محمد سيد سعيد
14 أغسطس 2006
فجرت الحرب الأمريكية الإسرائيلية الإجرامية أكثر كثيرًا من مساكن الأبرياء والمرافق المدنية وحياة الآلاف. فجرت أيضًا مبدأ الامتثال للقانون الدولي. فكل شيء في هذه الحرب منذ انطلاقها وحتى الطريقة التي قد تنتهي بها ينتهك القانون الدولي. فالحرب ذاتها هي جريمة عدوان وفقًا لتعريف الأمم المتحدة، وشن الحرب ضد السكان المدنيين والمرافق المدنية هو أمر تحرمه مواثيق جنيف، واستمرارها تم بتغطية وبإيعاز الإدارة الأمريكية الشريرة، التي منعت مجلس الأمن من القيام بمهمته في الدعوة لوقف إطلاق النار، وذلك في سابقة غير معهودة، حيث كان المجلس يتبع البديهية التي تقول أن عليه وقف الحروب أولًا قبل أن ينظر في ادعاءات أطرافها وحلفائهم فيما يتصل بقضية إرساء أسس السلام المستمر، ومن الواضح تمامًا أن الإدارة الأمريكية نسيت هذا التقليد الدبلوماسي الراسخ، لأنها شاءت أن تمنح إسرائيل يدًا طليقة وهي تشن حربها الإجرامية ضد الشعب اللبناني.
ثم إن طريقة إنهاء الحرب وشروط هذا الإنهاء لا تمتثل للقانون الدولي ولا فطرة العدالة، فقد تم دبج مشروع القرار الفرنسي الأمريكي السابق بعيدًا تمامًا عن هذه الفطرة وعن وجهة نظر الحكومة اللبنانية، وعلي حد تعبير السيد حسن نصرالله منح هذا المشروع إسرائيل أكثر مما كانت تطلبه. أما القرار الحالي 1701 فقد استجاب للضغوط اللبنانية والعربية، وعكس قدرًا أكبر من الواقعية؛ بأن أخذ في الاعتبار صمود حزب الله والشعب اللبناني واستحالة تحقيق إسرائيل أغراضها المدمرة بوسائل الحرب، ولكنه مع ذلك منح إسرائيل كثيرًا مما تطلبه لقاء عدوانها على لبنان على عكس ما تمليه الاعتبارات القانونية التي تعاقب على جريمة العدوان، خاصةً الاستهداف القصدي للمدنيين والمرافق المدنية. ولم يذكر سوى مسئول ممن تحدثوا في جلسة مجلس الأمن بخصوص القرار 1701 وهو وزير خارجية قطر لفظة التعويض الذي هو حق للشعب اللبناني مقابل الدمار الذي ألحقته إسرائيل ببلاده وبصورة قصدية.
لم تكن هذه هي الحرب الأولى التي تم شنها ضد الأهداف المدنية بصورة عمدية، وحيث أن الإدارة الأمريكية الشريرة ذاتها وعدتنا بشرق أوسط جديد فبوسعنا توقع أن تتكاثر حروبها وحروب إسرائيل في المنطقة. وبوسعنا أيضًا أن نؤكد أن إسرائيل لن تطبق قرار مجلس الأمن الأخير قبل أن تحاول استكمال تصفية قوات حزب الله في الجنوب والذين تتصور أنها أوقعتهم في الحصار.
سياسة شن الحروب
وحيث أننا سنعيش تحت تهديد شعار الشرق الأوسط الجديد، فعلينا توقع مزيد من الحروب الاقليمية ومزيد من انتهاك القانون الدولي أو الأمل في الامتثال ولو من حيث المبدأ للقانون الدولي. والمرجح أن يفضي هذا كله إلى سقوط خطاب القانون وخطاب حقوق الانسان وبالأخص حقوق الشعوب.
والواقع أن جانبًا كبيرًا من المسئولية عن الانتهاك المستديم لمبدأ حكم القانون (الدولي) يقع على كاهل أمريكا، وبمناسبة إصرارها على منح نفسها وإسرائيل امتيازًا فوق القانون أو حصانة ضد المحاسبة. ولن تتردد أية دولة عن القياس على السوابق الإسرائيلية وعن التمتع بالحصانة نفسها التي تمتلكها إسرائيل وهو ما يعني بالنهاية سقوطًا مدويًا للقانون الدولي وارتداد البشرية كلها إلى البربرية. لكن السؤال هو هل ننتقل بدورنا إلى العمل بالمنطق الذي يمليه سقوط مشروع القانون الدولي: أي منطق القوة، أم يتوجب علينا تحمل مسئولية النضال من أجل استعادة وتنمية مشروع القانون الدولي.
لماذا الدفاع عن القانون؟
ليس في هذا السؤال أي شيء يوحي بالتجريد أو الخيال، فهو منطقي للغاية وهو كذلك عملي للغاية. وعلينا ألا ننسحب أمام التفكير الذي يحذرنا من المبالغة في قدرتنا على تحمل مسئولية عالمية من هذا النوع، أو يري فيها نوعًا من إحياء ثقافة الوهم وربما خداع الشعوب بإثارة أمل غامض بإمكان الحصول على العدالة واستعادة الكرامة الانسانية التي يسحقها الأمريكيون والإسرائيليون من خلال القانون.
ليس في هذه الفكرة أي نوع من التجريد، فالواقع أن مسئوليتنا بعد نهاية هذه الحرب لا تقل عن استعادة وتحريك نظام معقول للعدالة الدولية.
وقبل أي شيء علينا تصحيح الإيحاء الذي يفصل بين النضال من أجل القانون والعدالة الدولية من ناحية واستمراء الضعف أو دور الضحية اليائسة من ناحية أخرى. إن استعادة مشروع القانون الدولي يحتاج بلا مراء إلى قوة، ويجب أن يعني في الواقع الدولي الملموس النضال لإسقاط المشروع الاستعماري العنصري الذي يسعى لفرض هيمنة انفرادية أمريكية على الشئون العالمية. ويحل هذا القول على الفور المفارقة المصطنعة بين ضرورة تنمية ثقافة المقاومة من ناحية والنضال من أجل استعادة القانون الدولي من ناحية ثانية.
هل هذا النضال ممكن؟ إنه ينطلق من رؤية تفاؤلية على عكس العقم التشاؤمي الأمريكي والغربي الذي يفترض أن القوة وحدها هي السبيل للقضاء على فوضى العلاقات الدولية. ولكن هذا المشروع ممكن فقط إذا تمت صياغته بصورة عالمية وتمت الدعوة بنجاح للمشاركة في مسئولياته الكفاحية من جانب جميع الشعوب. ويعني ذلك أن نخوض هذا النضال باعتبارنا بشرًا نهفو للعدالة، وليس باعتبارنا جماعة قومية أو دينية تقبل بالاصطدام مع غيرها من الجماعات القومية والدينية بحكم التمايز أو ادعاء الامتياز. إن مبدأ صراع الهويات والحضارات أو الصراع الديني يعني تحضيرنا لهزيمة مؤكدة، بعد أن يكون قد أوقعنا في خديعة مؤكدة. فما نطلبه ونستحقه هو العدالة وهو المعاملة المتساوية أمام قانون دولي مقبول من الجميع، وهو عكس ما تريده أمريكا وإسرائيل.
وعلينا أيضًا أن نطوي بحسم مرحلة سادت فيها نظرية تكرس الشعور بالتناقض بين الشعوب الغنية والفقيرة، فمستقبل العالم لا يتجزأ. بل يمكن القول ان هذا المشروع ممكن بفضل اقتدار الشعوب الأكثر تطورًا من الناحيتين الاقتصادية والديمقراطية على شن نضالات ناجحة. ولكن هذا لا يقلل من أدوار الشعوب الضعيفة والأقل تطورًا، بل يمنح هذه الشعوب مكانة الصدارة في الدعوة الفعلية لهذا المشروع، وإكسابه قوة دفع حقيقية من خلال الدعوة والقوة الفعلية عندما تتوافر لها وعندما يمكن ممارستها على نحو يتحلى بالمسئولية. إن إهمال هذه الدعوة كان الخطأ الرئيسي الذي وقعت فيه كثير من القوي المناضلة من أجل العدالة بما في ذلك حزب الله. ومن الواضح أنه أصبح لهذه القوي التي تتمتع بشيء من الاقتدار مصلحة عليا في العمل على إشاعة هذه الفكرة.
وبوجه عام، ينمو –متسارعًا– الوعي العالمي بضرورة الدفاع عن الحضارة الانسانية والدفاع عن الأخلاق المدنية، سواء في الغرب أو في معظم مناطق العالم. ويحتاج العمل من أجل تأسيس تحالف عالمي لإسقاط الذهنية والتحالف الذي يشن الحروب الأمريكية الإسرائيلية حاليًا إلى قدر كبير للغاية من الديناميكية والخيال. ولا يجب أبدًا أن نعلن اليأس قبل أن نحاول بجدية شديدة إنجاز المهمة.
المهمة تنطوي على ذاكرة حديدية. فلا يجب أبدا أن نغفر أو ننسي الجرائم المرتكبة في أرض لبنان وفلسطين والعراق وغيرها من الشعوب التي يتم التضحية بها من أجل الهيمنة الانفرادية على العالم، ولكن النصر الحقيقي لن يأت بسبب نية الانتقام، بل يجب أن يتأسس على نية أكثر طموحًا ونبالة بتنمية النضال المشترك من أجل إقامة نظام عالمي يضمن السلام والعدالة معًا.
Share this Post