بقلم د. محمد السيد سعيد – الأهرام
ذهبت رايس وجاء تشيني للمنطقة، وخلال الشهور القليلة المقبلة سيأتي ويذهب ساسة أمريكيون من مختلف المقادير والأقدار، أغلبهم سيأتي برسالة محددة أنقذوا جورج بوش من ورطته في العراق أو غطوا ظهره عندما يضطر للانسحاب، وسوف يردفون أو يرجفون بكلمة وإلا. يمكنهم أن يهددوا لأن جورج بوش الابن سوف يبقى على الأرجح في الحكم لعام ونصف إضافية يستطيع فيها أن يسبب مزيدًا من الدمار بالمنطقة، ولكن هل تكفي أية تهديدات أو لغة ابتزاز أخرى لإقناع الحلفاء العرب بإنقاذه بالفعل؟
إذا افترضنا العقلانية في اتخاذ القرار فلدى القادة العرب أسباب كثيرة لرفض إنقاذ جورج بوش من ورطة العراق، ويكفينا هنا أن نركز على أربعة أسباب:
فأولاً لم يتوج جورج بوش أعناق القادة العرب بأي جميل ليردوه له وقت الحاجة، فقد رفض بعناد أن يقوم بأي شيء يهدئ ثورة الرأي العام العربي ضد السياسات الأمريكية المتحيزة تحيزًا كاملا لإسرائيل، حتى وهي تقوم بشن حروب بشعة ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وهو ما ضاعف حرج الحلفاء العرب للولايات المتحدة وكرس عزلتهم أمام شعوبهم الغاضبة.
أنه لم يكتف بالتحيز الكامل لإسرائيل بل ودفعها لشن حربين إجراميتين ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني.
وبدلاً من أن يقلل حرج حلفائه العرب شدد من ضغوطه علي المنطقة بما يدفعها للانفجار وللتطرف بما يهز شرعيتهم واستقرارهم في الحكم، وامتدت ضغوطه ضد المنطقة من الشعوب إلى الحكومات الحليفة ذاتها.
فهو اتخذ قرار غزو العراق وفي ذهنه تهديد بقاء هؤلاء القادة أنفسهم في مقاعدهم، وهو لم يخف هدفه في تهديد حتى أقرب حلفائه بل أعلنه صراحةً أثناء التحضير للغزو بحديثه البائس عن العراق كنموذج للديمقراطية التي يريدها في كل دول المنطقة ثم إنه كرر هذا التهديد بلغة فجة وعلي لسان وزيرة خارجيته التي أطلقت شعار الشرق الأوسط الكبير ثم شعار الفوضى الخلاقة وشرحت هذا الشعار الأخير بأن قالت أن الولايات المتحدة ضد بقاء الأمر الواقع وهو ما يعني بقاء هؤلاء القادة في الحكم ولو كان البديل هو الفوضى!
أما السبب الثاني فهو أن ما يريده جورج بوش من الحلفاء العرب ليس أقل من ارتكاب حماقة استراتيجية رهيبة تشبه الانتحار، فهو يريدهم أن يدعموا خطته الأمنية الجديدة في العراق في الأمد المنظور، وفي حالة فشل هذه الخطة واضطر للانسحاب أو إعادة نشر قواته يريدهم أن يقوموا بدور سياسي وعسكري مباشر في العراق كبديل لقوات الاحتلال الأمريكية ومتعددة الجنسيات، ثم إنه يريد أن يزج بهم في حرب باردة أو ساخنة ضد إيران بترويج دعاية ساذجة عن الصراع بين السنة والشيعة أو الصراع بين العرب والفرس!
وبينما يجب أن يدافع العرب عن مصالحهم السياسية والاستراتيجية في العراق فإن الاندفاع لمواجهات سياسية وعسكرية مع إيران يمثل كارثة حقيقية للمنطقة أو مستنقعًا لا يقل شقاءً عن الكارثة التي تواجه الأمريكيين أنفسهم في هذه المنطقة المنكوبة بالحروب، فإذا اندفع القادة العرب لفتح صراع كبير مع إيران كما فعل صدام حسين من قبل، فلن يمكنهم إغلاقه بسهولة وهو ينزف بلادهم وشعوبهم لفترة غير محددة من الزمن دون أن يكون لديهم هدف واضح وواقعي وجدير بتضحيات لا محدودة، وسوف يكون لهذا القرار قوة قتل ثلاثية: فتح حرب مع إيران وفي الداخل العراقي ومع الرأي العام الذي لابد أن يستغرب التقرب من إسرائيل التي تحتل أرضًا عربية في الوقت الذي يتجه فيه القادة العرب لإشعال خصومة مع إيران التي تنادي بتحرير هذه الأراضي!
وليس هناك أي عاقل يمكنه أن يدفع هذه الضريبة الباهظة من أجل إنقاذ جورج بوش من ورطته في العراق ومع إيران.
ثم إن هناك سببًا ثالثًا وهو أن السيناريو العكسي أفضل للقادة العرب حتى فيما يتعلق بعلاقاتهم مع الولايات المتحدة، ما نعنيه بالسيناريو العكسي لذلك الذي يدفعهم إليه جورج بوش ويأتي لترويجه نائبه تشيني ومساعدوه الآخرون بين وقت وآخر وهو التفاهم المباشر لصياغة حلول وسط مع إيران، سواء فيما يتعلق بالعراق أو بالعلاقات العربية الإيرانية عمومًا.
يتفوق سيناريو التفاهم مع إيران بوضوح تام لأسباب كثيرة، فبين العرب وإيران روابط دينية وحضارية لا حصر لها، والتفاهم معها يقوي المكانة السياسية والاستراتيجية للعرب والإيرانيين في وقت تتضاعف فيه التوترات السياسية والثقافية بين المنطقة والعالم الغربي، ويكفي أن يبدأ نوع ما من التفاهم بين العرب والإيرانيين لكي تبدأ مختلف مناطق العالم في التعامل باحترام مع مصالح المنطقة وشعوبها بما في ذلك احترام حقوق ومصالح العرب والمسلمين في فلسطين المحتلة، بل أن سياسة التفاهم البنَّاء مع إيران يمكن أن تساعد القادة العرب علي تحسين وضعهم ومكانتهم مع الولايات المتحدة ذاتها، فهم لن يكونوا بحاجة للولايات المتحدة من أجل حمايتهم من خصم إقليمي قوي، والأهم أنه سيكون بوسع القادة العرب أن يتفاوضوا بأنفسهم مع الولايات المتحدة وبقية القوي العالمية المهمة حول بناء نظام فعال لإرساء السلام العادل في المنطقة.
لاشك أن المنطقة تحتاج بشدة لنظام سياسي جديد يتعامل بواقعية وبروح القانون مع التحديات الثقافية والاجتماعية والأمنية الكبيرة التي تواجهها على أن يؤسس هذا النظام من داخل المنطقة وعلى أكتاف أهلها ومن أجل مصالحهم المشتركة ومصالح السلام العالمي، ولم يكن لدى جورج بوش من تصور سوى إشعال الحروب في هذه المنطقة وهو ما فاقم مشكلاتها ودفع شبابها للتطرف وللقطيعة مع العالم، بل وليس لدى الأمريكيين عمومًا أي مشروع بديل للمنطقة بعد فشل مشروعهم المدمر في العراق، وعندما سيضطرون للانسحاب من العراق فلن يمكنهم تطويق خسائرهم السياسية والاستراتيجية في العراق وحده، فالمرجح أن يتعرض كل المعمار الاستراتيجي الذي أسسوه بمناسبة العدوان العسكري علي أفغانستان والعراق للانهيار بما في ذلك نفوذهم القديم في العراق ونفوذهم المستجد في الجمهوريات الإسلامية جنوب روسيا، والواقع أنه ليس لدى إدارة بوش أية أطروحة لإعادة بناء النظام الإقليمي، والأعجب أنه قد لا يكون بوسع الأمريكيين حتى بعد أن يغادر جورج بوش البيت الأبيض طرح تصور أو مشروع بنَّاء لأمن المنطقة، ومن المحتمل أن تؤدي عقد العراق بالأمريكيين إلى ترك المنطقة نهبًا للفوضى مثلما فعلوا في جنوب شرق آسيا بعد الانسحاب من فيتنام.
وسوف يمنح هذا الوضع للقادة العرب فرصة فريدة للمبادرة بطرح أفكار جديدة وخلاقة لبناء نظام إقليمي يُنهي الفراغ الاستراتيجي والفوضى السياسية التي عاشتها المنطقة منذ الاستقلال، ويُعزز هذا الطرح مكانة القادة العرب بالضرورة لدي الولايات المتحدة والقوي الدولية الأخرى حتى لو قام هذا الطرح علي التفاهم مع إيران، فالطريقة الأفضل لبناء نظام إقليمي فعال وعادل هي تلك التي تضمن توازن المصالح وتتعامل بواقعية مع مختلف الفاعلين المؤثرين على أمن المنطقة وتطورها السياسي والثقافي وعلى رأسهم العرب وجيرانهم الإقليميون خاصةً إيران وتركيا.
سبب رابع وأخير لرفض إنقاذ جورج بوش وهو سبب بديهي للغاية وهو أنه سيغادر البيت الأبيض لا محالة وغير مأسوف عليه من غالبية الأمريكيين الذين أدركوا أنه سبب ورطتهم العجيبة في العراق بل وسبب وضع نهاية أسرع مما تصور أحد للهيمنة الأُحادية الأمريكية في المنطقة وفي العالم.
الاختيار العاقل أمام القادة العرب ليس إنقاذ جورج بوش وإنما إنقاذ المنطقة من الفوضى والظلم والتطرف بطرح مبادرة واقعية لبناء نظام يحقق السلام للمنطقة ويؤمن توازن المصالح المشروعة لكل الأطراف والقوى المهتمة بالاستقرار فيها.
Share this Post