عقد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان صالونا في 10 ديسمبر 2007، وذلك في إطار احتفالاته بمرور 59 سنة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تحت عنوان “مراجعات الجهاد هل هي مناورة أم قطيعة حقيقية مع الإرهاب؟!” حاضر فيها كل من: د. عمرو حمزاوي، كبير الباحثين بمؤسسة كارنيجي للسلام، ود. ضياء رشوان، الخبير بشؤون الحركات الإسلامية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، والأستاذ عبد الرحيم علي، الخبير بشؤون الحركات الإسلامية، والأستاذ سامح فوزي، الكاتب والباحث.
في البداية أكد حمزاوي أن ما أثير من جدل حول المراجعات وأسبابها وطبيعتها، يعبر عن حالة صحية في المجال العام، ليس فقط في مصر، وإنما في العالم الإسلامي بشكل عام. وقال في سياق التعليق على مجمل الشكوك التي أثارها البعض حول المراجعات “على المشككين أن يعيدوا النظر إلى الفكرة من خلال النص والذي لا يحاكم خارج سياقاته العامة وأن أي طرح بعيد عن هذه السياقات سيكون خاطئا”.
كما أكد على أن التساؤل حول المراجعات وما إذا كانت مناورة أم لا هو في حد ذاته تساؤل غير منهجي وإختبار للنوايا ينطلق من نظرة، للجماعة والمجتمع، لا تأخذ في الاعتبار أن الواقع متغير دائما وأن ثمة جماعات بدأت بنبذ العنف تكتيكيا ثم انتهت بالإقرار به مبدئيا وربما للأبد. كما أن التساؤل أيضا يضع المراجعات في إطارها الفردي وليس المجتمعي. وأنه يجب البحث بداية في تداعياتها السياسية والفكرية وتفعيلها من أجل الاستفادة منها بدلا من كثرة الجدل حول طبيعتها والهدف منها.
في مقابل ذلك، طرح حمزاوي ثلاثة تساؤلات حول السياقات كما طرح أيضا عوامل أربعة رئيسة في فهم سياقات المراجعات. أما الأسئلة الثلاثة التي تطرح في هذا الإطار حول سياقات المراجعات فهي:
1- ما السياق العام الذي تتراجع فيه كافة الجماعات والحركات الأيديولوجية التي تتبنى العنف حين تتحول إلى حركات مسالمة أو تباشر العمل السياسي؟.
2- ما مدى جدية المراجعات وهل تمثل بالفعل قطيعة معرفية مع جذور العنف أم أنها ليست إلا فعلا وخطوة تكتيكية؟.
3- التساؤل الثالث يتعلق بما بعد المراجعات، حول مستقبل الجهاديين بعد ترشيد الجهاد، هل سينتهي التنظيم فعليا ويشتبكوا مع العمل السياسي أم سينتهي الأمر عند هذا الحد؟.
أما العوامل الرئيسية الأربعة والتي لا بد منها لفهم سياق المراجعات فهي:
1- عامل الحساب العقلاني للمردود المتوقع من استخدام العنف، بمعنى مدى اقتناع الجهاديين بأن الاستعمال المطلق للعنف لا يحقق أهدافهم ومن ثم لا بد من ترشيد العمل الجهادي.
2- عامل المناخ أو الفضاء المصري العام والذي بات مقتنعا هو الآخر برفض واستنكار العنف السياسي، وهو ما لم يكن موجودا بصورة واضحة على الأقل من قبل خلال عقد التسعينيات.
3- عامل التغييرات الداخلية التي تطرأ على الحركة ومن ثم اختلاف نظرة الأجيال للعنف والإرهاب.
4- منظومة علاقة الحركة بالنظام الحاكم: أي حسابات الربح والخسارة فيما يتعلق باستخدام العنف أو عدمه مع النظام الحاكم.
وفيما يخص التساؤل حول “مابعد المراجعات؟” أشار حمزاوي إلى وجود نمطين من الحركات الإيديولوجية التي استعملت العنف للوصول لأهدافها، وهما:
(أ) الحركات اليسارية في الخبرة الأوروبية، والتي استعملت العنف ضد الأنظمة الحاكمة ثم اختفت بالمعنى التنظيمي، وإن ظلت باقية بالمعنى الفكري، ثم تطورت لاحقا واندمجت في سياق التجربة الحزبية “حزب الخضر في ألمانيا على سبيل المثال”.
(ب) حركات التحرر الوطني والتي تربط بين استعمال العنف وبين تحقيق الاستقلال، وهي أسبق تاريخيا، كحركة المؤتمر الوطني في جنوب أفريقيا والجيش الجمهوري الأيرلندي وحركات مشابهة في أمريكا اللاتينية، والتي تحولت عن العنف بعد أن حققت أهدافها وأصبحت تمارس العمل السياسي من خلال الأحزاب السياسية.
وعن مصير التنظيم يتوقع حمزاوي أن يختفي الجهاد تنظيميا فيما سيستمر على المستوى الفكري، وسيكون دوره المحتمل أحد مسارين: الأول، إما أن يتيح لها النظام السياسي مساحة من حرية الحركة فتصبح جزءا من السياق السياسي الرسمي. والثاني، إما أن يضغط المجتمع وقواه الحية من أجل أن تعود الجماعة للبدايات كجماعة دعوية.
وعن تقييمه للمراجعات وصف حمزاوي جماعة الجهاد بأنها جزء لا يتجزأ من قوام المجتمع المصري، ومن ثم لم يكن سيد إمام يبتعد عن تنظيرات السياسيين فيما هو يكتب الوثيقة وإنما يأخذ في اعتباره تغير الحال الآن عما كان قائما آنذاك. كما أعرب عن اعتقاده أن المخاطب الأول في الوثيقة هو التيارات الجهادية عامة وبالتحديد قلب الحركة نفسها، متوقعا أن إمام سيتبع الوثيقة بخطابات تشمل دوائر أخرى أكثر اتساعا.
ومن جانبه، أثار عبد الرحيم علي تساؤلات متعلقة بالتشكيك في قيمة المراجعات ومضمونها وتوقيتها، خاصة وأن المناخ المصري السائد الآن يخلو من موجات العنف كما كان من قبل، مؤكدا أنه لا يحاكم النوايا وإنما الأوراق، وأن الانتقاد ليس تشكيكًا على اعتبار أن استمرار الصراع يضر بكل القوى السياسية والمجتمعية ويتيح العمل بالقوانين الاستثنائية بدعوى فزاعة الإسلاميين. وأنه لا يجوز التعامل بالثمن “ادفع مراجعات.. ندفع إفراجات!” مطالبا بنزع ملف المراجعات من القبضة الأمنية وإتاجته للرأي العام ليثير بدوره عديدا من الحراك.
في المقابل، أكد سامح فوزي أننا لا نزال نفتقد عملا متكاملا وأنه حتى يحين ذلك يصعب التكهن بدوافع ظهور الوثيقة وتداعياتها سواء على المستوى المصري أو الإسلامي. مشيرا إلى أن ثمة مداخل عديدة لتناول موضوع المراجعات، وأنه في الوقت الذي تشهد فيه المدارس الفكرية والحركات الدينية تغييرًا فكريًّا دائمًا، مثل حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية التي شهدت مراجعات قوية، وأخذت أبعادًا سياسية بعد انتقالها من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا وآسيا فإن المراجعات الحالية تمثل تراجعًا فيما يتعلق بالموقف من الأقباط، على الرغم من أنها تأتي على ذكر المواطنة في أكثر من موضع منها.
وبرأيه فإن الوثيقة لا تزال تقر بالذمية معتبرة إياها وضعا وليست عقدا على خلاف ما أوجبه الفقه الإسلامي الحديث من أن الذمية عقد وليست وضع، على عكس المراجعات التي تكتفي بتوصية المسلمين بمعاملة طيبة للأقباط مع تقديم النصح للنصارى بعدم استفزاز المسلمين! كما تذكر أن “المعاملات التجارية تجوز بين الطرفين”. متساءلا: كيف يمكن قبول مثل هذه الاجتهادات التي لا ترقى للحد الأدنى من متطلبات الدولة الحديثة؟ هل لمجرد أنها تعبر عن تغيير طرأ على أفكار القائمين عليها؟ وهل يتحمل الأقباط الأمر مرتين: الأولى وقت وقوع العنف، والثانية عند التراجع عنه؟!.
وأكد فوزي في السياق ذاته أن ثمة تصورا كان سائدا بصدد اعتبار أن التعامل مع الأقباط لم يكن جزءا من المشروع الفكري للجهاديين، لكنهم وفي إطار صراعهم المرير مع الدولة أصبح الأقباط أحد ضحاياهم؛ لأنهم اعتبروهم موالين للحاكم الكافر، قائلين إن الكافر لا يعصم ماله ونفسه إلا بعهد وإن الجزية لم تسقط عنهم وإنما أسقطها الخديوي سعيد.
وعلى العكس من ذلك، أكد ضياء رشوان أن الحركة الجهادية جزء لا يتجزأ من الحركات الدينية التي تهتم بعلوم العقيدة أولا، وأنها لا تهتم بالفقه إلا بما يؤدي لتصحيح العقيدة في المحل الأول والأخير، فقضيتها الرئيسية هي: تعبيد الناس لربهم، وهو أمر معتمد في أدبيات هذه الحركات في آسيا وأوروبا وإفريقيا. وعلى العكس من ذلك، تهتم الحركات غير الجهادية بالشريعة وتطبيقاتها فمقصودها تطبيق برنامج وليس أسلمة المجتمع.
وتساءل رشوان: هل نحن أمام خطوة واحدة أم عملية تشبه ما قامت به الجماعة الإسلامية؟. مؤكدا في إجابته عن هذا التساؤل أن المراجعات خطوة عملية وسيتلوها خطوات أخرى، ومن ثم فهي ليست من قبيل التراجعات كما وصفها البعض؛ لأن المراجعات تضم في مجملها عمليات أربعة: اثنتان تتعلقان بالماضي وهما: إجراء نقد عميق للأنساق الفكرية العتيقة والتي كانت تحكم هذا الفضاء في الماضي، ويتواكب مع ذلك نقد جملة الممارسات العملية التي كانت تتم وفقا لذلك السياق الفكري/العقائدي. واثنتان تتعلقان بالمستقبل: الأولى، بناء نسق فكري طموح يطرح رؤية جدية ويرسم في المقابل مشهدا آخر، ويرتبط بذلك ممارسة عملية تتوقف على المسموح والممنوع في الفضاء السياسي العام.
ووفقا للعمليات الأربعة السابقة، يمكننا الحديث عن مراجعات وليس تراجعات وأيضا يمكننا القول بتفرد الحركات الإسلامية المصرية في هذا السياق، لأن ما حدث في الجزائر والسعودية من تخلي الآلاف والمئات عن العنف لم يكن في حقيقة الأمر سوى تراجعا وليس مراجعة.
وعن مدى التطور الذي حدث في فكر سيد إمام، يؤكد رشوان أنه في وثيقته هذه يبحث في الفقه، وليس العقيدة كما كان شأنه في كتابيه العمدة والجامع، اللذين بدأهما بمباحث في العقيدة، ففي كتابه “العمدة في إعداد العدة” أقر إمام بالاستضعاف داعيا إلى الإعداد للجهاد من أجل التغلب على هذا الاستضعاف، أما في الوثيقة فينطلق من نفس النقطة لكن من أجل أن يجعلها حدا لإسقاط فرض الجهاد.
أيضا كان في كتابيه السابقين لا يشير إلى الواقع وإنما ينتقل من انص إلى النص، وهذا هو شأن الجهاديين الذين يتحدثون في المطلق، أما في الوثيقة التي بين أيدينا فإنه تنطلق من الواقع للفقه ومن الفقه للواقع، أي أنه يعود إلى فقه الوقع شأنه في ذلك شأن كبار الفقهاء.
وأشار رشوان إلى أن الأفكار لا تولد كبيرة وناصعة، وإنما تبدأ وتتطور وسيد إمام بدأ مؤلفاته بالعمدة عام 1988، ويناقش فيه قضية الجهاد ثم كتب الجامع 1993 وهو كتاب موسوعي يتعلق بكل مجالات العلوم الإسلامية، والآن يكتب وثيقة كلية تتناول ترشيد الجهاد وتقترب من قضايا أخرى مما سيأتي دوره في المستقبل بما يعني أنها ليست جامعة وأن تحميلها أكثر مما تحمله هو “تنطع”!.
وعن مستقبل الجماعة بعد المراجعات، أكد رشوان أنه يمكن العودة للتاريخ الإسلامي لمعرفة مصير التيارات المشابهة، حيث ظهرت أفكار الغلو مع غزو التتار للعالم الإسلامي وقبلها وقت الفتنة الكبرى، وأدت إلى مقتل صحابة وخلفاء وعلماء قبل أن تختفي تدريجيا. وأن الجماعات الجهادية إنما تصاعد وتيرتها ثم لا تلبث أن تتراجع عن أفكارها مرة أخرى وتدخل في عملية تنتهي بزوالها، وأن أقصى وقت عاشته من قبل كان 60 عاما، عندما شكل الخوارج دولة في جبل نفوسة في ليبيا! وأنه قبل ظهور هذه الجماعات في مصر لم يكن لأي منها وجود طوال مائتي عام، ومن الواضح أنها تعيش لحظاتها الأخيرة الآن.
وفي الختام وصف رشوان المراجعات بأنها تمثل نقلة نوعية في فكر الحركات الجهادية وأن علينا عدم استباق أحكام الفشل مقدما في انتظار الخطوات التي ستحدث فيما بعد.
Share this Post