محمد سيد سعيد
جريدة الأهرام، 19 مارس 2007
كان للفقراء نصيب كبير في النظام الاقتصادي الذي أسسته ثورة يوليو، وشكلت هذه الحقيقة أحد أهم منابع مشروعيتها السياسية والاجتماعية، وسوف تستمر في إبرازها باعتبارها واحدة من أهم الثورات في جنوب العالم، كما سوف تستمر في إبراز الرئيس ناصر مهما تكن أخطاؤه كأحد أعظم الزعماء في تاريخ مصر الوطني عبر التاريخ، وفي المستقبل القريب والبعيد على السواء، بعض هذا الإرث بقي، بل تأكد في دستور 1971.
ومن المهم أن نرصد حقيقة أن التعديلات الدستورية حافظت على جانب مهم من هذا الإرث، فبرغم أن هذه التعديلات أزالت كل ما له صلة بلفظة الاشتراكية، فقد تمسكت ببعض أهم منجزاتها في التاريخ الاجتماعي للبلاد.
والواقع أن هذه التعديلات هي مجرد اعتراف بالأمر الواقع، حيث انتقل النظام الاجتماعي إلى الرأسمالية رسميا بعد أقل من أربع سنوات من صدور دستور1974, وأخذت الرأسمالية تصنع لنفسها سيادة وقوة وصلت أخيرا إلى مستوي عصف بالقاعدة المؤسساتية للتجربة الناصرية بخصخصة معظم شركات القطاع العام. وكان عقد السبعينيات قد شهد تصفية القاعدة الفكرية لهذه التجربة ممثلة في التخطيط وفكرة الملكية غير المستغلة، وفكرة إذابة الفوارق بين الطبقات التي تشكل أساس تحالف قوي الشعب العاملة كقيادة اجتماعية لتجربة النهوض الوطني في العصر الناصري.
كانت هذه الأفكار الاشتراكية قد مكنت مصر من تأسيس تجربة متكاملة، وإن لم تكن ناجحة تماما لتأسيس ما يعرف الآن باسم السوق الاجتماعية. وتكامل مع هذه الأفكار بعض أبرز ما نادي به الفكر الدولي حتى في نطاق الرأسمالية ومن داخل مؤسسات النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي القائم، وبالذات ما نادي به البنك الدولي في عقد الثمانينيات باسم التنمية الإنسانية أو البشرية، ويملي هذا النموذج للتنمية التركيز على التعليم والتصنيع والتدريب والضمان الاجتماعي والعلوم والتكنولوجيا والإبداع الجمالي والتعبيري وغيرها من الأفكار ذات الجذور الاشتراكية الواضحة، وكانت الناصرية تؤمن بأن هذه الأفكار يمكن أن تنهض فقط على نموذج للاقتصاد يقوم على التصنيع والاعتماد على التراكم المحلي والسيطرة على المحركات الأساسية للاقتصاد خاصة الأسعار والأجور والادخارات والاستثمارات وما يرتبط بها من نظام للصرف الأجنبي، وسجلت معظم هذه الأفكار في الدستور، خاصةً دستور 1971 بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
حقيقة أن التحولات العاصفة في التوجهات الاقتصادية والاجتماعية وقعت بالرغم من نصوص دستورية واضحة ولا لبس فيها يجب أن تلفت النظر، وبرغم كثرة التحليلات في الأدبيات المصرية والأجنبية فإننا لا نزال نحتاج إلى فهم أفضل وتفسير أكثر شمولية ودقة لما وقع، وبالتحديد لهذه المفارقة الممتدة زمنيا بين دستور له توجه اشتراكي وممارسات وسياسات بعدت كثيرًا عن الاشتراكية، ويهمنا هذا التفسير أيضًا لفهم التحولات في نصيب الفقراء والطبقات الشعبية عموما خلال مسيرة هذا الدستور.
لنفكر فيما قال به بعض الفقهاء الدستوريين والسياسيين: إن الدستور لم يكن هو المرجع والحكم في صنع السياسات والتوجهات السياسية الكبري للبلاد، لكن هناك مشكلة أهم قد تسهم كثيرا في تفسير التحولات في نصيب الفقراء في الدستور، وهي أن حقوق الفقراء في الدستور تباينت بين درجات مختلفة من الوضوح، وبعض الحقوق المخصصة للفقراء لم تكن واضحة ولم تتوافر لها آليات يمكن الرقابة على الوفاء بها أو الدفاع عنها أو ترجمتها إلى سياسات وتدابير محددة. وعلي الدرجة نفسها من الأهمية لم يتوافر من يرصدها ويتابعها بدقة وبصورة منهجية ويبحث بدأب والتزام وتصميم لا يلين على الدفاع عنها، وقد يفسر ذلك أنها بقت في الدستور دون اقتراح بتعديلها أو إزالتها لأن المسألة لم تلح على الحكومة أو تلزمها بشيء على المستويين الدستوري والعملي.
وعلي سبيل المثال انظر للمادة 7 التي تقول: إن المجتمع يقوم على التضامن الاجتماعي، بقت المادة دون تعديل بالرغم من إزالة لفظة الاشتراكية لأنها تفتقر إلى الوضوح فيما تعنيه من التزامات محددة للدولة نحو الفقراء، وانظر أيضا للمادة10 التي تلزم الدولة بحماية الأمومة والطفولة ورعاية النشء والشباب، وتوفير الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم.
حقيقة إن لدينا مئات الآلاف أو ملايين من أطفال الشوارع تعني أن الدولة حلت نفسها من هذا الالتزام الدستوري لأنه لم ينص على آليات أو منهجية أو نتيجة محددة، وانظر أيضا لنص المادة 13 التي تنص على أن العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة، ومن حقك أن تتساءل عما حدث بحيث صار لدينا ملايين من العاطلين عن العمل، وتفسير نكوص الدولة عن هذا الالتزام برغم وضوحه، فهو بنهاية المطاف يعني أن توفر الدولة وظائف لمن لا يجدها، وهو ما لم تفعله الدولة، وما لم يناضل العاطلون ولا مؤسسات المجتمع لإلزام الدولة به، بل حاول التفكير فيما يعنيه الإبقاء على هذه المادة بما تحمله من التزامات لم تطبق منذ ثلاثة عقود.
والأدهى إلى حد ما أن تتأمل المادة 14 وحاول أن تقرأ دلالاتها مع نص المادة 40 وهما معًا تعنيان أن تكفل الدولة أن يحصل المواطنون على الوظائف العامة وفقًا لنظام يضمن تكافؤ الفرص بين جميع المؤهلين لطبيعة هذه الوظائف. وقد وقع اختراق أشد خطورة على نسيج المجتمع منذ صدور الدستور. فالواسطة هي الأسلوب الأساسي للحصول على الوظائف، ونجد تعبيرًا فريدًا عن الواسطة في مصر بالذات، خاصةً في بعض المهن الأساسية مثل الصحافة والتدريس الجامعي والطب، وهو توريث الوظائف. ويبدو الغموض الكامن في صياغتي هاتين المادتين أحد أهم أسباب انتهاكهما الصريح، وأمام أعين الجميع، لكن ثمة سبب آخر هو أن المجتمع المدني بتنظيماته ومؤسساته لم يدافع عنهما بما يكفي لوضع نهاية لانتهاكهما الصريح الذي يعانيه الفقراء وبسطاء الناس بكل شدة.
ويصدق ذلك أيضًا على المادة 38 الخاصة بعدالة النظام الضريبي، والمادة 56 الخاصة بالحق في إنشاء النقابات والاتحادات، وينتهك القانون الأخير للضرائب الالتزام الأول، لأن معني العدالة في نص المادة غائب، وكذلك يتم انتهاك الحق في تشكيل النقابات والاتحادات في القطاع الخاص بكل فظاظة وقسوة، وبأساليب تحايل إجرامية معروفة من الجميع، ويقع الانتهاك الفعلي هذه المرة بالرغم من الوضوح القطعي لنص المادة، وذلك لأن أحدا بما في ذلك اتحاد العمال لم يدافع عنها، بل لم يقم بأي تحقيق جاد لتقصي الحقائق المعروفة للجميع بخصوص هذه الانتهاكات.
ومع إزالة لفظة الاشتراكية والغموض الكامن في نص عديد من المواد التي تمنح الفقراء والعمال والمرأة والأطفال والضعفاء والبسطاء عموما حقوقا أساسية والافتقار إلى مجتمع مدني فعال يعمل على الدفاع عن هذه الحقوق أهدر في الواقع الفعلي والقانوني كثرة من الحقوق الدستورية وصارت في بعض الأحوال رمزا أو بقية رمز، وأحيانا أخري محض لغو لا يراد له أن يطبق أو أن يطلب أحد تطبيقه، وإذا استمر هذا الحال فقد يبقي بعض النصيب للفقراء، لكن الدستور وليس الواقع وحده يصبح حكرا للأغنياء والمقتدرين والأقوياء.
أعتقد أن على جميع من يؤمنون بالعدالة وبحق الفقراء والبسطاء والعاملين والملاك الصغار في الحياة الإنسانية الكريمة أن يفكروا في التدخل ولو في اللحظة الأخيرة للدفاع عن هذا الحق، ولو بمادة واحدة تضاف إلى التعديلات الدستورية الحالية، وأقترح أن يكون نص هذه المادة كما يلي:
تلتزم الدولة بوضع تشريعات وبرامج عمل تكفل القضاء على الفقر، وتضمن لجميع الفقراء الحق في التعليم الأساسي، والسكن وسط بيئة اجتماعية وثقافية مناسبة، والأمان من العوز والبطالة والشيخوخة، والحماية من جميع صور الاستغلال غير القانوني. كما تكفل الدولة تمكين جميع المواطنين، بمن فيهم العاملون وغير العاملين، من تشكيل اتحادات ونقابات تدافع عن حقوقهم ومصالحهم المنصوص عليها في هذا الدستور، كما تكفل حقهم في اللجوء إلى القضاء لإلزام الجهات الحكومية والخاصة بالوفاء بهذه الالتزامات.
Share this Post