، وفي منتصفها قام أبو نواس من المجلس فاستوقفه المأمون قائلا إلى أين؟ فقال «إلى الحظيرة يامولاي…».
كُلفة الحرية:
ولئن تبدو الحادثة طريفة وتكررت كثيرًا في باب النوادر التي نُسبت إلى الشاعر الكبير، فإن رمزيتها وبعدها الإنساني والأخلاقي، بما فيهما من صدق وجرأة وشجاعة أدبية في زمن كان التملق والمديح والتقرب من السلطان هو الغالب، يجب أن يستوقفانا، نحن الشعوب التي فُرضت عليها، خيارات منغصة، تراوح بين مذلة الصمت وثقافة التملّق المخجل والشجاعة الفردية المؤذية، تمامًا مثل أبي نواس الذي فضّل الذهاب إلى حظيرة البهائم على أن يجامل وينافق ويتملّق…
وظل هذا الحق الإنساني في التعبير غائبًا اليوم، رغم التقدم الإنساني والحضاري الكبير، ويستوجب أحيانًا جراءة فريدة، مع يترتب عليها من تكلفة باهظة، يقول الكاتب النرويجي كارل كناوسغارد، أن الشجاعة هي إحدى جوانب حرية التعبير وهي التكلفة التي يتحملها المرء عندما يطالب باستخدام هذا الحق، أي ملاحقته قانونيًا أو اعتقاله أو نفيه أو تعذيبه أو حتى قتله… خاصة في مجتمعات تعتبر الحرية ردافًا للفوضى والقوانين والدساتير التي أنجبتها عقود من الفكر الإنساني والنضال الميداني ظواهر «غريبة عن حضارتنا وقيمنا»، حضارة حبسها التقليد السائد في جانبها المظلم والقاتم.
بين الحرية والتحرر:
في الحقيقة، صعب جدًا أن تحافظ السلطات الحاكمة، في كل بلدان العالم، على ذلك التوازن بين إرادة التسلط والاستمرار في الزعامة التي تستهوي الحاكم من ناحية وبين الإرادة الطبيعية للشعوب التواقة للتحرر من تضييق المراقبة والمنع. لذلك أوجدت الدساتير الوطنية والقوانين الدولية، موادًا وكوابحًا، تضبط قواعد الحرية وتمنع الطغيان، وتحافظ على كرامة الإنسان وتحرس رغبته في التخلص من القيود والإذلال…
في المنطقة العربية، أثبتت الشعوب، من خلال انتفاضاتها قبل أكثر من عقد، أن التحرر من الاستعمار لا يقتصر مفهومه على بُعده الجغرافي، وذلك عبر استقلال جل دول المنطقة في أواخر خمسينيات وأوائل ستينيات القرن الماضي، بل كان يجب إزاحة أنظمة قاهرة، ظلت تمثل استعمارًا داخليًا قاتلًا، تحكم عبر ثنائية مقيتة بين القمع وتبديد ثروات بلدانها… بل ودفع الغرور بتلك الأنظمة واستلذاذها بالسلطة إلى السعي لتوريث أبنائها… وربما أحفادها لو ظلّت مدة أطول في السلطة.
«لكن كانت هناك عقبات عديدة أجهضت تلك الثورات، منها التصحر الفكري والسياسي الذي ساد خلال عقود حكم الدولة الوطنية»، مما حال دون تحولات فكرية وسياسية تستوعب جيّدًا قيم الحرية والديمقراطية وكذلك إخفاقات النخب الحاكمة بعد الانتفاضات في تحقيق تغييرات مهمة تقنع الشعوب بأن تضحياتها لم تذهب سدى، مما مكّن الدولة العميقة، التي ظلت تتحيّن الفرصة للثأر، من العودة، بأكثر عنفًا واستهتارًا، فاستفاقت الصراعات الإثنية والعرقية في بعض البلدان واستعادت الجيوش المتوثبة سطوتها ونفوذها في أماكن أخرى. ونشطت كذلك الأيديولوجيات المحنطة… لتقف، كلها، حجر عثرة أمام طموحات الشعوب وتعيد السياسة إلى مربع الاستبداد والقهر.
ولم تسلم تونس من الانتكاسات التي عرفتها الانتفاضات العربية الأخرى، رغم أن عديد الظروف كانت تهيئ لانتقال ديمقراطي سلس وناجح، ابتداءً من التجانس الفكري والثقافي الذي ميّز تاريخها الحديث ووصولًا إلى ثقافة نخبها المستنيرة التي واجهت الاستعمار والتغريب الثقافي، إلا أن النخب السياسية الحالية وهشاشتها وانجرارها إلى منعكسات ورثتها عن حكم الاستبداد، منعكسات قائمة على المغالبة والتعالي ونفي الأخر، أهدرت فرص الانتقال الديمقراطي. وها نحن نجتر خيبات الماضي البعيد والقريب، ونتباكى على حرية نحن من فرط فيها…
لا مكان لليأس والقنوط:
في اعتقادي أنه، رغم أن السنوات القادمة ستشهد مزيدًا من ضرب الحريات والتضييق على الأحزاب والمنظمات المدنية والصحافة وحرية التعبير عمومًا؛ فإن الأمل لازال قائمًا، لكنه أمل مشروط بمدى استيعاب النخب التونسية دروس الماضي والتخلص من نزق العقل السياسي الذي حكم تفكير ها، وكذلك التواضع لإدراك مسئوليتها التاريخية في الهزائم المتكررة وإدراك كنه ذلك الحاجز المقيت القائم بينها وبين عموم الشعب، وفي حين تحاول السلطة القائمة الاستمتاع بفوزها في الانتخابات، غير عابئة بالظروف والملابسات التي حافت بالعملية الانتخابية، ولا بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والمالية القادمة، نتطلع كلنا إلى ظهور نخب جديدة، هي أيضًا، قرأت الواقع جيدًا وشخصت عيوبه واستفادت من أخطاء «الآباء»، صحيح أننا ساهمنا، أو هكذا فعل جلّنا، في تبديد الحرية خلال عقد من الزمن ولكن بذور تلك الحرية لازالت موجودة وستنبت من جديد، وشجاعة أولئك الذين تمسكوا بحقهم في الحياة الحرة ولازالوا يدفعون ضريبتها غاليًا، من سياسيين وصحفيين وحتى مواطنين عاديين، تحدوا كل حواجز الرقابة الذاتية والموضوعية وضحوا بحريتهم الفردية، تبعث فينا، كلنا، العزم والإصرار، وتحثنا على فهم الحياة على حقيقتها، أي أن نقاوم اليأس ونتفاعل بجدية مع كل الاستحقاقات وندجن الخوف الذي يُراد له أن ينغّص عيشنا ويسلبنا إرادتنا، يقول نيتشه: «تسأل ما هو الخير؟ الخير أن تكون شجاعًا، والخير ألا تهتم بالحياة الطويلة، ولا بالنجاة من المخاطر، وألا تحب العيش حُبًّا يجعلك تتعلق به مهما نفى الإرادة والحياة فيك». ذاك، ربما، ما فكر فيه الشاعر أبو نواس، حين واجه المأمون، وكان ذلك قبل قرون من ظهور الفلسفة الألمانية الحديثة.
المصدر: جريدة الشارع المغاربي
Share this Post