تعرب المنظمات الحقوقية الموقعة أدناه عن استنكارها وادانتها العميقة لحملة التشهير المتصاعدة بحق مؤسسات المجتمع المدنى ومنظمات حقوق الإنسان وعدد من الجماعات السياسية المستقلة. وتدين هذه المنظمات استمرار حملات التشهير المنظم التى تطعن فى مقاصدها الوطنية، مثلما تدين أيضاً محاولات الترهيب الموجهة ضد منظمات المجتمع المدنى فى الوقت الراهن، من خلال الإعلان عن تحقيقات تجريها نيابة أمن الدولة فى بلاغات تتهم بالجملة منظمات أهلية وجماعات سياسية لم يفصح عن هويتها، بالحصول على أموال ومنح خارجية بالمخالفة للقانون. كما تستهجن فى ذات الوقت سياسات التلاعب الإعلامى التى تمارسها السلطات بشأن التحقيقات الجارية حول الاتهامات التى يجرى الترويج لها، بشأن جمعيات أو جماعات سياسية متهمة بتلقى أموال أمريكية، من دون تحديد أسماء هذه الجمعيات أو الجماعات السياسية، فى الوقت الذى يتأكد فيه أن هذه الأموال قد تم منح القسط الأعظم منها إلى مؤسسات أمريكية تمارس عملها بصورة رسمية وعلنية داخل مصر.
وقد وصل الأمر حد إطلاق اتهامات بالجملة “بالخيانة العظمى” بحق هذه المنظمات والجماعات المصرية التى لم يفصح عن أسمائها تحديداً. ويستلفت الانتباه، أن هذا النمط من الاتهامات لم يجرؤ نظام الرئيس المخلوع مبارك على إشهارها فى مواجهة خصومه السياسيين، أو فى مواجهة المنظمات التى تصدت بشجاعة لجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في عهده.
وأيا كان بؤس الاتهامات الجديدة، فإنه من اللافت للنظر أن لجوء القائمين على إدارة شئون البلاد بعد ثورة 25 يناير، إلى ذات الوسائل التى كان يتبعها نظام مبارك فى مواجهه منتقديه، يكشف عن ضيق المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالانتقادات التى توجه إليه، سواء فيما يتعلق بكيفية إدارة المسار السياسى للمرحلة الانتقالية، أو ما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التى يتحمل مسئوليتها. ويتصدر هذه الانتهاكات المحاكمات العسكرية الاستثنائية -التى فاق ضحاياها خلال الشهور الستة الماضية مجمل ضحايا المحاكمات الاستثنائية خلال ثلاثين عاماً من حكم الرئيس المخلوع- واستخدام القضاء العسكري للتنكيل بشباب الثورة، ممن تجاسروا على انتقاد سياسات المجلس العسكري. فضلاً عن تواصل ممارسات التعذيب داخل مراكز الاحتجاز التى تديرها الشرطة العسكرية، والتي دخلت طورا غير مسبوق، عبر تعريض الناشطات السياسيات لأنماط من الاعتداء الجنسي، بإجبارهن على الخضوع لفحوص طبية للكشف عن عذريتهن!، وكذلك استخدام القوة المفرطة فى مناسبات عده لفض اعتصامات بعض الجماعات السياسية وأهالى شهداء ثورة 25 يناير.
إنها جرائم حقوق الإنسان وليس التمويل الأجنبي:
إن جوهر الخلاف بين منظمات حقوق الإنسان ونظام مبارك أو المجلس العسكري لم يكن التمويل الأجنبي، ولكنه بسبب المواقف النقدية الصارمة التي اتخذتها وتتخذها هذه المنظمات إزاء جرائم حقوق الإنسان قبل وبعد 25 يناير. فالتمويل الأجنبي لا تحظره الدولة لمؤسساتها وأجهزتها، ولا للمجالس التابعة لها في حقوق الإنسان أو المرأة أو الطفل. كما لا يثير حساسيتها أن تتلقى آلاف الجمعيات المعنية بالتنمية، أو النشاط الخيري منحا أجنبية، ذلك لأن جل أنشطة هذه المؤسسات لا يقوم على التقييم النقدي المتواتر لأداء أجهزة الدولة ومؤسساتها في مجال حقوق الإنسان. ومن ثم فإن التمويل الأجنبي لم يكن يوما سببا للصدام بين الدولة في عهد مبارك أو بعده مع هذه المؤسسات. ولكن تم استخدامه في عهد مبارك وبعده كأداة لحصار وخنق منظمات حقوق الإنسان، سواء من خلال محاولة تقويض مكانتها الأدبية في المجتمع، أو باللجوء التعسفي لأدوات قانونية لحظر أنشطة معينة -وخاصة في مجال التعذيب ومراقبة الانتخابات مثلما حدث في عهد مبارك- عن طريق قطع الطريق على تمويلها.
وفي هذا السياق يمكن تفسير لماذا قامت الشرطة العسكرية – بمصاحبة مباحث أمن الدولة والبلطجية – باقتحام مركز هشام مبارك للقانون في 3 فبراير الماضي، أي في اليوم التالي “لموقعة الجمل”، والقبض على عدد من المحامين، على رأسهم مؤسسه المحامي المعروف أحمد سيف الإسلام، وإيداعهم أحد المعسكرات. وكذلك القبض على باحثين لمنظمتي هيومان رايتس ووتش والعفو الدولية، كانوا مجتمعين في المركز، الذي كان يشكل حينذاك غرفة عمليات مشتركة لمنظمات حقوق الإنسان المصرية تحمل اسم “جبهة الدفاع عن متظاهري مصر”.
جدير بالملاحظة، أنه بينما كانت الشرطة العسكرية تلقي القبض في الطابق العلوي على المحامين والباحثين، كان بقية البلطجية يهتفون أمام باب المبنى متوعدين “الخونة والعملاء”. في ذلك الوقت (3 فبراير 2011) كان مبارك مازال رئيسا، ولكن هذه الهتافات هى نفسها التي ترددها أبواق حملة التشهير الحكومية بعد 6 شهور من خلعه.
هذا الموقف العدائي للمجلس العسكري تجاه منظمات حقوق الإنسان قبل رحيل مبارك، لم يتغير بعد رحيله. ولذا يمكن أيضا تفسير لماذا كانت منظمات حقوق الإنسان المصرية هى الطرف الوحيد الذي لم يدعه المجلس العسكري لأي مشاورات منذ رحيل مبارك. وعندما اجتمع أحد أعضاء المجلس مؤخرا بممثلين عن جماعة “لا للمحاكمات العسكرية”، فإن الصحيفة التي جرؤت على نشر خبر عن الاجتماع، استدعي رئيس تحريرها وكذلك الصحفية معدة الخبر للتحقيق أمام النيابة العسكرية.
إن استخدام ذريعة “الأمن القومي” لتقييد منظمات حقوق الإنسان، وتمويل أنشطتها، ليس اختراعا جديدا بادر به مبارك أو من ورثوه، فهذا ما تتبعه كل الأنظمة التسلطية، بل إن إسرائيل استخدمت هذه الذريعة، لفرض قيود قانونية على التمويل الأجنبي – وأغلبه من مصادر أمريكية أو يهودية من خارج إسرائيل – لمنظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية، بعد أن تعاونت هذه المنظمات مع الخبير الدولي ريتشارد جولدستون (يهودي) في وضع تقريره الشهير للأمم المتحدة، الذي طالب بتقديم إسرائيل للمحكمة الجنائية الدولية، بسبب الجرائم التي ارتكبتها خلال عدوانها على غزة “عملية الرصاص المصبوب” حينذاك، وجرى اتهام هذه المنظمات بـ “الخيانة” أيضا!.
نحو سياسة جديدة:
بناء على ذلك تطالب المنظمات الموقعة السلطات المختصة بما يلي:
1- الوقف الفوري لإحالة المدنيين إلى محاكم عسكرية، أو هيئات تحقيق ذات طابع استثنائي، وإعادة محاكمة المسجونين بأحكام صادرة عن هذه المحاكم أمام القضاء الطبيعي، والإفراج الفوري عن سجناء الرأي وإسقاط الأحكام الصادرة بحقهم.
2- التحقيق في كل ممارسات التعذيب التي ارتكبتها الشرطة العسكرية، بما في ذلك ممارسات الاعتداء الجنسي على النساء وتقديم كل المسئولين عنها للمحاكمة.
3- التزام السلطات المختصة في فترة الانتقال، وعلى رأسها المجلس العسكري ومجلس الوزراء، بالرد أولا بأول على شكاوى وتقارير منظمات حقوق الإنسان، وإعلان ذلك في تقرير دوري للرأي العام.
4- الوقف الفوري لحملة التشهير الحكومية بالجملة ضد منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية. كما تدعو المنظمات الموقعة أدناه كل القوى المتطلعة لتحول ديمقراطى حقيقى يلبى تطلعات وتضحيات المصريين، للتصدى الحازم لتلك الحملة، التى تستهدف بالدرجة الأولى تقويض المكتسبات التى انتزعها المصريون فى مجال حرية التنظيم السياسى أو النقابى أو الأهلى فى السنوات الأخيرة، رغماً عن ترسانة القوانين القمعية، التى كانت تسعى خلال حقبة مبارك إلى تكريس مختلف أشكال الوصاية والهيمنة على مؤسسات المجتمع المدنى والأحزاب السياسية. وتنوه المنظمات الموقعة في هذا السياق بالبيان الذي أصدره الحزب الديمقراطي الاجتماعي المصري. كما تشيد أيضا بالسلوك النموذجي الذي يتبعه وزير القوى العامة د.أحمد البرعي في التشاور مع منظمات حقوق الإنسان المعنية، وأخذ توصياتها بعين الاعتبار.
5- إقالة فايزة أبو النجا وزيرة التعاون الدولي، وجودة عبد الخالق وزير التضامن الاجتماعي، نظرا لموقفهما المعادي لمنظمات المجتمع المدني، ودورهما النشيط في السعي لتقييد نشاطها، وخضوعهما لتوجيهات أجهزة الأمن.
6- إحالة اختصاص العلاقة بمنظمات المجتمع المدني إلى نائب رئيس الوزراء المسئول عن عملية الانتقال الديمقراطي.
وأخيراً، فإن منظمات حقوق الإنسان التى اختبر الكثيرون صلابتها وشجاعتها فى مواجهة قمع مبارك/العادلي، وفى مواجهه حملات تشهير مماثلة انخرطت فيها أحيانا بعض أفراد من المعارضة الرسمية التى كانت تدور فى فلك الحزب الحاكم والأجهزة الأمنية فى ذلك الوقت، تتشبث بحقها فى التنظيم المستقل، وفي تنمية مواردها بصورة تمكنها من أداء رسالتها.
كما تتمسك أيضا بحقها في استثمار آليات التعاون الدولي في تعزيز حقوق الإنسان في مصر، بما في ذلك الدخول في شراكات وتلقي منح خارجية تستجيب لأهداف وأنشطة الحركة الحقوقية، وفقا للأولويات التي تحددها المؤسسات الحقوقية في ضوء تحليلها للواقع السياسي والاجتماعي على المستوى الوطني. وتشدد المنظمات الموقعة على أن تقييم أداء المؤسسات الحقوقية بصورة موضوعية ينبغي أن ينطلق من تقييم أنشطتها ومدى حاجة المجتمع لتلك الأنشطة.
وتؤكد المنظمات الموقعة استمرارها فى النضال من أجل تحرير كل أشكال تنظيم العمل الأهلى من مختلف أشكال الوصاية والتسلط الحكومى، وفى العمل على بناء التحالفات مع مختلف القوى الديمقراطية من أجل تبنى قانون ديمقراطى ينحاز للمعايير الدولية التى تحمى حرية التنظيم، ويغل يد جهة الإدارة وأجهزة الأمن عن فرض الوصاية والرقابة المسبقة على تأسيس الجمعيات الأهلية وعلى ممارستها لأنشطتها، وفى ذات الوقت يؤمن قواعد النزاهة والشفافية والمسائلة والمحاسبية عبر الدور الرقابى الذى تمارسه الجمعيات العمومية لهذه المؤسسات ومجالس إداراتها، على أن يكون للرقابة القضائية اللاحقة الفصل فى أيه مطاعن قد تحيط بأداء أي مؤسسة مجتمع مدنى.
وقد قررت المنظمات الموقعة وضع مسألة الهجوم على منظمات المجتمع المدني على رأس جدول أعمالها، وتشكيل لجان مشتركة للمتابعة، وإجراء المشاورات مع الهيئات الدولية ذات الصلة، وتقديم شكوى عاجلة إلى كل من:
• مكتب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان
• مقرر الأمم المتحدة الخاص بالحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات
• مقرر الأمم المتحدة الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان
• مقرر الأمم المتحدة الخاص بحرية التعبير
• والمقرر الخاص بالمدافعين عن حقوق الإنسان باللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب
المنظمات الموقعة
Share this Post