يعرب مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عن أسفه الشديد للتصريحات الصادرة مؤخرًا عن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، والتي تهدر أحد الحريات الأساسية، والحرية الدينية، وتُعد مساهمةً خطيرة في تغذية الفكر والخطاب المتطرف العنيف، وفى إضفاء المشروعية الدينية على بعض جرائم التنظيمات الإرهابية. إن مركز القاهرة إذ يقدر المكانة الرفيعة للشيخ الجليل ومؤسسة الأزهر الشريف، فإنه يدعوه للمراجعة الفورية لهذه التصريحات والتخلي عنها. في ضوء الهجمات الإرهابية –بالغة الوحشية– التي استهدفت في الأسبوع الأخير من شهر “رمضان” الحرم النبوي وعدة دول إسلامية أخري، فإن المؤسسات الدينية الحكومية، خاصةً في مصر والملكة العربية السعودية، تتحمل مسئوليات تاريخية مضاعفة في نقد ومراجعة خطابها.
في إطار مناقشة موقف الإسلام من المرتد خلال حلقتين من برنامجه الرمضاني التليفزيوني (الإمام الطيب)؛ قال شيخ الأزهر أن جمهور الفقهاء القدماء يعتبرون أن الردة جريمة تهدد الإسلام والمجتمع الإسلامي وعقوبتها الاستتابة أو القتل، وأشار إلى أن الفقهاء المعاصرون يؤكدون أيضًا أنها جريمة ولكن عقوبتها التعزير، وهي عقوبة قد تكون بالقتل. المفارقة أن شيخ الأزهر يزعم أنه لا يوجد تعارض بين الإقرار قولًا “بحرية الاعتقاد” و”بحقوق المواطنة”، وبين إباحة قتل “المواطنين” لتغييرهم “معتقدهم” الديني. وهو فى هذا يناقض النص القرآنى المقدس ذاته، الذي ينص فى إحدى آياته على أنه “لا إكراه في الدين”؛ ويطالب شيخ الأزهر العالم الاسلامى بأن يطبق مبدأ مخالفًا للقرآن نفسه، أى الإكراه فى الدين! فالشيخ يرى أن “حرية الاعتقاد شيء، وحرية الارتداد عن معتقد دينى بعينه هو شيء آخر”.
يُلاحظ أن الأزهر يتبنى خطابين متناقضين، أحدهما منفتح، موجه للتصدير الخارجى، والثانى يدعم التطرف العنيف، موجه للاستهلاك الداخلى. إذ بينما سعت الدبلوماسية المصرية إلى الترويج لدور غير مفهوم لمؤسسة الأزهر في المحافل الدولية فى مكافحة الارهاب؛ خلال رئاسة مصر لمجلس الأمن في مايو 2016، وبينما يؤكد خطاب شيخ الأزهر نفسه في مارس 2016 أمام البرلمان الألماني، بوضوح لا لبس فيه على أن حرية العقيدة مكفولة في القرآن بنص صريح، يدلي شيخ الأزهر ذاته فى القاهرة بتصريحات معاكسة تمامًا.
في الاتجاه المؤسف ذاته، أعرب الشيخ الطيب عن عدم اكتراثه بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. إذ يقول الشيخ أن مفاهيم حقوق الإنسان ملغومة بقنابل موقوتة، وأن ثقافة المجتمعات الغربية تختلف مع ثقافة المجتمعات الإسلامية. يستلفت النظر أن الموقف السلبي الذي عبّر عنه شيخ الأزهر، هو مجرد “مباركة” لتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي الصادرة في مايو الماضي خلال اجتماعه مع وفد من الكونجرس الأمريكي وقبلها فى مؤتمر صحفى مشترك مع الرئيس فرنسا فرانسوا هولاند. المثير للدهشة أن تصريحات الرئيس والشيخ تتماهى مع خطاب جماعة الإخوان المسلمين، التي تناصبها الدولة المصرية ومؤسسة الأزهر العداء، وتتهمها بالتطرف.
إن مركز القاهرة إذ يدعو شيخ الأزهر لمراجعة موقفه العملى، وموقف المؤسسة الدينية التي يرأسها، من قيم ومبدأ الحرية الدينية، وكذا الموقف السلبي من المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، ويدعوه لاستلهام اجتهادات الفقهاء والباحثين الذين انتصروا لحقوق الإنسان وحرية الضمير[1]؛ فإنه يؤكد على التالي:
- إن محاربة الإرهاب والأفكار الدينية المتطرفة، لن يتم إنجازها بالتوجه للغرب والمؤسسات الدولية بخطاب ديني منفتح يدعو للسلام العالمي واحترام الحقوق والحريات؛ فيما يتم الترويج داخليًا لأفكار تساهم في نشر التطرف العنيف عبر الإعلام والمناهج التعليمية الأزهرية ومنابر المساجد.
- إن تجديد الفكر والخطاب الديني الإسلامي أمر لا مفر منه للحاق بركب الحضارة الحديثة وللحفاظ على السلام المحلي والعالمي، والحفاظ على تماسك الدولة المصرية. وهذا لن يتم إنجازه سوى بجهود فقهاء مجددين يتمتعون بالشجاعة ويؤمنون بحرية الإنسان ويرفضون التحكم في مصيره باسم الدين أو يحتكرون حقه في الحياة والتفكير باسم الفقه القديم، ويدركون الحاجة الماسة لتوافق الفكر والخطاب الديني مع روح العصر، وذلك بمشاركة المثقفين ومنظمات المجتمع المدني والمدافعين عن حقوق الإنسان.
- تجديد الفكر والخطاب الديني لن يتحقق بالوثائق الدعائية الهادفة للترويج لحاكم بعينه أو للاستهلاك الإعلامي الدولي. لا بد من الشروع فورًا في تنقية مناهج التعليم الديني، من الفتاوى المتطرفة المعادية لحرية وحقوق الإنسان، وإعادة تأهيل دعاة وخطباء المساجد، وإيقاف التحريض على كراهية غير المسلمين والمعارضين السياسيين السلميين والمدافعين عن حقوق الإنسان والحرية الدينية، والتواطؤ في الوقت نفسه على الخطاب المتطرف العنيف.
- من الضرورى أيضًا أن يكون الخطاب السياسى للرئيس السيسي حول تجديد الخطاب الديني متسقًا مع ممارسات الرئيس ذاته. إذ تشهد مصر ارتفاعًا ملحوظًا في وتيرة قضايا ازدراء الأديان التى يحيلها النائب العام، المعيّن من خلال الرئيس نفسه، إلى المحاكم، وصدرت فيها أحكامًا بالإدانة. ففي بداية العام الحالي تم تأييد حكم بالسجن لمدة عام على الباحث الشاب إسلام البحيري الذي لبى دعوة السيسي لضرورة تجديد الخطاب الديني! كما صدر حكم بالسجن بحق الشاعرة فاطمة ناعوت لانتقادها ذبح الحيوانات في عيد الأضحى. ولم يحدث أن لجأ الرئيس لاستخدام سلطته الدستورية لإصدار قرارات بالعفو عن المدانين بانتقاد الفكر والخطاب الدينى المتطرف. كما أن الرئيس لم يظهر أدنى اهتمام –وهو يقوم بإصدار مئات التشريعات في غيبة البرلمان– بإلغاء مواد قانونية تسمح بالسجن في قضايا الرأي، أو يُحاكَم على أساسها العديد من المواطنين بازدراء الدين. إن مركز القاهرة إذ يدعو الرئيس إلى العفو عن سجناء الرأي المتهمين بازدراء الأديان وغيرهم؛ فإنه يدعو البرلمان إلى إلغاء المادة (98و)، سيئة السمعة، من قانون العقوبات.
-
[1] على سبيل المثال:
- التكفير بين الدين والسياسة، د. عبد المعطي بيومي، ١٩٩٩
- الأصوليات الإسلامية وحقوق الإنسان، 1999
- نحو إصلاح علوم الدين، علاء قاعود، 2000
- الإصلاح السياسي في محارب الأزهر والإخوان المسلمين، عمار على حسن، ٢٠٠٦
- حقوق الإنسان والخطابات الدينية، سيد إسماعيل ضيف الله، ٢٠٠٦
Share this Post