- كتب بهى الدين حسن
«يقضى الإنسان سنواته الأولى فى تعلم النطق، وتقضى الأنظمة العربية، بقية عمرها فى تعليمه الصمت». من رواية «ذاكرة الجسد» للأديبة الجزائرية أحلام مستغانمى.
أعلنت 16 منظمة لحقوق الإنسان فى مصر الأسبوع قبل الماضى تقريرا أثار ضجة إعلامية كبيرة فى داخل وخارج البلاد،
لأنه اعتبر أن المشكلة المركزية لحقوق الإنسان فى مصر، هى فى عدم وجود إرادة سياسية لنظام الحكم لاحترامها، وفى كون مصر قد صارت «دولة بوليسية». أى أن الاعتبارات الأمنية تلعب دورا رئيسيا فى تسيير أمور البلاد، سواء كانت قضايا كبرى لمكافحة الإرهاب وحماية النظام الحاكم، أو أمورا تافهة، تتعلق بالتعيينات فى وظائف صغيرة، وغيرها من الأمور.
واقع الأمر أن هذا التطور لم يكن وليد نزعة خاصة داخل وزارة الداخلية أو وزيرها الحالى أو من سبقوه، وإنما هو وليد تطور تاريخى تدريجى، وعلى الأرجح لا يرضى المهنيين من ضباط الشرطة، خاصة وهم يلاحظون الارتباك الهائل فى الأمن الجنائى.
اضطلاع الاعتبارات الأمنية بدور حاسم فى عملية صنع القرار فى مصر، ليس بجديد، فالدولة «الأمنية» ولدت على أيدى ثوار يوليو 1952، ولكنها كانت فى قبضة الأجهزة الأمنية ذات الطابع العسكرى كالمخابرات العامة والحربية، والتى كان دورها حينذاك لا يقتصر على الأمن الخارجى فقط. هذا الدور والمكانة تلقى ضربة قاصمة بهزيمة يونيو 1967، وخاصة بعد التحقيقات التى طالت مدير جهاز المخابرات، وإتاحة هذه التحقيقات لوسائل الإعلام.
تكفلت عدة تطورات لاحقة فى الدفع بشكل تدريجى نحو منح أجهزة الأمن الداخلى نفوذا سياسيا متزايدا، وكذلك فى تحول قوات الأمن المركزى إلى جيش حقيقى، ومزود بالأسلحة الثقيلة، وذلك حينما بدأت الجماهير تعرف طريقها للشارع بعد 67، لأول مرة منذ مارس 1954. بدأ ذلك بانتفاضة الطلبة والعمال فى فبراير ونوفمبر 1968، ثم توالت بالانتفاضات الطلابية عامى 72و 1973، وانتفاضة الجوع فى يناير 1977، وغيرها.
ولكن هناك ثلاثة تطورات منحت النفوذ السياسى لوزارة الداخلية الدفعة الأكبر للأمام:
التوصل لاتفاق سلام مع إسرائيل.
بروز تحدى الجماعات الإسلامية المسلحة (الجماعة الإسلامية والجهاد) وغير المسلحة (الإخوان المسلمين).
استعادة العمل بقانون الطوارئ فور اغتيال السادات.
التطور الأول أدى لتراجع المصدر الأكبر للتهديد الخارجى، وبالتالى دور الأجهزة والمؤسسات المنوط بها مواجهة هذا التهديد. بينما أدى الثانى والثالث إلى مزيد من الاعتماد على وزارة الداخلية وجهازها السياسى، أى مباحث أمن الدولة.
نظرا لما يتيحه قانون الطوارئ من سلطات استثنائية هائلة لأجهزة الأمن، فإنه مع سريان حالة الطوارئ لمدة 28 عاما متواصلة، صارت الأجهزة الأمنية تدريجيا تتمتع بسلطات لا تجد سندا من أى قانون أو دستور، وهو ما قاد مصر تدريجيا لأن تصبح دولة بوليسية، أى يدار الكثير من أمورها الكبرى والصغرى بسياسات وتعليمات وقرارات وإجراءات، لا تستند سوى إلى السلطة الاستثنائية غير الدستورية وغير القانونية، التى تتمتع بها الأجهزة الأمنية، والتى تضعها فعليا فوق القانون والدستور وسلطتى القضاء والتشريع، وأخيرا المواطنين.
حتى صارت أحد مطالب حقوق الإنسان الالتزام بقانون الطوارئ المرفوض! فرغم أن قانون الطوارئ يسمح لوزارة الداخلية بالطعن فقط على حكم القضاء الأول بالإفراج، ويلزمها بتنفيذ حكم الإفراج الثانى، إلا أن السجون تضم معتقلين لفترات طويلة تتجاوز العشر سنوات، رغم أحكام القضاء المتوالية بالإفراج عنهم.
من الناحية الرسمية، وزارة الداخلية لا تنتهك القانون ولا تعتدى على القضاء، فهى تفرج ــ على الورق عن المعتقل ــ وتنقله لمدة 24 ساعة إلى قسم شرطة، حتى يصدر أمر الاعتقال الجديد بتاريخ «طازة»، فتعيده إلى سجنه.. وهكذا.
عندما يحدث ذلك فى حدود بضعة معتقلين، فإن المساهمين فى هذا الاعتداء المنظم على القانون والقضاء، يمكن أن يكونوا بضعة ضباط موزعين بين عدة أجهزة وسجون وأقسام شرطة، ولكن عندما تجرى هذه العملية بشكل شبه يومى، وبعرض البلاد وطولها، ولنحو ثلاثة عقود، فإننا نصبح إزاء دولة بوليسية من الطراز الكلاسيكى.
وعندما يكون ذلك موثقا ومنشورا فى عشرات التقارير لمنظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام المحلية والدولية، ولا تستطيع السلطتان التشريعية والقضائية فتح تحقيق جدى واحد فى هذا السلوك المؤسسى المتواصل المعلن، فإن هذا يعد مؤشرا على مدى خضوع هاتين السلطتين التام، ليس للسلطة التنفيذية فحسب، بل لأجهزتها الأمنية.
فى تقريره السنوى الأول عن حقوق الإنسان فى مصر، قام المجلس القومى لحقوق الإنسان بتوثيق هذه الحقيقة، من خلال تتبع مسارها داخل أجهزة الدولة. ففى مراسلاته مع وزارة الداخلية، طالبته الوزارة بعدم توجيه أى مراسلات تتعلق بالتعذيب أو الاعتقال أو الاختفاء إلى وزارة العدل أو النائب العام، وقصر هذه المراسلات عليها فقط.
ولكن لما كانت هذه الأمور فى صميم مسئوليات هاتين المؤسستين، ولما كانت وزارة الداخلية لا تقدم للمجلس ردودا مقنعة، فقد استمر المجلس فى مخاطبة وزارة العدل والنائب العام. ولاحظ تقرير المجلس بدهشة، أن الطرفين قد توقفا عن الرد على المجلس القومى على هذه النوعية من المراسلات، بينما تلقى المجلس القومى الرد على ذات المراسلات من وزارة الداخلية!
نشر المجلس لهذه المعلومات، كان أحد أسباب أن تقريره الأول كان «الأخير» فى تناول مضمون رسائله مع الوزارات بشكل شفاف، ولذلك عرف باسم «بيضة الديك»!
مثال ثان، يؤكد ما توصل إليه ذلك التقرير، فرغم أن منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية لم تكف فى تقاريرها عن اتهام جهاز مباحث أمن الدولة بتعذيب كثير من المحتجزين فيه، فإنه على مدار 23 عاما، لم يجر تحريك دعوى قضائية واحدة ضد أى ضابط من هذا الجهاز!
وعندما كادت «جمعية المساعدة القانونية لحقوق الإنسان» أن تنجح فى الزج بأحد هؤلاء الضباط فى قفص الاتهام، بعد حصولها على توكيل من أسرة ضحية توفى جراء التعذيب، فإن الأسرة قامت بسحب توكيلها من الجمعية، ثم انتقلت فجأة من مسكنها إلى مكان مجهول، وقامت وزارة التضامن بحل الجمعية الحقوقية!
الوقائع أكثر من أن تحصى، إنها فقط تحتاج قراءة لتقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية على مدار العشرين عاما الماضية بعناية أكبر.
آخر هذه الوقائع، واقعة اقتحام منزل المستشار محمد عبدالغفار ــ أحد أبرز قضاة مصر بعد نشر حديث صحفى أجرى معه قبل وفاته ــ وقيام قوة الاقتحام بنقل أوراقه وملفاته ووثائقه إلى مكان مجهول، ثم احتجاز ابنه لمدة ثلاثة أيام. حتى الآن لم تعلن أى جهة رسمية تفسيرا لما حدث، ولم يطلب البرلمان أو مجلس القضاء الأعلى تحقيقا. أما أسرته فقد قررت عدم متابعة الأمر، وأيدها فى ذلك المحامى الشهير للأسرة، وتعهد هو نفسه بألا يفتح فمه مرة أخرى فى الموضوع!
لقد صار قانون مصر، هو قانونها غير المكتوب ــ من تنظيم المرور إلى السياسة ــ لذا يندهش رجل الشارع من هؤلاء السياسيين والكتاب الذين يعترضون على أمور كثيرة باعتبارها مخالفة للقانون! ولا بد أنه يقهقه الآن بصوت مجلجل، عندما يسمع أن التفكير فى ترشيح البرادعى رئيسا يخالف القانون!
Share this Post