تعلن منظمات حقوق الإنسان عن رفضها المطلق للمشروع الجديد لقانون الجمعيات الأهلية، الذي أعدته وزارة التأمينات والشئون الاجتماعية، والذي يستهدف تأميم المجتمع المدني، من خلال تنظيمه كما لو كان أحد الأجهزة الإدارية للدولة، واعتبار العاملين فيه موظفون لدى الدولة، فضلاً عن تبني القانون لعدة قيود تعسفية جديدة، تسعى إلى إرهاب نشطاء المجتمع المدني.
إن مشروع القانون هو امتداد للفلسفة ذاتها التي تقوم على تشديد الحصار على منظمات المجتمع المدني بشكل عام، وخنق منظماته الحقوقية بشكل خاص، بدرجة تفوق كافة القوانين القمعية للمجتمع المدني السابقة منذ صدور القانون 32 لعام 1964، يستهدف القانون تقويض الهامش المحدود المتاح لنشاطه، فضلاًَ عن جعل عاقبة تأسيس منظمات أهلية باهظة، بما يكبح حماس المواطنين لتأسيس هذه المنظمات أو المشاركة في نشاطها. وتؤكد المنظمات الموقعة تمسكها بمشروع القانون الذي سبق أن قدمته للجنة حقوق الإنسان بالبرلمان في يناير هذا العام.
أبرز ملامح مشروع القانون الجديد المقترح من الحكومة:
أولاً: تعكس فلسفة مشروع القانون طموح الحكومة في دمج منظمات المجتمع المدني ضمن أجهزة الدولة، ولذا فإن القانون يعتبر موظفي هذه المنظمات من موظفي الدولة. ذلك على عكس فلسفة ومفهوم المجتمع المدني في المجتمعات الديمقراطية، الذي يعد قطاعًا مستقلاً عن الحكومة، يعمل بحرية من أجل القيام بالخدمات التي تعجز الدولة عن القيام بها.
ثانيًا: بناءً على هذه الفلسفة التي تفتقر لأي أساس أو مرجعية علمية، يعتبر مشروع القانون أعضاء مجالس إدارة الجمعيات والمؤسسات الأهلية والاتحادات المنبثقة عنها وموظفيها في حكم الموظفين العموميين!!! يصطدم ذلك التصنيف الشاذ بمفهوم الموظف العام في الفقه وأحكام القضاء المصري، والذي عرف الموظف العمومي بأنه كل شخص يعهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة، أو أحد أشخاص القانون العام، عن طريق شغله منصب يدخل في التنظيم الإداري لهذا المرفق. لذلك فإنه يشترط لاكتساب تلك الصفة أن يعمل الشخص في خدمة مرفق عام تديره الدولة عن طريق الاستغلال المباشر. ولذا فإنه حتى في مفهوم القانون المصري، تعتبر الجمعيات والمؤسسات الأهلية من أشخاص القانون الخاص -مثلها مثل الشركات- لأنها ليست مرفق عام تديره الدولة، ومن ثم فمن غير المنطقي أن تكون أموالها أموالاً عامة، ولا القائمين على إدارتها موظفين عموميين.
ثالثًا: بناءً على التوجه التسلطي لمشروع القانون الذي يعتبر الجمعيات الأهلية جزء من الهيكل الإداري للدولة، فإن مشروع القانون يمنح الحكومة الحق في التدخل في تنظيم أدق شئون الجمعية (كتكوين الجمعية العمومية وطريقة الدعوة لعقدها ومواعيد اجتماعاتها، وكيفية انضمام الأعضاء وانسحابهم، وتشكيل أو انتخاب مجلس الإدارة، وموعد اجتماعه، واختصاص كل من أعضائه –باللائحة التنفيذية- ومهام كل عضو من أعضائه، وصولاًَ إلى حق الحكومة في حل مجلس إدارة الجمعية)، وهو ما يتناقض بشكل صريح مع منطق المجتمع المدني، القائم على أن الجمعية الأهلية هي بالأساس التقاء لإرادة مؤسسيها، وأنها تنظم أمور عملها وفقًا لرؤية أعضائها وليس الحكومة.
كما يمنح مشروع القانون الحكومة حق تقديم طلب للقضاء بحل الجمعية، إذا رأت الحكومة أن الجمعية عاجزة عن تحقيق الأغراض التي أنشئت من أجلها….، وهى صياغة مطاطة وغامضة. تتيح للحكومة إحالة أي جمعية لا ترضى عن نشاطها في أي وقت إلى القضاء وطلب حلها، فضلاً عن أن الجهتين الوحيدتين اللتين لهما حق تقييم نشاط الجمعية، أو ما إذا كانت تحقق أغراضها أم لا، هما الجمعية العمومية وجمهور المستفيدين من خدمات الجمعية. وفي كل الأحوال من المثير للسخرية تصور أن الوطن وأمنه القومي ومصالحه العليا ستتعرض للخطر، بسبب أن جمعية عجزت عن تحقيق أغراضها!!
رابعًا: أفاض المشروع في الأنشطة المحظور على الجمعيات والمؤسسات الأهلية ممارستها، وكان من الغريب أنه حظر على الجمعيات إجراء البحوث الميدانية. فقد جاء المشروع بصياغة هذا الحظر بشكل فضفاض، بما يضع كافة البحوث الميدانية واستطلاعات الرأي، أياً كان نوعها ضمن الأنشطة المحظورة.
يعيق هذا الحظر الجمعيات والمؤسسات الأهلية التي تعمل وفق أسس منهجية وعلمية، ذلك عن طريق إجراء بحوث ميدانية حول طبيعة النشاط التي ترغب الجمعية في خدمة المجتمع من خلاله. فعلى سبيل المثال إذا كان من أغراض الجمعية العمل على حل مشكلة التسرب من التعليم، فإنها ستحتاج في سبيل ذلك إلى إجراء بحوث ميدانية حول هذه المشكلة لمعرفة أسبابها، لكي يسهل عليها العمل على حل تلك المشكلة. كما لها أيضا في سبيل ذلك إجراء استطلاعات رأي حول كيفية حل تلك المشاكل، بما يضمن مشاركة فعالة للمجتمع في حل هذه المشاكل.
خامسًا: يحظر مشروع القانون الأنشطة الحقوقية التقليدية، مثل دعم المطالبة بحقوق أصحاب مهنة معينة في مواجهة أصحاب الأعمال، سواء كان العاملون بالقطاع العام أو الخاص. وبالتالي عدم تقديم المساعدة القانونية للعاملين الذين تتعرض حقوقهم للعسف، أو التضامن مع العاملين المنتهكة حقوقهم في العمل.
يبتكر المشروع محظورات إضافية؛ حيث ينص بعبارات مطاطة على حظر “القيام بأي نشاط سياسي آخر إيجابي أو سلبي تقتصر ممارسته على الأحزاب السياسية”. وتقدم هذه الصياغة الغامضة مدخلاً للعصف بحق الجمعيات والمؤسسات الأهلية في إبداء آرائها –من منظور المجتمع المدني- في قضايا عديدة تهم الرأي العام.
سادسًا: يُبقي مشروع القانون على السلطات التحكمية التي تتمتع بها الحكومة في القانون الساري، في منح شهادة الميلاد للجمعيات الأهلية، وذلك باشتراط الحصول على التصريح المسبق من جهة الإدارة. كما يفرض قيودًا تحكمية على حق أعضاء الجمعية في وضع قواعد النظام الأساسي المؤسس لها.
كما رفع مشروع القانون الحد الأدنى لعدد الأعضاء المؤسسين للجمعيات إلى عشرين عضوًا، أي ضعف ما هو مقرر بالقانون الساري. الأمر الذي يعرقل حق المواطنين في تكوين الجمعيات. كما اشترط عند تأسيس المؤسسات الأهلية تخصيص مبلغ لا يقل عن مائة ألف جنيه، بينما لا يشترط القانون الساري مبلغ محدد. بهذا يكاد يقصر مشروع القانون الحق في إنشاء المؤسسات الأهلية على رجال الأعمال دون غيرهم.
سابعًا: حظر المشروع على الجمعيات جمع التبرعات والحصول على أموال من الخارج إلا بعد أخذ تصريح من الحكومة، الأمر الذي يؤدي لنتائج وخيمة على نشاط المجتمع المدني. حيث أنه لا تتوافر مصادر تمويل كافية في الداخل، بما يساعد الجمعيات الأهلية على القيام بأنشطتها. فضلاً عن أن مشروع القانون لم يعط أي حوافز للشركات التجارية المصرية ورجال الأعمال، إذا ما أرادوا التبرع للجمعيات الأهلية، كخصم هذا التبرع من الوعاء الضريبي لها على سبيل المثال، مثلما تفعل كثير من دول العالم. كل ذلك يؤدي إلى تضييق الخناق على المجتمع المدني، من خلال فرض حصار على مصادر تمويله من الداخل والخارج.
ثامنًا: يكرس المشروع أيضا لذات فلسفة الوصاية والهيمنة الإدارية، فيما يتعلق بائتلاف الجمعيات في اتحادات نوعية، ويفرض مشروع القانون اتحاد نوعي مركزي على الجمعيات الأهلية، بل وبادر بتحديد اختصاصات هذه الاتحادات بالمخالفة للمبادئ الديمقراطية، التي تفترض أن الاتحادات تنشأ بإرادة طوعية من قبل الجمعيات التي ترغب في إنشائها، وأن هذه الجمعيات هي التي يتعين أن تحدد بنفسها ماهية الصلاحيات والاختصاصات التي يمارسها الاتحاد المنبثق عن إرادتهم المستقلة.
تاسعًا: يحرم مشروع القانون الجمعيات والمؤسسات الأهلية من الانضمام والانتساب إلى أي شبكات دولية إلا بعد موافقة الحكومة. هذا المنع يخل بالمعايير الدولية لحرية التنظيم، التي تتيح للجمعيات أن تستقي الخبرات وتدخل في تحالفات دولية من أجل الدفاع عن قضايا وطنية وإقليمية ودولية. ترك مثل هذا الأمر لموافقة الحكومة سيتيح لها التعسف في مواجهة الجمعيات. كان على المشروع أن يضع معيارًا عمليًا للتعامل مع هذا الأمر، مثل أن يحدد المنظمات الأجنبية المحظور الانضمام إليها.
عاشرًا: يكرس مشروع القانون ذات العداء الذي تكنه تشريعات المجتمع المدني المتعاقبة منذ 1956، تجاه أية مؤسسات تمارس أنشطة تندرج في إطار النشاط الأهلي، وتختار أية أشكال قانونية أخرى لعملها، في إطار القانون المدني أو قانون المحاماة، أو في إطار أي قانون آخر، حيث يحظر مشروع القانون أي شكل قانوني أخر باستثناء الجمعية أو المؤسسة الأهلية
حادي عشر: يتعامل مشروع القانون مع المواطنين النشيطين في المجتمع المدني، باعتبارهم مجموعة من المنحرفين المحتملين أو المشتبه بهم، إلى أن يثبت عكس ذلك، إذ يمنح القانون صفة الضبط القضائية لممثلي الحكومة عند تفقدهم مقار الجمعيات. مما يمنحهم سلطة إحالة أي من مرتكبي المخالفات في الجمعية في التو إلى النيابة العامة مباشرة، بمجرد تحرير محضر بذلك.
أبقى المشروع على العقوبات السالبة للحرية المنصوص عليها في قانون 84 لسنة 2002، بل ورفع الحد الأقصى للعقوبة بالنسبة للحبس والغرامة، فضلاً عن إمكانية اللجوء لعقوبات أشد في قانون العقوبات أو أي قانون آخر. بل أضاف مشروع القانون أفعالاً جديدة لم يكن معاقب عليها في القانون 84 لسنة 2002. إن إدخال عقوبات جنائية في قانون ينظم نشاط أهلي، هو أمر من شأنه إرهاب النشيطين في المجتمع المدني، أو الذين يتطلعون لدعمه، أو المشاركة في أنشطته. حيث يتعين أن تكون العقوبات التي توقع على الجمعيات الأهلية عقوبات ذات طبيعة إدارية. إلا أن إقحام العقوبات السالبة للحرية وزيادتها، فضلاً عن الغرامات المالية الضخمة هو انعكاس لفلسفة القانون التي توضح أن الدولة تقف بالمرصاد للمجتمع المدني. وتتعامل معه كخصم غير مرغوب فيه.
يفاقم من الطبيعة الإرهابية للقانون، أنه اعتبر أموال الجمعيات والمؤسسات الأهلية أموالاً عامة، وأن القائمين على إدارتها موظفين عموم. وهو ما يمكن أن يؤدي إلى المزيد من تنفير المواطنين من تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية، فإسباغ هذه الصفة على أموال الجمعيات والقائمين على إدارتها من شأنه توقيع عقوبات قاسية، على أية مخالفات إدارية لأحكامه، قد تصل إلى الأشغال الشاقة المؤقتة.
ثاني عشر: انسجامًا مع هذا التوجه القمعي، ينص القانون على أن من يمثل الحكومة في التعامل مع المجتمع المدني، لا ينحصر بوزارة الشئون الاجتماعية والتأمينات، وذلك حين يشير إلى أن التصريح الحكومي في عدد من الأمور الحيوية، هو في يد ما يسميه “الجهات المعنية”! وبذلك يعد هو أول قانون للجمعيات الأهلية في مصر يكشف عن دور الأجهزة الأمنية في التحكم في أنشطة الجمعيات والمؤسسات الأهلية، ويضفي غطاءً قانونيًا على هذا الدور.
أخيرا: إن المنظمات الموقعة تؤكد رفضها المطلق لهذا القانون، وتحث لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان على تبني مشروع ديمقراطي يعلي من قيمة العمل الأهلي، خاصة وأن القانون المقترح من وزارة التأمينات والشئون الاجتماعية يتعارض مع التزامات مصر بمقتضى الاتفاقيات الدولية التي صدقت عليها، وخاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب. وتحذر البرلمان من أن نجاح الحكومة في تمرير القانون سوف يشكل سبة في جبين البرلمان، الذي يوصف “ببرلمان الثورة”! وخاصة أن ذلك يأتي بعد تقديم حزب الأكثرية في البرلمان لمشروع قانون قمعي للحق في التظاهر والتجمع السلمي، ورفض مشروع قانون الحريات النقابية الذي كان قد أعده وزير القوى العاملة السابق في الصيف الماضي، بالتشاور مع المنظمات الحقوقية.
المنظمات الموقعة
|
Share this Post