في الثاني عشر من شهر فبراير الماضي، اعتمد مجلس وزراء الإعلام العرب وثيقة بعنوان “مبادئ تنظيم البث والاستقبال الإذاعي والتليفزيوني الفضائي في المنطقة العربية”، وقد خلقت الوثيقة جدلاً في الدوائر الإعلامية والصحفية والحقوقية؛ إذ اعتبرتها العديد من المنظمات غير الحكومية والمراكز البحثية ذات الصلة، بمثابة إعلان رسمي عن افتقاد الإرادة السياسية، في الدول أعضاء جامعة الدول العربية التي أيدت الوثيقة، للرغبة الجدية في الإصلاح وفي توفير مناخ داعم لحرية الرأي والتعبير. ويظهر في نصوص الوثيقة وبنودها أنها تستهدف بالدرجة الأولى منح غطاء قومي وأخلاقي زائف لتقليص هامش الحرية الذي تمتعت به وسائط البث في عدد من البلدان العربية، تحت تأثير ثورة الاتصالات والمعلومات، أو نتيجة للضغوط الخارجية وأشكال الحراك المجتمعي من أجل الديمقراطية.
جدير بالذكر أن هذه الوثيقة صدرت بمبادرة من الحكومة المصرية التي تشهد فيها الحريات الإعلامية تدهورا خطيرا، تمثلت أبرز مظاهره في أحكام السجن التي تتهدد خمسة من رؤساء تحرير الصحف الحزبية والمستقلة دفعة واحدة، بخلاف مئات الدعاوى القضائية بحق الصحفيين التي ما تزال محل نظر من قبل المحاكم أو جهات التحقيق، فضلا عن حملات التحريض على الصحافة والفضائيات، التي يشارك فيها مسئولون ووسائل إعلام حكومية، تحت دعوى الخروج عن أخلاقيات المهنة والإساءة إلى سمعة مصر، بسبب ما تنشره أو تبثه حول تجاوزات الشرطة بحق المواطنين ووقائع التعذيب. كما لا يخلو من دلالة أيضا أن ينضم لهذه المبادرة الملكة السعودية، التي تمارس سطوتها ونفوذها ليس فقط على الوسائط الإعلامية داخل المملكة، بل على العديد من وسائط الإعلام في المنطقة العربية.
ويؤكد مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في هذا الإطار أن أية قواعد وثيقة الصلة بأخلاقيات العمل الصحفي والإعلامي ينبغي أن تستمد من المشتغلين بالمهنة ومؤسساتهم النقابية، كما ينبغي أن توكل مهمة تقييم الأداء الإعلامي ومدى التزامه بمواثيق الشرف المهنية إلى هيئات تتمتع بالاستقلال والنزاهة، ولا تخضع لنفوذ الحكومات. ويلاحظ المركز أن الوثيقة تطلق يد الحكومات في استصدار ما يعن لها من تشريعات لإعمال المبادئ والقواعد التي تضمنتها الوثيقة، واعتماد ما تراه من تدابير بحق الوسائط الإعلامية، التي تخرق هذه القواعد، بما في ذلك مصادرة أجهزة البث وسحب أو وقف أو إلغاء تراخيص البث.
وعلى حين يروج أصحاب هذه المبادرة إلى أنها تستهدف الارتقاء بالأداء الإعلامي، وحماية القيم الأخلاقية والتصدي لدعاوى الجهل وإشاعة الخرافة والدجل، فإن هدفها الأسمى يتبدى في تحصين النظم العربية وسياساتها وممارساتها ورموزها من النقد والحيلولة دون مناقشة المشكلات الكبرى التي تعانيها المجتمعات العربية، والتي تجعلها أكثر مناطق العالم تخلفا.
ومن ثم لم يكن غريبا أن الوثيقة رغم ادعائها الالتزام باحترام حرية التعبير، بوصفها ركيزة أساسية من ركائز العمل الإعلامي العربي، فإنها سرعان ما تبادر إلى التملص من هذا الالتزام بالتأكيد على أن “تمارس هذه الحرية بمسئولية بما من شأنه تعزيز المصالح العليا للدول العربية”. ومن ثم فقد استدعت الوثيقة كافة التعبيرات الإنشائية غير المنضبطة، التي تحفل بها التشريعات العربية والتي اعتادت الحكومات توظيفها دوما لمصادرة الحريات الإعلامية وحرية التعبير. مثل “الامتناع عن بث كل ما يتعارض مع توجهات التضامن العربي، واحترام كرامة الدول وسيادتها الوطنية، وعدم تناول قادتها أو رموزها الوطنية والدينية بالتجريح”، وغيرها من العبارات المطاطة المماثلة. ويخشى مركز القاهرة “أن تكون بنود الوثيقة تهدف بالأساس إلى إحكام السيطرة على البرامج الحوارية والوثائقية التي تسلط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان و الديمقراطية في الدول العربية” .
وقد فرضت هذه الوثيقة تعبيرات مطاطة تخضع للتأويل الحكومي مثل نقد الحكام والقادة الدينيين فيما أشارت إليه بـ “عدم تناول القادة أو الرموز الوطنية والدينية بالتجريح” وبالطبع لا تحدد الوثيقة الحدود الفاصلة بين النقد والتجريح، بما يصادر حق النقد المباح، كما لم تفصح بوضوح ما هي معايير تحديد هؤلاء الرموز، وهو ما يهدد بملاحقة الإعلاميين الجادين ويحرمهم من ممارسة دورهم الرقابي الذي تكفله الدساتير والمواثيق الدولية.
كما ألزمت الوثيقة هيئات البث الإذاعي والتلفزيوني بإخضاع محتويات البرامج للجنة مختصة بالرقابة بدعوى فرض جداول زمنية للبرامج، وحماية الأطفال من المواد الإعلامية غير المناسبة، وهو ما يسمح بالطبع بتدخل الرقابة في محتوى ما يتم بثه من برامج ، لا ترضى عنها هذه الحكومات.
وقد أصدرت الحكومتين المصرية والمغربية، عقب إعلان الوثيقة، عدة قرارات بحق عدد من القنوات الفضائية، ويبدي المركز تخوفه من أن تكون الحكومتين في إصداراهما لهذه القرارات قد استلهمتا بنود الوثيقة. فقد قامت إدارة القمر الصناعي المصري “نايل سات”، وهي تتبع الحكومة المصرية، بإيقاف بث ثلاث قنوات فضائية هي الحوار والحكمة والبركة على القمر الصناعي دونما مبررات. هذا قبل تواصل الجهات الحكومية المصرية تضييق الخناق على العمل الإعلامي، حيث قامت أجهزة الأمن المصرية في 16 أبريل 2008، باقتحام شركة القاهرة للأخبار وصادرت خمسة أجهزة مخصصة للبث المباشر، وقد أقدمت الأجهزة الأمنية على هذه الخطوة دونما أسباب قانونية واضحة، إضافة إلى أن تحقيقاتها لم تسفر عن وجود مخالفات تستدعي اتخاذ إجراء مصادرة الأجهزة ومعدات البث المباشر التي تأجرها الشركة لنحو 40 مكتب لمحطات وقنوات فضائية تعمل بمصر، وهو ما يعني إصرار الحكومة المصرية على إحكام المزيد من السيطرة على العمل الإعلامي.
كما قامت سلطات المملكة المغربية في 6 مايو 2008، بمنع بث نشرة الجزيرة المغاربية التي تبث من الرباط يوميا عبر قناة الجزيرة القطرية. حيث فاجأت السلطات المغربية مكتب قناة الجزيرة في الرباط، بتعليمات وجهها المدير التقني للوكالة الوطنية المغربية لتقنين الاتصالات إلى مدير شبكة الجزيرة أعلن فيها إلغاء التراخيص المتعلقة باستغلال المحطة الأرضية المحمولة وجهاز البث عبر الأقمار الصناعية وكل تجهيزات البث المثبتة على سيارة الإرسال، ودون إبداء أسباب واضحة. كما اكتفى المتحدث الرسمي باسم الحكومة المغربية بالتأكيد على أن الأمر تقني محض! وإذ يدرك مركز القاهرة أن الطريق ما يزال طويلا أمام الانتقال لأن يجسد قطاع الإعلام السمعي والمرئي في المنطقة العربية، المعايير المتعارف عليها في المجتمعات الديمقراطية، لضمان حرية وتعددية واستقلالية البث الإعلامي؛ فإنه يدعو عبر المجلس الأممي لحقوق الإنسان إلى تضافر مختلف جهود أجهزة الأمم المتحدة، لحفز الحكومات العربية على تبني حزمة التوصيات التالية، والتي تشكل أساسا مشتركا لتعزيز الحريات الإعلامية،
وفي مقدمتها:
- مراجعة كافة النصوص التشريعية غير المنضبطة التي تفتح بابا واسعا لتجريم الرأي والنشر وتداول المعلومات عن طريق النشر أو البث.
- إعادة النظر في مختلف القيود التشريعية التي تقف عائقًا أمام حرية تداول المعلومات والنفاذ إليها، والتي تصادر حق المواطنين في المعرفة.
- تعزيز حق الإعلاميين في التمتع بمظلة الحماية النقابية، ومنح الإعلاميين الدور الأكبر في إعداد ومراقبة الالتزام بمواثيق الشرف الأخلاقية.
- إنهاء سيطرة الحكومات واحتكارها لمجال البث العام، بما يضمن تحول هذا القطاع لمؤسسات خدمة عامة للجمهور، تتمتع بالاستقلالية على مستوى الإدارة والتمويل والبرامج، وبما يضمن إدارة هذا القطاع وفقا لاعتبارات المصلحة العامة للمجتمع، وبما يلبي ميول والاحتياجات المتنوعة للجمهور في مجتمع تعددي.
- إخضاع إدارة وتنظيم قطاع البث السمعي والبصري إلى مجالس أو هيئات تنظيمية تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، ويخضع اختيار أعضائها للأسس الديمقراطية، واعتبارات الكفاءة والخبرة. وتؤول إلى هذه الهيئات صلاحيات منح تراخيص البث، وفقا لمعايير الشفافية والعلنية. على أن يخضع عمل وقرارات هذه الهيئات لمراقبة الشعب، فضلا عن مراقبة القضاء.
Share this Post