هل التعذيب يقرب الإخوان من الله؟.. هل صلاتهم لا تنهى عن الفحشاء والمنكر؟.. هل تفسير القرآن لديهم اختلف بعد الوصول إلى الحكم؟
لم أتفاجأ بالوجه القمعى للجماعة وبعض مناصريها.. ولكننى فوجئت بسرعة ظهور وجه «الجلاد»
«إن أجهزة الأمن لا تمارس الفنون والآداب، وإنما تتصدى لكثير من الأعمال الإجرامية»! قائل هذه العبارة ليس ناقدا فنيا للشرطة، بل هو أحد ضحايا تعذيب الشرطة، إن لم يكن بشخصه، فمن خلال قيادات وأعضاء الجماعة التى يتزعمها. إنه راشد الغنوشى الزعيم التاريخى لحركة «النهضة» الإسلامية فى تونس ورئيسها الحالى، الذى طالما انتقد بأعلى صوت ممارسات التعذيب فى ظل النظام السابق، ورفض تبريرات أقوى صدرت عن النظام السابق فى تونس ــ كما مصر ــ بأن الشرطة تواجه إرهابا يهدد حياة الملايين. ولكن الحال اختلف بعد أن وصلت «النهضة» إلى الحكم فى تونس.
خلال شهور قليلة من إمساك جماعة الإخوان المسلمين بمقاليد الحكم (رئاسة الدولة والمجلس التشريعى ومجلس الوزراء) جرى ارتكاب جميع جرائم حقوق الإنسان التى كانت سببا للثورة. بل فاقت فى كثير من الأحيان ما كان يجرى قبل الثورة. مثل القمع اليومى العنيف لأعمال الاحتجاج السياسى والاجتماعى، وإحالة خلال شهور قليلة عدد كبير من الإعلاميين والصحفيين للتحقيق والمحاكمة بتهمة إهانة رئيس الجمهورية، أكثر ممن أحيلوا خلال 30 عاما من عهد الرئيس السابق. وتوجيه ضربات مؤسساتية لاستقلال القضاء، أكثر جسامة مما تعرض له خلال 60 عاما. ووضع دستور يضمن لأول مرة فى الدساتير المصرية محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. ومشروع قانون لتأميم المجتمع المدنى وتصفية منظمات حقوق الإنسان. ومشاركة أنصار وقيادات الحزب الحاكم علنا فى التنكيل بالمحتجين، ومحاصرة مدينة الإنتاج الإعلامى والاعتداء البدنى على الإعلاميين، ومحاصرة المحاكم للتأثير على أحكامها، أو منعها لعدة أسابيع من مباشرة عملها، مثلما حدث مع المحكمة الدستورية العليا، أعلى محكمة فى مصر، وسط تواطؤ جميع وزارات وأجهزة الدولة المعنية، وصمت رئيس الدولة. ولكن الرئيس لم يصمت عندما سقط نحو 40 قتيلا خلال يومين فى يناير الماضى فى مدينتى بورسعيد والسويس، بل أعرب عن تقديره للشرطة، وطالبها بمزيد من الحسم!
هناك مفارقات متعددة فى هذا السياق، ولكن ربما كان أكثرها مدعاة للدهشة، هو أن أنصار الحزب الحاكم من المحتجين الذين قاموا بتعذيب ضحاياهم على سور القصر الجمهورى «الاتحادية» فى 5 و6 ديسمبر 2012، كانوا محتشدين عند أحد أشهر المساجد القريبة من القصر، حيث أدوا الصلوات فى مواقيتها، ثم انطلقوا إلى ساحة الاتحادية لمباشرة التعذيب! غير أن ما يدعو للذهول، هو أن التعذيب الذى مارسه أعضاء وأنصار الحزب الحاكم فى يوم الجمعة 22 مارس، باشروه بعد أن أدوا صلاة الجمعة، بل واستخدموا فى ذلك أحد المساجد بمنطقة المقطم كساحة للتعذيب. تقول سورة «الجمعة» من القرآن الكريم: «فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِى الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (صدق الله العظيم). فهل كان ذلك التعذيب تقربا إلى الله!، أم أن صلاتهم لا «تنهى عن الفحشاء والمنكر»؟ أم أن تفسير القرآن الكريم اختلف بعدما صارت «الضحية» جلادا؟
مثل الجرائم التى ارتكبت أمام «الاتحادية»، لم يقم النائب العام ــ المعين بالمخالفة للدستور والقانون ــ بالتحقيق أيضا فى جرائم التعذيب التى جرت فى المقطم، حتى ولو من منظور أنها تشكل «ازدراء للإسلام» بفعل مادى، وليس «بالكلام»، مثلما نسب للإعلامى الشهير باسم يوسف وآخرين.
فى هذا السياق، عندما يهدد رئيس الجمهورية فى خطابه فى 6 أبريل بالسودان، بأنه يعتزم شن «ثورة ثانية» لتحقيق أهداف ما يسميه «مشروع النهضة». فإن السؤال الذى يطرح نفسه هو طبيعة هذه «الثورة الثانية»، التى يمكن أن تنجح فيما فشلت فيه جرائم القمع اليومى الأمنى والتشريعى فى إزاحة معرقلى «مشروع النهضة»؟ أهو وعد بثورة أم بمذبحة؟
فى الدفاع عن «الجلادين»
قضيت نصف عمرى تقريبا فى الدفاع عن حقوق الإنسان، أغلبه كان للدفاع عن الحقوق الإنسانية للإسلاميين فى مصر والعالم العربى، بمن فى ذلك الإرهابيون المشتبه فيهم. لم تساورنى الأوهام لحظة، حول طبيعة التوجه الفاشى لكثير ممن دافعت عن حقوقهم الإنسانية ــ سواء كانوا أعضاء فى الجماعات الموصوفة بالاعتدال أو التطرف ــ بل ربما كنت متأكدا أن بعضهم على الأرجح قد ارتكبوا جرائم القتل المنسوبة لهم أو كانوا طرفا فيها. ولكنى كنت مثل غيرى من الحقوقيين فى جميع أنحاء العالم، ندافع عن مثل عليا وقيم ومبادئ تعلو فوق الاعتبارات السياسية والميول الشخصية، وفى أن يعامل كل إنسان ــ حتى لو كان مجرما وقاتلا ــ المعاملة الجديرة بالبشر.
كان الموقف من الدفاع عن الحقوق الإنسانية للمشتبه فى أنهم إرهابيون ــ أى مرتكبى جرائم ضد حقوق الإنسان ــ أو محرضين على ارتكابها، أحد أبرز عناصر الخلاف الداخلى فى المنظمة المصرية لحقوق الإنسان فى الثمانينيات. كان أغلبية مجلس أمناء المنظمة لا يرغب فى التعامل مع هذه الحالات باعتبارها انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن يقتصر دور المنظمة على انتهاكات حريات التعبير والاعتقاد وحقوق المرأة والأقليات.. وغيرها. كنت على رأس الأقلية المعترضة على ذلك، وعندما أجرى المجلس تشاورا ديمقراطيا مع أعضاء المنظمة فى منتصف عام 1988، رجحت أغلبية ساحقة من الأعضاء (أغلبهم من العلمانيين) رأى الأقلية فى مجلس الأمناء. وبناء على ذلك انتخب مجلس الأمناء كاتب المقال أمينا عاما للمنظمة.
كان ذلك الدفاع المتواصل عن الإسلاميين مصدر توتر دائم مع النظام الحاكم فى مصر وأجهزته الأمنية، وبلغ أحيانا الصدام المباشر. كان ذلك أحد أهم أسباب رفض التسجيل القانونى للمنظمة الحقوقية الأم فى مصر لسبعة عشر عاما 1985 ــ 2002، قضيت منها 5 أعوام (88 ــ 1993) أمينا عاما لها. بعد انتقالى إلى مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان فى عام 1994 دعا أحد أبرز مستشارى رئيس الجمهورية لاجتماع خاص بمكتبه عددا من منظمات حقوق الإنسان، بينها مركز القاهرة. كانت الرسالة الرئيسية ــ إن لم تكن الوحيدة ــ هى مطالبة المنظمات الحقوقية بالتوقف عما اعتبره دعم هذه المنظمات للإسلاميين.
لم يكن هناك إسلامى واحد فى الاجتماع أو فى مجلس إدارة أى من المنظمات المشاركة فى الاجتماع ــ كانوا كلهم من العلمانيين، وبينهم منظمة متخصصة فى الدفاع عن حقوق الأقباط ــ ومع ذلك كان الموقف المشترك بينهم جميعا هو رفض رسالة رئيس الجمهورية. بل ومحاولة إقناع مستشاره بأن ما تفعله هذه المنظمات هو دفاع عن الحقوق الإنسانية، وأن ذلك لا يعنى دعما سياسيا لها، حتى لو كانت الجماعات الإسلامية توظف بطريقة أو بأخرى هذا الدعم الأخلاقى، فى حشد الدعم السياسى لها محليا ودوليا.
فى عام 2006 ساهمت بفصل اخترت له عنوان الدفاع عن الإسلاميين واجب أخلاقى، فى كتاب صدر بالانجليزية فى الولايات المتحدة الأمريكية عن حقوق الإنسان فى العالم العربى، ناقشت فيه دوافعى كحقوقى فى القيام بذلك، برغم أننى أوضحت تفصيلا شكوكى العميقة حول إمكانية تطور اتجاه ــ وليس فقط أفراد ــ ديمقراطى مناصر لحقوق الإنسان بشكل متماسك داخل هذا الجيل من جماعات الإسلام السياسى بمصر، مقارنة بما جرى من تفاعلات إيجابية داخل التيار اليسارى والناصرى فى ذلك الوقت.
الجلاد يتخلى عن قناع «الضحية» مبكرًا
لذلك لم أتفاجأ بالوجه القمعى الفاشى المعادى لقيم حقوق الإنسان والديمقراطية لجماعة الإخوان المسلمين وبعض مناصريها من جماعات الإسلام السياسى الأخرى. ولكننى فوجئت بسرعة بروز وجه «الجلاد» خلال فترة زمنية قصيرة للغاية.
سبق أن تناول فرانز فانون وآخرون الصيرورة التى تتحول من خلالها الضحية إلى جلاد، ولكن ما حدث مع هذه الجماعات هو أمر مختلف، إنه ليس تحولا، ولكنه تخلى الجلاد الحقيقى عن قناع «الضحية» المؤقت. ما كنت ألاحظه قبل «ثورة 25 يناير»، أن «الضحية» تعجز فى كثير من الأحيان عن إخفاء ملامح الجلاد تحت جلدها، حتى خلال الساعات التى كنت أقضيها مستمعا ومحققا وموثقا لشهادات زملاء ومحامى «الضحايا»، بل كانت بعض العبارات تحمل تهديدا مبطنا لا يحتمل التأويل لى شخصيا! ولذلك فإن السرعة التى تخلى بها الجلاد عن قناع «الضحية»، هو ما فاجأنى.
تفاجأت أيضا أنه بعد شهور قليلة من وصول «الضحية» للحكم، أنها تتنكر علنا لمنظمات حقوق الإنسان التى دافعت عنها، بل وتعيد إنتاج ــ دون أدنى خجل ــ ذات خطاب «جلادها» نظام مبارك فى الهجوم على منظمات المجتمع المدنى «كأدوات محتملة فى يد المال الأجنبى»! قبل الثورة لم تكن قيادات جماعات الإسلام السياسى ترفض فضح منظمات حقوق الإنسان المصرية لجرائم حقوق الإنسان فى المحافل الدولية، أو انتقادات دول الغرب لهذه الجرائم.
ولكن بعد أن صار «الضحية» جلادا، يعتبر الإخوان المسلمون ذلك تدخلا فى الشئون الداخلية!. لم يكونوا يرفضون الإنفاق فى الدفاع عن ضحاياهم من مصادر أجنبية، بما فى ذلك كوب الماء أو الشاى الذى يشربونه فى الاجتماعات التى شاركوا أو تحدثوا فيها. فى إحدى هذه الندوات العامة، قال أحد أبرز قياداتهم ــ وهو عضو فى برلمان 2005ــ أنه احتج لدى فتحى سرور رئيس مجلس الشعب السابق، لأنه لم يوزع على الأعضاء مذكرة موجهة من مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إلى أعضاء مجلس الشعب. الاحتجاج كان بالطبع لأن أحد موضوعات هذه المذكرة كان فى صالح جماعة الإخوان المسلمين. ولكن بعد أن صارت «الضحية» جلادا، تقول قيادات الجماعة فى اجتماع مع إحدى المنظمات الدولية، أن مصر بعد الثورة لم تعد بحاجة لمنظمات للدفاع عن حقوق الإنسان. هذا موقف منطقى للغاية، فالجلادون يبذلون أفضل ما فى وسعهم لتجنب مراقبة جرائمهم، ورفع صوت ضحاياهم فى داخل البلاد وخارجها.
هذه أيضا نقطة التقاء مهمة، وأحد أهم ركائز التحالف الدموى الجديد بين جماعة الإخوان المسلمين، وأحد أجنحة المؤسسة الأمنية، الذى يتطلع للانتقام من الثورة ومنظمات حقوق الإنسان بأى ثمن، حتى لو كان من خلال التحالف مع الخصم اللدود الذى كان يطارده لنحو قرن من الزمان. واقع الأمر أن مشروع القانون القمعى الجديد للجمعيات الأهلية هو أحد ثمار هذا الزواج. ليس الندم هو ما أشعر به، ولو عاد بى الزمان سأفعل ما فعلت دون تردد. إنه شعور بالأسف لهم، وبالاحتقار للمستوى الذى يمكن أن تنحدر إليه «أخلاقيات» البشر.
المقال منشور في جريدة الشروق 12 أبريل 2013
Share this Post